لست مصابة بمرض عضال! [ 107 ]
لم يكن الأمر كمثل ما حدث مع رافاييل الذي لم يفلح سوى في إحداث جرح سطحي.
سيف ساينف شق جسد بيلا بسهولة كأنه يقطع ورقة هشة، فانقسمت إلى نصفين في لحظة، ومن دون أن يخرج منها حتى صرخة.
نهاية باهتة حدّ العدم.
‘ما الذي يحدث بحق السماء…؟’
شعرت لويسا بالدوار، غير متأكدة إن كانت ترى ما يجري حقاً.
كيف لساينف أن يقضي على بيلا بضربة واحدة، وهي التي لم يستطع رافاييل نفسه إنهاءها؟
ولماذا جسد بيلا، الذي توقعت أن يتمزق بشكل مروّع، تلاشى في الحال كأنه وحل يذوب؟
كل شيء كان لغزاً.
غطّى القاعة صمت موحش انسكب فجأة كأمطار غزيرة. دام للحظة قصيرة، ولم يجرؤ أحد على التحرك أو الرد.
لم يفعلوا سوى التحديق في البركة السوداء اللزجة التي تجمّعت على الأرض، كأن جسدها لم يكن صلباً منذ البداية بل مجرد كتلة هلامية.
‘هكذا تموت؟ بيلا؟’
لم تكن لويسا تتصور أن مشهدها الأخير سيكون وجهها الاسود يتلوى بالألم وهي تنهار إلى الأرض وتذوب.
أن تنقلب فجأة إلى وحش، ثم لا تترك حتى جثة واضحة، وتموت هكذا…
رغم كلماتها الغامضة عن رغبتها في أن تصبح إنسانة، انتهت حياتها من دون أن تكون إنسانة، ولا وحشاً، ولا أي كيان كامل.
مصير بائس إلى أقصى حد.
رنّ صوت سقوط السيف فوق ذلك الوحل الأسود.
“هذا….”
ارتفعت الأبصار جميعاً نحو ساينف صاحب السيف.
كان يحدّق بالأرض، ثم رفع نظره ببطء.
“لم أقصد… لم أدرك نفسي.”
قالها بوجه متجهم، متصنع الحرج وهو يطوف بنظره من حوله.
لكن عينَيه الزرقاوين الغارقتين في العتمة كانت تلمع بريقاً غريباً لا ينسجم مع قناع الحيرة المرتسم على وجهه.
‘…أهو مجنون؟ إن أمره مريب أكثر مما ينبغي.’
تقلصت ملامح لويسا. لوهلة شعرت كأن عينيه التقتا بعينيها، فثقل الهواء من حولها.
***
لم يبقَ أثر للرطوبة الثقيلة، بل تسللت نسائم عليلة من نافذة مشرعة.
اهتزت خصلات لويسا الأمامية قليلاً، لكن عينيها الشاردتين ظلتا ساكنتين.
“آنستي؟”
ارتجفت للحظة حين أحست بلمسة خفيفة على ذراعها، فرمشت بعينيها.
عاد البريق إلى عينيها البنفسجيتين الفاتحتين، لتقع نظراتها على ماري التي كانت تحدق بها بقلق.
“آه…!”
“لم تجيبي منذ قليل، هل أنتِ بخير؟”
“آه… نعم.”
“هل جلستِ هنا منذ الصباح؟ ألا تؤلمكِ ظهركِ؟”
“ظننت أنني جلست قليلاً فقط، لكن… آه؟”
اتسعت عينا لويسا حين التفتت نحو النافذة لتفلت من نظرات ماري القلقة.
“قليلاً؟ لقد صار وقت الغداء. واليوم حتى استيقظتِ باكراً.”
“أوه… لم أشعر بمرور الوقت.”
فمنذ عودتها من الكنيسة بعد أن شهدت نهاية بيلا، بقيت على تلك الحال.
يوم واحد حمل من الأحداث ما يفوق الاحتمال، ولم يُحلّ منه شيء. بل تراكمت القضايا التي ينبغي التعامل معها.
غرقت في أفكارها حتى عجزت عن النوم، وبقيت تتقلب حتى انبثق الفجر.
وحين أشرقت الشمس جلست للحظة إلى الطاولة… فإذا بتلك اللحظة تمتد حتى الظهيرة.
