رُفضَ عرضُ الزواجِ.
قدّمَ والدُها أعذارًا شتّى، لكنّ الخلاصةَ كانتِ الرفضَ.
كانتْ هيَ ملكَهُ.
لهذا السببِ، استطاعَ تحمّلَ غيابِها طوالَ تلكَ المدّةِ الطويلةِ، يلوّحُ سيفَهُ بلا رحمةٍ في جحيمِ ساحاتِ القتالِ. لأنّهُ كانَ سيمتلكُها قريبًا. ليصبحَ في مكانةٍ تليقُ بها.
لكنّهُ رُفضَ.
لماذا؟
لقد عملَ بجدٍّ ليمتلكَها بشكلٍ شرعيٍّ، وحقّقَ ذلكَ. صعدَ إلى مكانتِها ليأخذَها بفخرٍ.
لكنْ والدَها، فقط لأنّهُ والدُها، قلبَ الأمورَ بشكلٍ غيرِ عادلٍ.
هل هوَ بسببِ لعنةِ مولدِهِ المشؤومِ مجدّدًا؟ اللعنةُ، عاشَ حياتَهُ دونَ أن يطمحَ لشيءٍ، متقبّلًا كلَّ شيءٍ فقط لأنّهُ وُلدَ خطأً، والآنَ يرفضونَ حتّى الشيءَ الوحيدَ الذي كانَ ملكَهُ؟
شعرَ أنّ هذا ظلمٌ.
كانَ ينوي أخذَها بسلامٍ وأناقةٍ، بطريقةٍ تليقُ بها.
لكن، إذا تلوّتِ الأمورُ بشكلٍ غيرِ عادلٍ، فليسَ أمامَهُ سوى أخذِها بطريقتِهِ.
اعتبرَ أنّهُ يستعيدُ ما كانَ ملكَهُ أصلًا، فلم يشعرْ بأيِّ ذنبٍ.
بما أنّهُ لم يعدْ بإمكانِهِ الصعودُ إلى مكانِها ليأخذَ يدَها بلطفٍ، قرّرَ الصعودَ إلى مكانٍ أعلى منها ليقتطفَها.
***
عندما انتهتْ حربُ خلافةِ الأمراءِ، أصبحَ الذراعَ الأيمنَ لوليِّ العهدِ الجديدِ، ممسكًا بسلطةٍ لا يمكنُ أن تكونَ أعلى.
خلالَ تلكَ العمليّةِ، اجتاحَ عائلتَها، علّقَ رؤوسَهم في الساحةِ العامّةِ، وتبعَها هيَ بعدَ أن هربتْ.
شعرَ وكأنّ الغضبَ يذيبُ عقلَهُ عندما عَلِمَ أنّها هربتْ مع ذلكَ الفارسِ العاميِّ اللعينِ، لكنْ في ليلةِ قمرٍ باردةٍ، عندما رآها جالسةً وحيدةً أمامَ جرفٍ، مطأطئةً رأسَها، تبدّدَ غضبُهُ كأنّهُ تلاشى مع الريحِ.
لم يكنْ ذلكَ الفارسُ اللعينُ موجودًا، وكانَ منظرُها المثيرُ للشفقةِ، متروكةً وحيدةً منحنيةً، يؤلمُ القلبَ.
بشرتُها الخشنةُ، شعرُها المشعّثُ، وملابسُها المتّسخةُ والممزّقةُ هنا وهناكَ، كلُّ ذلكَ أثارَ ألمَهُ. أرادَ أن يأخذَها بسرعةٍ إلى قلعةٍ دافئةٍ، يغمرَها في حوضٍ رخاميٍّ مليءٍ برائحةِ الوردِ، ويلفَّها بفستانٍ حريريٍّ لامعٍ.
عندما اقتربَ منها، يدوسُ أوراقَ الخريفِ المقرمشةَ، رفعتْ رأسَها.
