“لكنك أنت من استبعدني بحجة أن القديسة يجب أن تكون واحدة فقط، وأن القوة لا يجوز أن تُقسَم. وقلت إن من شأن منح هذا المنصب لابنة بيتٍ عظيم أن يضع بين يديهم سلطة مفرطة…”
صرخ بيدال غاضبًا:
“أي هراء هذا! متى زعمتُ أنا شيئًا كهذا؟ أهناك دليل؟”
ابتسمت لويسا بتهكّم خفي:
“دليل؟ ولماذا يلزمني دليل؟”
“ماذا؟! وكيف لا يلزم؟ إن كان مجرد كلام، فكيف نميّز بين الحقيقة والافتراء؟!”
تطلعت لويسا إليه بثبات، فيما بدا عليه وكأنها تنظر إلى مشهد يثير السخرية.
خيّم صمت غريب لبرهة.
ثم انتبه بيدال متأخرًا إلى فداحة الموقف، فارتبك، وتوقف عن الحركة في وضع شاذ، قبل أن يتلعثم.
قالت لويسا ببرود وقد اختفى التعبير عن وجهها:
“إذن يا سيادة الكاهن، هل تملك أدلّة كافية على هذه الشبهات التي تزعمونها؟”
“ذلك…!”
قاطعت كلامه بحزم:
“إن لم تقدّموا ولو دليلاً واحدًا راسخًا، فسأرفع شكوى رسمية إلى الكنيسة الكبرى، وأطالب بعزلِك واتخاذ إجراءات قانونية بحقك. فأنت تجرّأت حتى على الزجّ باسم الرب، أليس من الواجب إذن أن يُكشف الحق واضحًا جليًّا؟”
بُهت بيدال واتسعت عيناه، ثم ارتسم على وجهه حُمرة قانية امتدت حتى قمة رأسه، ولم يستطع أن ينطق بكلمة، سوى أن يفتح فمه ويطبقه باضطراب.
حينها تقدّم أحدهم وقال بأدب:
“أعتذر عن تدخلي. أنا بيث غيير، قائد الحرس الإمبراطوري. اسمحوا لي أن أوضح موقف الكاهن الأكبر… إن القضايا المطروحة لا تزال في حدود الشبهات، ولا دليل حاسم فيها بعد، ولذا فهي مجرد تحقيق للتأكد من الحقيقة. لكن إجراءات التحقيق تقتضي قطع أي اتصال خارجي طوال مدته، ولهذا اضطر الكاهن إلى إعلان الأمر على الملأ.”
‘بهذا وحده لا يمكن خنق بيت بليك.’
كانت لويسا تعي أن وصفه الأمر بالتحقيق البسيط لا يُغيّر من حقيقة أنه إن استُغِلّت فترة العزلة، فقد تقع الكارثة إن استغلت الإمبراطورة ذلك بدهاء.
ولم يكن بوسعها أن توافق بسهولة.
فالتفتت نحو قائد الحرس بوجهٍ متردّد لم تخرج منه إجابة بعد.
وفيما همّت أن تتبين موقف الدوق بليك وديميان، شدّها همس خافت من بين الناس.
“صحيح أنها ليست أدلة قاطعة… لكن الأمر مريب فعلًا، أليس هو آخر من أنفرد بجلالته؟”
“هس! لا تجاهر بهذا.”
“لكن حقًّا، المسألة قد تدخل طورًا جديدًا. ألا يقال إنها مخطوبة لولي العهد الأول؟ وهناك شائعة عن رغبته في خلافة العرش فجأة… آه، كدت أتفوّه بما لا ينبغي.”
‘ها هم يتظاهرون بالتحفظ بعد أن فرغوا من بث السموم!’
فكّرت لويسا بغيظ وهي ترمش بعينيها وتتمعّن بالحشد.
رأت أن الدوق بليك وديميان يكظمان الغيظ في صمت وكأنهما ينتظران اختيارها هي.
ورافاييل الواقف مع جانب الإمبراطورة، لم يزح بصره عنها بوجهٍ ثابت مماثل.
أما الكاردينال فظل واقفًا ساكنًا كتمثال من حجر، محتفظًا بابتسامته الوديعة.
