“ها أنتِ هنا.”

رجل ضخمٌ يستند إلى الحائط، محاصرًا إيّايها ومُضيّقًا عليّها. لمعت عيناه الذهبيّتان بحزنٍ عميق.

“بحثتُ عنكِ طويلًا، أيتها الطبيبة.”

“لماذا… هل هناك مكان يؤلمك؟”

حاولتُ الابتسام بأقصى ما أستطيع، لكنّ زاوية فمي ارتعشت فشلًا. كنتُ خائفة جدًا.

“ماذا؟”

بدت على وجههِ نظرة استغراب من ردّي.

رجل وسيم لكنّه يبعث على الرهبة، شرير هذا العالم، الدوق الأكبر سيرفيل بيريارت. تنهّدت أنفاسه الحارّة فوق رأسي.

“مكان يؤلمني؟”

سخر منّي.

كانت سخريته باردة وجليديّة لدرجة أنّها أثارت قشعريرة في جسدي. لم تكن كالرجل الذي عرفتُه، بل كانت حقًا سخريةَ شرير.

لماذا يفعل بي هذا؟!

أردتُ الاحتجاج بشدّة، لكنّ الجو لم يكن مناسبًا على الإطلاق.

“قلبي.”

بعد أن ظلّ يحدّق بي طويلًا دون كلام، فتح فمه أخيرًا.

“قَلبكَ؟”

“قلبي يؤلمني، أيتها الطبيبة آيليت.”

“ماذا؟”

اتسعت عيناي دهشةً واستغرابًا، لكنّه كان جادًا جدًا.

قلبُه يؤلمه؟ لماذا يشعر شابٌّ بألم في قلبه؟

نظرتُ إليه بدهشة، فمضغ شفته السفلى وحدّق بي بنظرةٍ جرحتها الألم.

“عندما أنقذتني وتبنّيتني وربّيتني، ثمّ تخلّيتِ عنّي بقسوة وذهبتِ. لم تحافظي على وعدكِ.”

“هذا… أقصد…”

لم أستطع الردّ بسلاسة لأنّه لم يكن مخطئًا، فاقترب منّي أكثر.

“ومنذ ذلك الحين، هنا يؤلمني. باستمرار.”

أمسك ثيابه عند صدره وكأنّه يعتصرها، متجهّمًا.

“هاه.”

لا يُعقل.

ضحكتُ ساخرةً، فقد كان الأمر سخيفًا مهما فكّرتُ فيه.

ما هذا الكلام؟ أنا أعلم أكثر من أيّ أحد أنّه في غاية الصحّةِ!

“لا تكذب!”

“…لستُ كاذبًا.”

“هذا جنون.”

يبدو أنّني بحاجة إلى شرح علاقتي بهذا الرجل الذي يتظاهر بألمٍ في قلبهِ.

* * *

حسنًا، لقد مُتُّ بدقّة عندما صدمتني شاحنة.

كانت لحظة قصيرة لكنّها مؤلمةً جدًا، كما أتذكّر.

كانت نهايةً بائسة.

بعد أن تركتُ دار الأيتام وعشتُ في غرفة صغيرة بمبنى متواضع، كنتُ أعيش حياةً مملّةً وشاقّة، أتخطّى وجبات الطعام، وأدرس بجدّ لامتحانات القبول في الجامعة.

لم أرتكب أيّ خطأ. 

كنتُ أمشي بين الحشود في الشارع، أقرأ رواية رومانسيّة خياليّة، عندما اندفعت شاحنة مجنونة تسير عكس السير نحو الرصيف وصدمتني مباشرةً.

أعمتني أضواء الشاحنة فجأة، ثمّ شعرتُ بجسدي يتحطّم إلى أشلاء، فصرختُ وأغمضتُ عينيّ، وعندما فتحتُهما، كنتُ مستلقيةً على سرير في كوخ خشبيّ غريبٍ.

حدّقتُ في سقف الكوخ الخشبيّ وأنا أرمش بعينيّ، ثمّ نهضتُ فجأة.

“…ما هذا؟”

عندما صدمتني الشاحنة، شعرتُ بألمٍ هائل كأنّ جسدي يتفتّت، لكنّني الآن بخير تمامًا، فظننتُ أوّلًا أنّ هذا المكان هو الجنّةُ.

بالطبع، بدا المكان متواضعًا بعض الشيء بالنسبة للجنّة.

لكن بعد أن بقيتُ مستلقيةً على السرير وبدأتُ أتفحّص المكان، شعرتُ بشيء غريب.

‘إذا كان هذا الجنّة، ألن أشعر بشيء غير طبيعيّ؟’

لكنّني لم أشعر بشيء من هذا القبيل. بدأ شعور الواقعيّة المألوف يزداد وضوحًا.

‘مهلًا… لا!’ 

أدركتُ أخيرًا أنّني لم أمت، بل ما زلتُ على قيد الحياة. ظننتُ أنّ الشاحنة التي صدمتني ربّما خطفتني.

اعتقدتُ أنّ الألم كان وهمًا وأنّهم خطفوني لبيع أعضائي أو شيء من هذا القبيل.

فزعتُ وقفزتُ من السرير، وبدأتُ أتفحّص المكان بحذر، لكنّني لم أجد أحدًا في هذه المنطقة الجبليّة.

كنتُ وحدي تمامًا.

‘ما هذا؟’

أمسكتُ عصا وجدتُها في زاوية الكوخ وبحثتُ مرّة أخرى، لكنّ المعلومات التي حصلتُ عليها كانت قليلة.

هذا المكان في أعماق الجبل، بعيد عن أماكن تردّد الناس، مكان منعزل حقًا.