شفتاها الشاحبتانِ الجافتانِ، وعيناها الرماديّتانِ المتيبّستانِ، حدّقتا بهِ بذهولٍ، فتوقّفَ في مكانِهِ.
ربّما شعرَ في تلكَ اللحظةِ أنّ شيئًا ما كانَ خاطئًا، لكنّهُ سرعانَ ما نفى هذا الشعورَ.
الآنَ، ستكونُ إلى جانبِهِ، وسيكونُ كلُّ شيءٍ مثاليًّا.
نعم، هكذا سيكونُ.
رسمَ ابتسامةً راضيةً بجهدٍ، واقتربَ منها خطوةً خطوةً.
نهضتْ متعثّرةً من مكانِها.
حرّكتْ شفتيها الجافتينِ كأنّها تحاولُ قولَ شيءٍ لكنّها توقّفتْ، ثمّ تراجعتْ نحوَ الجرفِ حتّى التصقتْ بهِ.
كانت تترنّحُ، غيرَ قادرةٍ على التوازنِ، بشكلٍ خطيرٍ للغايةِ.
توقّفَ مرتبكًا. لو كانَ يطاردُ شخصًا آخرَ، لكانَ قد تحمّلَ المخاطرةَ وقفزَ ليُخضعَهُ قبلَ أن يسقطَ من الجرفِ. لكن، لم يردْ المخاطرةَ معها.
ليسَ بعدُ.
“تعالي إلى هنا.”
قالَ بهدوءٍ، فحرّكتْ شفتيها عدّةَ مرّاتٍ، ثمّ خرجَ صوتُها المتشقّقُ الصغيرُ:
“‘أنا فقطْ… خذني أنا فقطْ.’”
“ماذا؟”
نظرتْ إليهِ بعينينِ بلا حياةٍ. عيناها الخضراوانِ الصافيتانِ كانتا جافتينِ بلا بريقٍ.
“‘أنا الوحيدةُ التي تحملُ دمَ الخائنينَ. يكفي أن تأخذَني أنا فقطْ.’”
“‘تتحدّثينَ عن ذلكَ اللعينَ الذي جرَّكِ إلى هنا وتركَكِ؟’”
“…”
عضّتْ شفتَها السفلى، حيثُ كانت آثارُ الدمِ الجافِ لا تزالُ ظاهرةً.
“‘تطلبينَ إنقاذَ ذلكَ الذي جعلَكِ في هذا الحالِ وهربَ وحيدًا؟’”
“‘نعم، لا حاجةَ لأخذِ من تخلّى عن دمِ الخائنينَ.’”
أنزلتْ عينيها ببطءٍ، كأنّها لم تعدْ تملكُ القوّةَ لمواجهةِ نظرتِهِ.
“‘أنا المذنبةُ، سأتبعُكَ دونَ مقاومةٍ… أرجوكَ.’”
كانت تترنّحُ، ربّما لأنّ حالتَها الصحيّةَ لم تكنْ جيّدةً. رأى حجارةً صغيرةً تتساقطُ من تحتِ قدميها إلى أسفلِ الجرفِ.
نظرَ إلى الأرضِ تحتَ قدميها، التي بدأتْ تتفتّتُ تحتَ ثقلِها، وقالَ:
“حسنًا.”
“‘حقًا؟’”
“أعدُكِ. سآخذُكِ أنتِ فقطْ. تعالي إلى هنا.”
“‘هل هذا وعدٌ؟’”
“أعدُكِ.”
عندها، تنهّدتْ كأنّها تجهشُ بالبكاءِ، ثمّ خطتْ خطوةً نحوَهُ.
ببطءٍ، ببطءٍ، خطوةً تلوَ الأخرى.
كانت تقتربُ منهُ خطوةً خطوةً.
ارتفعتْ زاويةُ فمِهِ برضا.
استغرقَ الأمرُ وقتًا طويلًا، لكنّها الآنَ ستكونُ في يدِهِ. منظرُها وهيَ تسيرُ إلى حضنِهِ كانَ مرضيًا للغايةِ.