“هل أنتِ بخير حقاً؟ ولي العهد الأول حضر الآن، هل أبلغه أنكِ متعبة ولا تستطيعين مقابلته؟”
“ولي العهد الأول؟”
“نعم. جئتُ لأخبرك لكنكِ لم تجيبي، فخشيت أن تكوني مريضة واقتحمت الغرفة من تلقاء نفسي. أرجو عفوكِ.”
“لا بأس. أهو في قاعة الاستقبال؟”
نهضت لويسا مباشرة كأنها ستنزل إليه حالاً.
فارتبكت ماري وحاولت اعتراض طريقها قبل أن تصل إلى الباب.
“لا يا آنسة!”
“لماذا؟”
“عليكِ تبديل ثوبكِ أولاً!”
“آه…”
رمقتها لويسا بدهشة، ثم خفضت نظرها إلى نفسها.
‘صحيح… أنا ما زلت بملابس النوم.’
وكان فستانها الخفيف الشفاف يفضح أكثر مما يستر، خاصة تحت أشعة الشمس الساطعة.
فأغمضت عينيها بقوة.
كادت أن ترتكب خطأ فادحاً.
***
دفعت لويسا باب قاعة الاستقبال سريعاً.
كانت تفهم رغبة ماري في تزيينها، لكن الوقت لا يسمح.
فبعد أن جُرّ كبير ااكهنة بيدال إلى السجن وماتت بيلا، لا بد أن رافاييل مثقل بالأعمال، فمجيئه في هذا الوقت بالذات يعني أن لديه أمراً جللاً.
كان واقفاً أمام النافذة الكبيرة ويكتسيه ضوء الشمس الذهبي.
وحين التفت ببطء، خطف لمعان شعره الذي بدا كذرات الذهب المتلألئة بصرها لبرهة.
ثم أذابها بابتسامة هادئة رسمت تقوساً دافئاً في عينيه.
“لويسا.”
ناداها بصوت منخفض عميق.
رمشت بعينيها مرتين سريعاً.
“هل نمتِ جيداً؟ كيف حال جسدكِ؟”
كادت لويسا أن تضحك، ناسـية ذهولها السابق.
هذا الرجل الذي كان يبدو أكثر من أي أحد آخر هادئًا ومتماسكًا، ها هو الآن يلقي عليها الأسئلة في عجلة، فكان ذلك غريبًا لكنه بعث في قلبها سرورًا عجيبًا.
فمنذ الأمس كان صدرها ضيقًا وقلبها مثقلًا، لكن لمجرد رؤيته شعرت أن كل ذلك ينجلي عنها. وكأنها تنفست الصعداء.
“أنا بخير.”
“تقولين مجددًا إنك بخير. أنتِ دومًا ترددين هذا وحسب.”
كان عتابه لطيفًا ممتزجًا بقلق واضح.
ترددت لويسا قليلًا قبل أن تبوح ببطء:
“في الحقيقة… لم أستطع النوم جيدًا.”
جلسها رافاييل أولًا على الأريكة، ثم جلس بجانبها بملامح جادة وقد تقلص ما بين حاجبيه.
“إذًا، أليس عليكِ أن تنامي الآن؟”
“سأنتظر حتى المساء، لا أشعر بالنعاس أصلًا.”
“سمعت أيضًا أنكِ لم تتناولي طعامك، لماذا لا تعتنين بنفسك؟”
“آه… صحيح. لكن، من أين عرفتَ ذلك؟”
“سألتُ خادمتكِ. بعد ما جرى أمس، شعرتُ بالقلق فسألتها عن أمور كثيرة.”
“لكنني عدتُ فورًا إلى البيت لأرتاح. المتعب حقًا هو أنت يا رافاييل، لا بد أنك مشغول للغاية، فما الذي جاء بك إلى هنا؟ أهناك أمر مهم لتبلغه لي؟”
هزّ رافاييل رأسه برفق.
“أتيتُ فقط لأني قلقتُ عليكِ. وقد أنجزتُ ما كان عاجلًا من الأعمال، فلدي وقت فراغ.”
“لا تقل إنك قضيت الليل ساهرًا تعمل؟”
“ذلك أمر معتاد عندنا. في أثناء مطاردة الوحوش قد نسهر أيامًا، فلا بأس عليّ.”
“مع ذلك…”
“أردتُ أن أتناول الطعام معكِ. فلا أستطيع أن آكل شيئًا ما لم أطمئن إليكِ.”