‘يبدو أنهم ينتظرون مبادرتي بعد أن أمسكتُ بيد الدوق. لكن آن الأوان أن يتحرك غيري. إن صخب الناس يتصاعد شيئًا فشيئًا.’
ابتسمت بمرارة في خاطرها:
‘حتى موت الإمبراطور صار في المؤخرة، وكأن لا شأن له.’
كان الجو العام يتمايل خلسة لمصلحة الإمبراطورة، وكأن هناك من دسّ بين الحضور ألسنةً تسعّر الاتهامات حيثما أرادت.
قررت لويسا التدخل، ففتحت فمها لتخاطب قائد الحرس.
“عجيب! أيُقال إن بيت بليك نال امتيازات، بينما هم دائمًا من يتصدرون المخاطر؟”
لكنها فوجئت بصوت آخر يعلو قبل أن تكمل.
التفتت برأسها إلى مصدره، وعرفت فورًا:
‘تلك المرأة…!’
إنها التي رأتها في مهرجان الصيد، يوم توسلت إليها راجية أن تُنقذ خطيبها الملوّث بالسحر الاسود.
لم تستطع لويسا أن تنسى وجهها، واسمها كان مانويلي كيتلين، التي دأبت بعد ذلك على مراسلتها.
قالت مانويلي بصوتٍ قوي:
“على الأقل، في مهرجان الصيد، كانت هي من أسعفت الجرحى بنفسها. بل حتى القديسة ترددت يومها، وهي من طهّرت الجميع ثم سقطت من الإنهاك. هل نسيتم تضحيتها؟”
أجاب آخر:
“صحيح. أذكر أن حالتها بدت مزرية في ذلك اليوم.”
وأضاف رجل أسود الشعر وهو يمسك بيد مانويلي ويومئ:
“لولاها، لما كنت حيًّا اليوم. كيف يُقال عن من ضحّت بنفسها من أجل الآخرين أنها أنانية؟”
وتابع آخر:
“حتى في الشرق، سمعت أنها طهّرت الفرسان المقدسين. وهناك شائعات أن القديسة نفسها رفضت التطهير.”
“أجل، هذه الشبهات واهية حقًّا. ثم إن الشمال بؤرة الوحوش، والجميع يعلم أن من يحميه وحيدًا هو الدوق بليك.”
“على حد علمي، لم يكن بيت بليك يلجأ أصلًا لمعونة الكنيسة، فكيف يُقال إنه متواطئ مع الكاردينال؟ الأمر غريب فعلًا.”
أدركت لويسا أنه لم يعد عليها أن تتدخل بنفسها.
فمع مانويلي، بدأت الكفّة تميل ثانية لصالحها.
ولأن تهمهم لم تستند إلى أدلة، فكلما طال النقاش، كلما ضعف موقفهم. إذ كيف يُثبت الكذب؟
وتيبّست ملامح وجه الإمبراطورة، بعدما كانت تخفيها خلف قناعٍ من الرزانة.
أما بيدال فبدا كمن تاه، يدير رأسه يمينًا وشمالًا عاجزًا عن الرد.
حينها ارتفع صوت من الحشد:
“إن صدّقنا كل ما قيل، أليس الأولى أن تجيب القديسة بيلا بنفسها عن هذه الأسئلة؟ ولماذا تنكص عن أداء رسالتها في كل لحظة حاسمة؟”
قال آخر مؤيدًا:
“أتفق معك. لولا تدخل الآنسة لويسا، لكانت وقعت مجازر مروّعة. فلتُبيّن لنا القديسة إذن سبب تهرّبها من مسؤولياتها!”
“صدقت. واليوم بالذات، ألم تتغيب عن الحضور؟”
“بل لعلها هي من ينال الامتيازات الحقيقية!”
تعالت الأصوات مشبعة بالغضب.
وللمرة الأولى، وجد الناس متنفسًا للهجوم على القديسة، بعدما كانوا يكتمون استياءهم خشية الكنيسة.
تأججت القاعة حتى بدا وكأن الجميع نسي سبب الاجتماع الأصلي.