بينما كانت تترنّحُ وتسيرُ ببطءٍ، بدا أنّ قواها نفدتْ، وبدأ جسدُها ينهارُ. اندفعَ نحوَها بسرعةٍ، وأمسكَ بها قبلَ أن تلمسَ الأرضَ.
… كانت نحيلةً وباردةً. احتضنَها بقوّةٍ، لكن، بدلًا من الدفءِ، شعرَ ببرودةٍ جعلتْهُ يرتجفُ.
كم من الوقتِ ظلّتْ جالسةً هناكَ، تواجهُ الريحَ الباردةَ؟
ومع ذلكَ، شعرَ برضا ناعسٍ يعمُّ جسدَهُ وهيَ مستلقيةٌ بهدوءٍ في حضنِهِ.
آه، هذا الإشباعُ.
‘الآنَ، أنتِ في حضني. الآنَ، وإلى الأبدِ، ستظلّينَ في حضني.’
‘ملكي تمامًا، ملكي فقطْ…’
دفنَ وجهَهُ في شعرِها، وتنشّقَ بعمقٍ.
“‘سيدي، هل نوقفُ مطاردةَ ذلكَ الفارسِ؟’”
رفعَ رأسَهُ عندما سألَهُ أحدُ أتباعِهِ.
“ابحثوا عنهُ ومزّقوهُ.”
***
كانت مستلقيةً على سريرٍ ناعمٍ فاخرٍ في أجملِ غرفةٍ، دونَ أن تفتحَ عينيها لوقتٍ طويلٍ.
مرَّ العديدُ من الأطبّاءِ، لكنْ لفترةٍ، لم يستطعْ أحدٌ إفاقتَها. كانت الحمّى ترتفعُ فتُرهقُ الأطبّاءَ، ثمّ تنخفضُ درجةُ حرارتِها فجأةً في اليومِ التالي، مما يُثيرُ قلقَ الجميعِ.
لكن، مع مرورِ الوقتِ، بدأتْ حالتُها تستقرُّ، ربّما بفضلِ جهودِ الأطبّاءِ. لم تفتحْ عينيها بعدُ، لكنّ درجةَ حرارتِها ولونَ وجهِها بدأا يتحسّنانِ.
كانَ عليهِ أن يغيبَ أحيانًا لمعالجةِ شؤونِ القصرِ التي لم تُنتهِ بعدُ، لكنّهُ كانَ يقضي بقيّةَ وقتِهِ جالسًا بجانبِ سريرِها، ينظرُ إليها.
كانَ يعبثُ بأصابعِهِ في شعرِها الأشقرِ، الذي فقدَ بريقَهُ وأصبحَ باهتًا…
لم يملَّ من النظرِ إليها أبدًا.
في هذا العالمِ المملِّ الخالي من القيمةِ، كانَ قلبُهُ ينبضُ ويشعرُ بالنورِ فقط عندما ينظرُ إليها.
في السابقِ، كانَ يرغبُ برؤيتِها لكنّهُ لم يستطعْ. أرادَ لمسَها لكنّهُ لم يستطعْ. كانَ يتخيّلُ صورتَها في ذهنِهِ مرارًا وتكرارًا، وكانت هيَ الوهمُ الأقدسُ في قلبِهِ.
لكنّها الآنَ هنا، إلى جانبِهِ. في قلعتِهِ. في الغرفةِ التي أعدَّها لها. هيَ الحقيقيّةُ، وليستْ وهمًا. يمكنُهُ لمسُها.
نقلَ يدَهُ، التي كانت تعبثُ بشعرِها، إلى خدِّها بحذرٍ.
في البدايةِ، لمسَها بأطرافِ أصابعِهِ بحذرٍ، كأنّهُ يلمسُ فقاعةً قد تختفي إذا ضغطَ عليها، لكنْ عندما تأكّدَ أنّها لن تختفي، وضعَ كفَّهُ بالكاملِ على خدِّها.
