غاص كاردييل في أفكاره للحظات، ثم عاد إلى تعابيره المعتادة الهادئة.
“……سأضع ذلك في ذهني. ما دمتِ قد قلتِ ذلك، سأبذل قصارى جهدي.”
“جيد، هذا يكفي.”
كان جوابًا يبعث على الاطمئنان حقًا.
مددت يدي لأربت على رأس ابني الأكبر، الذي طال قوامه فأصبح مصدر فخري، فترك رأسه بين يدي بهدوء كطفل كبير، وهذا بحد ذاته أشعرني بالرضا.
“بالمناسبة، أكان لقاؤك الأول بالأمير الإمبراطوري رافانيل؟”
“نعم، هكذا هو.”
كان التوقيت مثاليًا إذن.
ففي تلك اللحظة، وبينما أكمل الجميع استعدادات الرحيل، اقترب من بعيد رجل ضخم الجثة تتدلى خصلات شعره الأحمر الناري اللافتة.
“حسنًا إذن. ها هو الأمير الإمبراطوري قادم، تبادل معه التحية.”
اقترب الأمير رافانيل وهو ينفث أنفاسًا بيضاء في الهواء البارد، مرتديًا ثيابًا أنيقة رغم بواكير الفجر، دون أن يظهر على وجهه المتألق أي أثر للتعب. بل كان يبدو كمن يفيض بالحماس، مما يوحي بأن بعض جوانب طفولته ما زالت تسكنه.
“معالي الوصية، السيد جوزيف، أشكركما على تكبدكما عناء الوداع في هذا الفجر البارد المغطى بالصقيع.”
صافح السيد جوزيف ثم قبّل طرف يدي مُظهرًا احترامه، قبل أن يعبر عن امتنانه لقبولي طلبه المحرج بكل سرور، بأدب جعل ضميري يؤنبني قليلًا، إذ كنت أنوي استغلال هذا الأمر كفرصة لصالحي.
“لا شكر على واجب. بل إن دايرن هي من تشرف بدعوة الأمير الإمبراطوري. على أي حال، هذا ابني، دوق دايرن الصغير.”
“آه، سمعت عنك الكثير. أنا رافانيل أورديس كالانت، تشرفت بلقائك، يا دوق دايرن الصغير.”
“كاردييل دياك دايرن، تشرفت بلقائك، يا سمو الأمير.”
على أية حال، كاردييل نفسه يتمتع بقامة بارزة مقارنة بأقرانه، لكنه بدا صغيرًا جدًا إلى جانب الأمير رافانيل، الذي يفوق السيد جوزيف طولًا وضخامة.
“الرحلة إلى إمارة دايرن ستستغرق أكثر من عشرة أيام.”
بعد أن أنهيا تحيتهما، بدأت أشرح مسار الرحلة من العاصمة الإمبراطورية إلى إمارة دايرن.
“سنمر بمدن كبيرة وصغيرة في الطريق، لكن سيكون عليكم النوم في العربات بعض الليالي، مما قد يجعل الرحلة شاقة.”
“لا بأس بذلك. اعتدت التخييم مع سمو ولي العهد في مرات الصيد قرب العاصمة، ولا أتذمر من الطعام.”
أجاب الأمير رافانيل ببساطة ودون تكلف، وهو ما أعجبني حتى أفلتت مني ابتسامة فخر دون قصد.
“بالمناسبة، ربما سمعتم أنني سأبقى في العاصمة لأنهي بعض الأمور، ولن أتمكن من التوجه إلى الإمارة بعد شهر على الأقل.”
وربما يطول الأمر أكثر من ذلك.
“حتى ذلك الحين، سيتولى ابني، كاردييل، دوق دايرن الصغير، مسؤولية الاعتناء بسموكم. قد يكون غير معتاد على استقبال الضيوف الرفيعي المستوى، فأرجو تفهم أي تقصير.”
“أنا أيضًا لم أُدعَ إلى إمارة أخرى من قبل، فقد أرتكب أخطاء أو أتصرف بوقاحة دون قصد. عندها، أرجو أن تؤنبوني بصرامة دون النظر إلى مكانتي.”
أضفت إجابة الأمير رافانيل اللبقة مزيدًا من الدفء إلى الحوار الذي تبادلناه بعد ذلك لبضع كلمات. لم تكن الأجواء سيئة على الإطلاق.
كاردييل، كعادته، قليل التعبير، لكن طيبة الأمير رافانيل جعلت كل شيء يسير بسلاسة.
رائع. شعرت أنهما قد يصبحان صديقين مقربين. كم تمنيت لو كان يوفيمينا وتشيلسيان، اللذان ينعسان في العربة، موجودين هنا.
“أمي، يبدو أن استعدادات الرحيل اكتملت.”
“يبدو الأمر كذلك.”
لم يمضِ وقت طويل حتى أنهى الوفد المتجه إلى دايرن استعداداته.
عانقت كاردييل مرة أخيرة وهو يصعد إلى العربة.
“احذر من البرد، وانتبه للطرق المتجمدة. احترم كلام السيد سيرجي والمعلم إرنستين، واعتنِ بأخويك جيدًا. لا تفوت وجبة، ولا تعرض نفسك للخطر، وبالأخص، لا تتحرك بمفردك أبدًا، مفهوم؟ الأولوية الأولى السلامة، والثانية السلامة، والثالثة الصحة.”
“……أمي، أنا لن أذهب إلى ساحة معركة.”
“آخر حرب وقعت قبل أكثر من ثلاثمائة عام، فلماذا تقولين شيئًا مخيفًا كهذا؟”
كان مضحكًا أن وداعي استغرق أطول وقت في عملية الاستعداد. ولم تغادر قافلة العربات نحو دايرن إلا عندما بدأ الضوء يتسلل إلى السماء.