وبينما علت المطالب برؤية القديسة، التفتت الإمبراطورة ببرود نحو بيدال وقالت:
“أيها الكاهن الأكبر، اضبط المجلس حالًا.”
قال متلعثمًا:
“آه… القديسة… لقد بقيت تصلي حتى ساعة متأخرة من الليل، وفي الفجر انهارت، فلم تتمكن من الحضور.”
هنا فقط، قطع رافاييل صمته الطويل وسأل بصرامة:
“وأين هي الآن؟”
“بطبيعة الحال، في مسكنها تستريح… لا تقوى على النهوض، على كلٍّ، تغيّبها اليوم إنّما لظرف طارئ…”
“أهذا صحيح حقًّا؟”
نبرة هادئة، غير أنّها حُملت بقوّة غريبة. فما إن نطق رافاييل، حتى انقطع بيدآل عن الكلام وهو يرمش بعينيه بوجه متلبّك.
“إنّ ما أعلمه يختلف عمّا تذكر.”
“نعم؟! وما الذي تقصده بأنّه مختلف…؟”
بدأ العرق البارد يتصبّب على وجه بيدال، فيما رافاييل يحدّق فيه من علٍ، قبل أن يحوّل ببطء نظره إلى الكاردينال:
“يا صاحب السماحة، أيسمح لي مقامك بالكلام؟”
اختفت البسمة الدائمة عن محيّا الكاردينال، وأطبق جفنيه على نور عينيه في خشوع، وهو يتمتم بكلمات قصيرة كأنّه يناجي بها، ثم ما لبث أن فتح عينيه من جديد:
“لا يسعني أن أبقى صامتًا في هذه المسألة أيضًا.”
كانت بداية تنذر بالخطر.
أخذ الكاهن الاكبر بيدآل يمسح عرقه المتساقط بوجل، متمنّيًا لو أن تلك الشفاه تُطبق ولا تنطق.
“…كنت أرغب في أن يكون هذا يومَ عزاءٍ صامت، نخفّف فيه من أحزان الناس، غير أنّ الأحوال لا تساعد. كان لزامًا أن تحضر القدّيسة، لكن حالًا قاهرًا حال دون مشاركتها.”
غير أنّ ما خرج من فمه كشف أنّه مطّلع على مكانها.
تقاطع بصر الإمبراطورة وبيدآل في لحظة خاطفة، فيما محيّا ساينف، الذي ظلّ يتابع المشهد ببرود مسلّي، بدأ يفقد ابتسامته شيئًا فشيئًا.
“القدّيسة… الآن في السجن.”
ما عادت القاعة لتعرف السكون. ضجّة عارمة انفجرت، وملأت المكان صخبًا خانقًا.
“ماذا؟! في السجن؟!”
“لكن… لِمَ تكون القدّيسة في السجن؟! إذن ماذا عن كلام الكاهن الاكبر قبل قليل؟! أتراه كان كذبًا؟!”
رمقت لويسا الإمبراطورة والكاهن الاكبر بيدآل بعينين ثابتتين لا تفوّت أيّ تفصيلة: الإمبراطورة وقد انكمشت حاجباها في انفعال، فاقدةً برودها المعهود، والكاهن الاكبر الذي أخذ يتقهقر إلى الخلف تحت وقع استهجان الناس.
‘تلك الصورة لا بدّ من نقشها في الذاكرة إلى الأبد.’
ابتسمت لويسا ساخرًا في سرّها، قبل أن ينزلق بصرها إلى رافاييل.
فقد كان يتقدّم بخطوات ثابتة، كأنّه قد أعدّ نفسه منذ البدء نحو الباب البنيّ القابع إلى جانب المذبح.
توقّف أمامه، ثم دار مقبض الباب.
“تَك.”
صوت فتح القفل لم يكن عاليًا، لكنّه اخترق الضوضاء كلّها وانغرز في الأسماع.
وما هي إلا لحظة حتى اتّجهت كلّ الأبصار كأنّها على موعدٍ واحد إلى هناك.
وما إن انفتح الباب حتى ظهرت بيلا واقفة خلفه، يقيّدها فارسان من جانبيها، في ثوبٍ من القيود يشلّ حركتها تمامًا.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 104"