تقدّم ساينف، الذي كان واقفًا بهدوء بجوار الإمبراطورة خطوةً إلى الأمام.
لقد تلاشت أجواؤه المعتادة الخفيفة، فوقف معتدل القامة مشدود الظهر، وهو يحدّق بتحفّز في الدوق بليك.
قال بنبرة صارمة:
“قدّموا دليلًا قاطعًا قبل أن تتكلّموا. لا تلقوا باتهاماتٍ واهية لمجرد الطعن في سمعتي.”
فأجاب الدوق بصوت بارد:
“……إذن إن جاء شاهد ذو هوية مؤكدة ليدلي بشهادته، فهل تراها شهادةً موثوقة؟”
توقفت الإمبراطورة الصامتة للحظة، ثم ارتسمت على شفتيها ابتسامة غامضة تحت الحجاب الأسود.
بعد ذلك حرّكت رأسها ببطء نحو جماعة الكهنة الذين كانوا يرقبون المشهد في حيرة.
قالت بصوت رخيم:
“أعلن أن بين بيت بليك وسماحة الكاردينال علاقة تواطؤ.”
وكأنما كان في انتظاره، خرج الكاهن الأكبر بيدال من بين الصفوف متقدّمًا بخطوات هادئة، وهو يتفوه بكلمات لا تُصدّق.
‘……هذا جنون!’
الذهول كان أكبر من أن يُترجم إلى رد فعل.
اكتفت لويسا برمش عينيها ببطء وهي تحدّق في بيدال، لكن معظم الأنظار لم تتعلق به، بل اتجهت إلى الكاردينال القائم عند المذبح.
ساد الصمت الكئيب أرجاء الكنيسة الكبرى.
لكن هذا الصمت انكسر حين رأى الناس الكاردينال يحافظ على ابتسامته الهادئة الرقيقة، كأن لا شيء يقلقه، فاستبدّ بهم الارتباك.
بدأ الهمس يتصاعد بينهم وهم يتلفتون ما بين الإمبراطورة والدوق بليك والكاهن بيدال والكاردينال.
قال بيدال وهو يقترب ببطء ليقف بجوار الإمبراطورة، حاجباه معقودان بأسى مصطنع، ويداه ممدودتان بتضرّع:
“أجل، أودّ أن أثق بالكاردينال كل الثقة. لكن الأمر جلل، ولا يمكن الحكم فيه بعاطفة شخصية. لقد كرّست حياتي للإله، ومن أجل طهارة كنيستنا ونزاهتها، أرجو أن تُكشف هذه الشبهة بجلاء.”
‘تافه حقًا.’
تمتمت لويسا في نفسها، وقمعت بصعوبة الرغبة في مقاطعته.
لو كان صادقًا لانتظر التحقيق والأدلة الحقيقية، لكنه لا يفعل سوى التلاعب بالكلمات ليضلّل الناس.
أردف بصوت يعلوه التمثيل:
“إنها قضية تخص الكنيسة والإمبراطورية. وحتى إن رُميتُ بالحجارة فلن أندم على ما فعلت.”
فتبسّمت الإمبراطورة وقالت:
“كلا، من ذا الذي يرمي حجرًا على من تحلّى بالشجاعة في سبيل الحق؟”
وهزّ بعض الحضور رؤوسهم مسحورين بحديثها.
“حقًا، كلامها صائب.”
“وكأن الأمر قُصد أن يُطرح علنًا.”
“ماذا؟ قُصد علنًا؟”
“أجل. كلما كان النبيل أرفع شأنًا، كان التحقيق أصعب. لهذا أعلنوه على الجميع لئلا يُطوى الأمر في الظل.”
“آه، الآن أفهم.”
“بلى. فإن صحّ الاتهام فهذه فضيحة صاخبة، وإن لم يصح، فستكون فرصة لبيت بليك كي يبرّئ نفسه من الشبهات العالقة به.”
وبدأ فريق من الحضور يميل إلى جانب الإمبراطورة وبيدال، يتبادلون الهمس بصوت يكفي ليُسمع من حولهم، ومع الوقت أخذت الأصوات المؤيدة تتكاثر.
“يا للعجب، أن يتدخل الكاهن الأكبر بنفسه! فما الذي يحدث؟! وحتى الكاردينال متورط؟”
“صحيح! لكن ما سبب هذا التواطؤ؟”
“ذاك… لم نسمعه بعد، أليس كذلك؟”
عادت كل الأنظار إلى بيدال، وقد امتلأت أعين الناس بتلهّف لفضيحة تلوكها الألسن.
عضّت لويزا على أسنانها.
هل تتدخل لوقفه فورًا؟
هل تستدعي القديسة الآن؟
اضطربت أنفاسها وهي تحاول الحفاظ على رباطة جأشها، فيما الأفكار تتزاحم في رأسها.
خطت خطوات بطيئة دون وعي منها، لكن يدًا رقيقة ربتت على ظهرها ثم ابتعدت.
التفتت…
‘……أبي؟’
لقد وقفت فجأة بجوار الدوق بليك.
كان وجهه خاليًا من أي تعبير، يحدّق في بيدال ببرود لا يُفهم، لا أثر فيه للعطف الذي بدا قبل قليل.
وسط جلبة الحاضرين كانا يبدوان كأنهما في عزلة تامة.
وأحسّت لويسا بالطمأنينة وهي ترى هدوءه الذي لم يشف عن خوف ولا توتر، بل أعاد إليها ثباتها المفقود.
عندها رفع بيدال صوته قائلًا بثقة متعمدة:
“أما الشبهة الأولى، فهي اكتشاف نفقٍ غامض في الشمال، وأُمر بكتمانه. في ذلك النفق كائنات أشدّ فتكًا من كل ما قاتلناه من وحوش، بل وجرى فيه تلويثٌ بالسحر الاسود.”