‘ما هذا بالضبط؟’

أمضيتُ أسبوعًا في الكوخ، أعيش على الطعام الموجود، أنظّف، وأفكّر في فراغ.

مع مرور الوقت، بدأت الأمور تتغيّر.

تلاشت ذكريات ‘أنا’ السابقة تدريجيًا، وبدأت ذكريات ‘هذا الجسد’ تظهر.

كنتُ مشوشةً.

‘اسمي آيليت؟’

ثمّ في يومٍ ما، تدفّقت الذكريات دفعة واحدة.

أدركتُ أنّني انتقلتُ إلى عالم رواية رومانسيّة خياليّة قرأتُها مراتٍ عديدة، الرواية التي كنتُ أعيد قراءتها حتّى لحظة موتي.

‘حقًا؟ هل انتقلتُ إلى تلك الرواية؟’

في البداية، شككتُ في نفسي، لأنّني لم أكن متأكّدةً من ذكرياتي.

لكن مع مرور الوقت، أصبح واضحًا أنّني أعيش في هذا العالم حقًا، ولم يكن ذلك وهمًا.

‘هذا جنون.’

كنتُ داخل رواية رومانسيّة خياليّة بعنوان “جلالة الٱمبراطور يخفي شيئًا”. الرواية لم تكتمل بعد، وكنتُ أنتظر بفارغ الصبر كلّ جزء جديد من الكاتب، فقد كانت روايتي المفضّلة.

لكنّني لم أنتقل كبطلة الرواية.

…اللعنة.

كنتُ مجرّد شخصيّة ثانويّة. أيّ شخصيّة؟

شخصيّة وُصفت في سطر واحد فقط من قبل الكاتب.

‘آيليت، طبيبة الدوق الخاصّة، عقّمت جرحه، ثمّ خرجت من الغرفة منحنية الرأس.’

هذه ‘آيليت’ هي أنا…!

لم أصدّق، لكن مهما حاولتُ تذكّر، كنتُ أنا تلك آيليت.

‘هل انتقلتُ كشخصيّة ثانويّة؟’

بدأ وجهي يشحب وأنا أدركُ تدريجيًا دوري في هذه الرواية.

‘لا يمكن.’

المشكلة أنّ الدوق ليس بطلًا ولا حتّى شخصيّة ثانويّة عاديّة، بل هو الشرير الذي يدمّر هذا العالم.

وكان من مصيري أن أصبح تابعة لهذا الشرير.

‘لماذا؟’

نظرتُ حول كوخي الخشبيّ وأنا أميل رأسي.

لم أفهم.

‘إذن، لماذا أنا هنا وحدي؟ ألستُ طبيبة الدوق الخاصّة؟ ألا يفترض أن أكون شخصًا متعلّمًا جيدًا يعيش في العاصمة لأصبح طبيبة دوق؟’

أليس هذا منطقيًا؟

أتذكّر بوضوح أنّ الشرير، الدوق بيريارت هو أخو الإمبراطور، من العائلة الملكيّة. لا يوجد سبب لاختيار فتاة درست في الريف كطبيبة خاصّة له.

‘هل هناك سبب خاص بي؟’

كنتُ مشوشة، لكنّني حاولتُ الهدوء.

‘اهدأي. يجب أن يكون هناك سبب.’

ذهبتُ إلى المكتب وكتبتُ على ورقة كلّ ما أتذكّره عن الرواية، حتّى لو بشكل تقريبي.

المشكلة أنّني لو كنتُ ‘أنا’ السابقة، لكنتُ تذكّرتُ تفاصيل الرواية بدقّة، لكن الآن، اختلطت ذكرياتي مع ذكريات آيليت، فلم أعد أتذكّر جيدًا.

وحتّى المعلومات من وجهة نظر آيليت كانت محدودة جدًا، فلم أستطع التخمين بدقّة.

لكن الشيء المؤكّد هو أنّني أعيش الآن في هذا الكوخ، مما يعني أنّ هذه الفترة قبل أن أصبح طبيبة الشرير، أي قبل بدء أحداث الرواية الرئيسيّة.

‘لحظة.’

فجأة، خطرت لي فكرة.

‘إذن، يمكنني تغيير مجرى الرواية!’

أضاءت عيناي.

المنتقلون إلى عوالم الروايات لا يتركون الأحداث تسير كما هي، بل يغيّرونها لصالحهم.

ويصحّحون الأحداث المظلمة ويحوّلونها إلى نهاية سعيدة.

‘هدفي الأوّل هو ألّا أصبح طبيبة الشرير.’

لذا، بدلًا من التجوّل والظهور أمام الدوق الشرير، من الأفضل أن أبقى مختبئة هنا في الجبال.

ابتلعتُ ريقي.

‘نعم. نهاية الشرير هي الموت فقط.’

للأسف، الشرير هنا، الدوق، يموت في نهاية الرواية، وكذلك جميع أتباعه يواجهون نهاية مروعة. لا يوجد ما يضمن أنّني، كطبيبته، سأنجو من الموت.

لم تكن تلك نهاية الرواية، إذ أعلن الكاتب أنّ هناك أجزاء أخرى قادمة، لكن موت الشرير أمر مؤكّد.

‘لا أريد ذلك. ما دمتُ حيّة مرّة أخرى، سأعيش هذه المرّة حتّى النهاية. لا أريد الموت.’

عزمتُ أمري.

لتحقيق ذلك، أوّل شيء يجب أن أفعله هو تجنّب أن أصبح طبيبة الدوق بأيّ ثمن.

‘لا أعرف كيف أصبحتُ طبيبته، لكن سأعيش بحيث لا ألفت انتباهه.’

وضعتُ خطّةً بعناية.

لأتجنّب مصيريَ بأن أصبح طبيبةَ الشرير.