كانت مجرد كلمات، لكنها تسللت دافئة إلى أعماقها.
شعرت كأنها جالسة أمام مدفأة متقدة في شتاء قارس، وقد نسيت معها زمهرير البرد.
وكانت عيناه الزرقاوان تتلألآن.
لطالما ظنّت أنهما جميلتان فحسب، لكنها الآن تبينت بوضوح أن بريق المودة يشعّ منهما.
كان إحساسًا مختلفًا تمامًا عن ذلك الذي شعرت به مع الدوق بليك أو مع ديميان؛ عاطفة أثقل وأعمق بكثير.
امتدت يد لويسا من غير وعي نحو رافاييلل.
ارتجف طرف أصابعها قليلًا وهو يلامس حافة عينيه الطويلتين، وما إن مست رموشه حتى أغمض عينيه في هدوء مستسلم، كأنه يسلّم لها أمره.
منجذبة إلى ذلك السكون، انسابت يدها على وجنته حتى خصلت إلى خده.
كان جماله البارد كتمثال ينبض بدفء حي، وبشرته الناعمة تحت ضوء النهار، وشفاهه بلون المرجان تنثر أنفاسًا دافئة…
“آه…”
ارتعشت وهي تدرك أن أصابعها لامست طرف شفتيه، فرفّت عيناها في ذهول.
‘ما الذي أفعله؟! هذا ليس وقتًا مناسبًا إطلاقًا…’
ارتبكت لويسا وأسرعت بسحب يدها وهي تخفض رأسها، فوقع بصرها على شيء لم تدركه من قبل.
ماذا؟ متى أمسكتُ بيده؟! أوه… كنتُ ممسكة بها منذ البداية؟’
أبصرت يدها لا تزال في قبضته، كما كان حين رافقها لتجلس.
حدقت فيها بارتباك، ثم أزاحت نظرها جانبًا متجاهلة.
“ألم تتابعي؟”
“ماذا؟”
“يمكنكِ لمس مكان آخر أيضًا.”
‘ما الذي يقوله هذا الرجل! لو سمع أحدهم لأساء الظن!’
رفعت رأسها بغتة تحدّق فيه بانفعال، تنوي أن تزجره بنظرة، لكنها وجدته لا يزال مغمض العينين بهدوء، فخرج صوتها مضطربًا:
“لا! أنا بخير فعلًا.”
ارتجف جفناه قليلًا قبل أن يرتفعا ببطء، كبحر أزرق عند المغيب، وفي أعماق عينيه بريق غريب ساخن.
“ها أنتِ تقولينها مجددًا.”
“عفوًا؟”
“العبارة التي سمعتها منكِ أكثر من أي شيء آخر ‘أنا بخير’.”
لم تردّ لويسا على الفور، بل ارتسمت على وجهها ابتسامة متكلفة.
في السابق لم تكن تبالي بما يقوله، أما الآن فكل كلمة منه صارت تهزّها.
وكانت تعرف السبب في أعماقها، لكنّها تذرعت بانشغالها لتتهرب من التفكير فيه، وأدارت وجهها قليلًا متجنبة نظره.
“آه… تذكرت. ماذا عن تحقيقك مع كبير الكهنة بيدال؟”
“سيُعزل من منصبه. لكن لا أحد يعرف بأي صورة ستكون نهايته.”
ابتسم رافاييل بخفة كأنه يساير رغبتها في تغيير الموضوع، لكن في ابتسامته تلك كان يكمن برود قاسٍ لا يناسب فحوى كلامه.
“لقد ضبط متلبسًا بأعمال تخالف العقيدة، ومؤشرات على نفيه سلطة الكاردينال، بل والاتصال بالإمبراطورة، فالأدلة كافية.”
“هذا جيد. إذًا… ماذا عن الإمبراطورة؟”
“الأداة السحرية التي سلمتِني إياها ساعدتنا كثيرًا. والتسجيلات التي احتوتها تكفي لإدانتها ومحاصرتها. غير أن…”
توقف قليلًا مترددًا.
نظرت إليه لويسا بتساؤل، فالتقت عيناه بعينيها وفيهما صراع قصير، قبل أن يحسم أمره قائلاً:
“اختفت أخبار الإمبراطورة. لا أحد يعرف أين هي.”
****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 107"