ظللت أرقب طويلاً تلك السلسلة الطويلة من العربات وهي تتلاشى خلف ضباب فجر الشتاء، حتى…
“……”
“……”
عاد الصمت المحرج ليخيم بيني وبين السيد جوزيف المتبقي معي.
* * *
هُفّ. على أية حال، ابتلعت في تلك اللحظة تنهيدة ارتياح خفية.
“عندما سألني كاردييل عما حدث، شعرت بالذعر حقًا.”
إظهار الخلافات بين الأوصياء للأبناء ليس جيدًا لهم عاطفيًا.
لذا، رأيت أنه من الأفضل أن أكون مع السيد جوزيف في وداع الأطفال، حتى لو كان ذلك يسبب لي بعض الإزعاج.
كنت أظن أنني أحسنت التصرف. بقيت إلى جانب السيد جوزيف طوال الوقت، وحافظت على تعابيري دون أي هفوة.
لكن أن يلاحظ مجرد تجنبي لعينيه! لا أدري لماذا هو بهذه الحدة في الملاحظة.
“على أي حال، يمكنني العودة الآن، أليس كذلك؟”
بعد الوداع، بدا أن مهمتي انتهت. حاولت الالتفاف بسرعة للهروب من هذا الموقف المحرج، أو بالأحرى، كدت أفعل.
“سيدتي.”
“آه، يا للروعة…!”
…كاد قلبي يتوقف.
صوت منخفض مثير للدوار سقط فجأة فوق رأسي.
ما الذي يريده مني؟ شعرت بقطرات العرق البارد تنزلق على قفاي.
“عذرًا، هل أفزعتكِ؟”
“……كدت أُفزع، لكنني لم أفعل.”
كلماتي التي اندفعت دون تفكير بدت وقحة حتى في نظري.
ولكن، كما هو متوقع، لم تنطلِ على السيد جوزيف.
“يبدو أنكِ فزعتِ حقًا. جسدكِ متصلب تمامًا الآن، حتى هنا…”
“……!”
كفّه القوية لفت كتفي. قبل أن أتمكن من الارتجاف أو الرفض، بدأ يدلك كتفي برفق.
“ما هذا!”
“انظري، ألا تشعرين بتيبس العضلات؟”
“بسبب البرد، هذا بسبب البرد!”
“وحتى نظراتكِ، ألا تتجنبينني عمدًا؟”
“ذلك أيضًا لأن الصقيع جعل الأرض زلقة. أخفض عيني لأمشي بحذر حتى لا أنزلق.”
“آه.”
كانت أعذاري هزيلة لدرجة أنني تساءلت عن مدى سوء مهاراتي في الارتجال.
لكن السيد جوزيف لم يسخر من تلك الحجج الصبيانية أو ينتقدها. بدلاً من ذلك…
“حقًا؟ حسنًا، الوقت مبكر جدًا. إذن، لندخل ونتحدث.”
أدارني السيد جوزيف من كتفي بلا اكتراث، بل وغطاني بطرف عباءته وسحبني معه.
في لحظة، وجدت نفسي متشابكة معه كعاشقين، في وضع محرج للغاية خشيت أن يراه أحد.
“يا إلهي…!”
“هكذا ستشعرين بالدفء قليلاً.”
في هذه اللحظة، بدا أن وقاحته تفوق وقاحتي بمراحل.
“انتظر، انتظر لحظة. يمكنني السير بمفردي، فأزل هذا من فضلك.”
لم أتحدث بفمي، بل بقلبي المتعثر. غطيت فمي دون قصد، خشية أن يفلت شيء من حنجرتي المرتجفة.
هذا الشعور الذي يقشعر له بدني بالكامل لا بد أنه نابع من الخجل.
بالطبع، مقاومة ضعيفة كهذه لن تعني شيئًا له…
“أتريدين ذلك؟”
مهلاً؟ لكن ردة فعله جاءت غير متوقعة.
بمجرد سماع كلماتي، أطلق السيد جوزيف كتفي الذي كان يعانقني دون تردد.
والمضحك أن الدفء الذي كان يحيطني تلاشى في لحظة مع انسحاب لمسته القصيرة تلك، تاركًا مكانه برودة قارسة تضرب قفاي.
ثقل البرد يضغط على كتفي. ما هذا…؟
“لماذا أشعر بالأسى فجأة؟”
في تلك الأثناء، تقدم خطوة ومدّ كوعه نحوي، في إشارة لمرافقتي.
آه، لكنني، لسبب ما، لم أستطع مد يدي لأتشابك مع كوعه.
كأن عقلي قد تعقد، ظللت أنظر تارة إلى ذراعه وتارة إلى وجهه.
أنا في حيرة.
لا أفهم حقًا لماذا أشعر بهذا الألم الغريب في صدري.
بعقلانية، أنا من رفضت الاقتراب أكثر من اللازم ودفعته بعيدًا.
وكل ما فعله هو أن احترم رفضي بسرعة وأبقى على الحدود بأدب.
لا يفترض أن أشعر بالضيق. لا يفترض… لكن…
“لماذا تتراجع بهذه السهولة؟ أكان دائمًا هكذا؟”
كان سؤالًا جديدًا ومدهشًا حقًا.
لطالما كان السيد جوزيف كجزء مني، مريحًا كاليد أو القدم، لكن تصرفاته اليوم شعرت بها غريبة ومزعجة لأول مرة.
“سيدتي، ألن تذهبي؟”
شعوري غريب جدًا.
لدرجة أنني، دون أن أدرك، نسيت الإحراج السابق ورفعت عيني لأنظر إلى عينيه الحمراوين اللتين تحدقان بي.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 102"