مع أن هذا يكرر كلام الإمبراطورة قبل قليل، إلا أن الناس أصغوا بفضول.
“والشبهة الثانية تتعلق بالآنسة لويسا بليك.”
“كيف تجرؤ─”
انبعث صوت منخفض حاد من الدوق بليك، مفعم بالرهبة كأنما يحمل نذر موت.
فسرعان ما أسكت الهمسات كلها.
قال ببطء قاتل:
“أية جرأةٍ تدفعك لأن تتفوّه باسمها بلسانك الدنيء؟”
ارتبك بيدال وتراجع نصف خطوة، محاولًا التبرير:
“إ، إنما قصدتُ أن أبدّد شكوك الناس! وكيف تصفني بالدنيء؟ أليس هذا أنسب وقت لتبرئة…”
لكنه قطع صوته وهو يبتلع شهقة خوف، إذ مدّ الدوق بليك يده إلى مقبض سيفه، ينبعث منه جوّ خانق يهدد بالانفجار.
فقفز قائد الحرس الإمبراطوري بينهما على الفور.
كانت لويسا قد رأته سابقًا في القصر.
قال بلطف جاد وهو يمد يده كمن يستوقف:
“مولاي الدوق، أرجوك لا تفعل. إن اشتدّت الأمور خرجت عن السيطرة.”
ثم أشار لييدال أيضًا أن يهدأ.
‘تمامًا كما توقعت… هذا ما تريده الإمبراطورة.’
أرادت أن تدفع الدوق للظهور كمتهورٍ عنيف، لتستغل صورته تلك في وصم بيت بليك، بغضّ النظر عن الحقائق.
أمسكت لويسا بذراع أبيها بخفة.
التفت إليها بعينيه البنفسجيتين المشتعلتين غضبًا، فهزّت رأسها قليلًا إشارةً أن يتوقف.
عندها خمدت ناره فجأة، وأرخى يده عن مقبض السيف.
تناهت إلى مسامعها أنفاس الارتياح من حولها، فحوّلت بصرها نحو بيدال.
قالت ببرود:
“غريب أن تركّز حديثك كله على الشمال. ألم تسمع أن النفق ذاته قد كُشف في الشرق أيضًا؟”
“الآن… كيف تجرئين على المقاطعة!”
ابتسمت باستهزاء:
“ولِمَ لا؟ فالشرق ليس استثناءً. وسيُجرى فيه تحقيق شامل، وسنكشف الحقيقة فيه أيضًا.”
كان بيدال الكاهن الأكبر يهمّ بالاعتراض متجهّم الوجه، لكنه ما لبث أن أغلق فمه عندما رآى الإمبراطورة ترفع يدها مانعةً إياه من الكلام.
غير أن صوتًا دوّى فجأة من خلفها:
“جلالة الإمبراطورة!”
لقد كان الماركيز لويس ديميتري، شقيق الإمبراطورة.
وبمجرد أن وقعت عينا لويسا على ملامحه المربكة، أدركت الأمر؛ يبدو أنّ حديث الإمبراطورة عن الشرق لم يبلغه أيضًا.
أيقنت لويسا أن الإمبراطورة مستعدة حتى للتخلي عن الشرق نفسه، فقط لتجد قيدًا يُكبّل بيت بليك.
قالت الإمبراطورة بصوت هادئ:
“إن بَرّأتم أنفسكم من الشبهات، ستزول المشكلة من جذورها. ليس عليكم سوى الخضوع للتحقيق لإثبات براءتكم. غير أن…”
وما إن تلاشت عبارتها حتى سارع الكاهن بيدال الذي كان يقف خلفها يهز رأسه موافقًا وهو يرمق لويسا إلى التقاط خيط الحديث ببراعة ككلبٍ مُدرَّب:
“لكن القضية هنا تختلف جوهريًّا عن الشمال! إذ إن لبيت بليك شبهة ثانية، وهذه الشبهة هي أنتِ يا آنسة لويسا!”
قالت لويسا ببرود:
“وأي شيءٍ فيّ مثير للريبة؟ أودّ سماع ذلك.”
ارتفع صوته متحمسًا:
“لو كانت قوتك بالفعل قوة تطهيرٍ مقدسة، لكان الكاردينال قد أعلنكِ قديسة في الحال! لكنّه لم يفعل، بل سمح بأن تُحمَّل القديسة بيلا وحدها عبء التضحية!”
ردّت لويسا بثبات:
“ماذا تعني بالتحمّل؟ في الشمال كما في الشرق، وحتى في مهرجان الصيد، كنتُ أنا من قام بالتطهير كلما داهم الخطر.”
صرخ بيدال متشنّجًا:
“وذلك لأن القديسة بيلا كانت قد أرهقت قواها باستمرار! لو أُعلنتِ أنتِ أيضًا قديسة، لكان العمل توزّع بعدل! بدلاً من أن تهملِي ما أُوتيتِ من نعمة وتتصرفي بأنانية!”
‘وكأنني كنت أسيء معاملة بيلا!’
كادت لويسا تضحك بسخرية، لكنها كبحت نفسها.
إن كانوا يريدون مجابهتها بمزاعم فارغة، فلتردّ عليهم بالمنطق ذاته.
قالت بنبرة متفاجئة:
“يا سيادة الكاهن الأكبر… ما الذي تقوله الآن؟”
ثم حدّقت فيه وقد تقلّص حاجباها بانزعاج:
“بل أنتَ من رفضتَ تعييني قديسة منذ البداية، أليس كذلك؟”
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 103"