تدفّقَ الدفءُ من خدِّها الذي استعادَ حرارتهُ. آه، نعم، هذا الدفءُ الذي طالما اشتهاهُ. الدفءُ الذي افتقدَهُ لسنواتٍ.
أنزلَ رأسَهُ ودفنَ وجهَهُ في عنقِها، يتنشّقُ. استنشقَ بعمقٍ تلكَ الرائحةَ العذبةَ التي كانَ يتوقُ إليها، مستبدلًا إيّاها برائحةِ الشريطِ سابقًا. شعرَ وكأنّهُ يسكرُ.
الآنَ، يمكنُهُ رؤيتُها متى شاءَ، لمسُها متى شاءَ، و…
-***
عندما فتحتْ عينيها، كانَ أوّلُ ما بدا عليها هوَ الذهولُ.
هرعَ إليها عندما سمعَ أنّها استفاقتْ، وأمرَ الخادماتِ بالمغادرةِ، ثمّ اقتربَ من سريرِها.
شعرَ أنّها تتراجعُ خوفًا وهيَ تراهُ يقتربُ، تحاولُ جاهدةً خلقَ مسافةٍ بينهما حتّى في سريرِها الضيّقِ.
جلسَ على الكرسيِّ بجانبِ السريرِ، الكرسيِّ الذي اعتادَ الجلوسَ عليهِ. عندما لم يقتربْ أكثرَ أو يمدَّ يدَهُ، بدا أنّها شعرتْ ببعضِ الراحةِ. لكن، عينيها اللتينِ تنظرانِ إليهِ كانتا مليئتينِ بالخوفِ الشاحبِ.
… لم يعجبْهُ ذلكَ.
“‘ظننتُ أنّني سأذهبُ إلى السجنِ… أينَ هذا المكانُ…؟’”
كانَ صوتُها الخائفُ يرتجفُ بضعفٍ.
“هذا منزلي. من الآنَ فصاعدًا، ستبقينَ هنا.”
“…”
أنزلتْ نظرَها وسكتتْ. عمَّ تفكّرُ؟
“‘والدايَّ…’”
أمسكتِ الغطاءَ بقوّةٍ، فتجعّدَ بينَ يديها، وتحدّثتْ بحذرٍ:
“‘عائلتي كلُّها… أُعدمتْ…’”
عندما لم يردَّ، رفعتْ أخيرًا عينيها الجافتينِ ونظرتْ إليهِ.
“‘لماذا أنا…؟’”
“لقد حصلتُ عليكِ. أنتِ الآنَ ملكي.”
عند هذهِ الكلماتِ، تجمّدتْ شاحبةً. عندما نهضَ من الكرسيِّ وجلسَ على حافةِ السريرِ، انتفضتْ وحاولتْ التراجعَ أكثرَ، لكنّهُ لم يهتمَّ، ومدَّ يدَهُ ليداعبَ وجهَها.
حاولتْ إدارةَ وجهِها لتتجنّبَ يدَهُ، لكنّهُ سرعانَ ما أمسكَ وجهَها بكلتا يديهِ، وجعلَها تواجهُ نظرَهُ.
كانت عيناها المرعوبتانِ ترتعشانِ، ثمّ اختفتا سريعًا وهيَ تُنزلهما.
نعم، لم يعجبْهُ أن تتجنّبَ نظرتَهُ بعينينِ مليئتينِ بالخوفِ. أينَ ذهبتْ تلكَ العينانِ الخضراوانِ الصافيتانِ اللامعتانِ؟
لكن، لا بأسَ. الوقتُ الآنَ وفيرٌ. ستظلُّ إلى جانبِهِ، ومع الوقتِ، ستعودُ الأمورُ إلى ما كانت عليهِ.
ستنظرُ إليهِ مجدّدًا بعينينِ خضراوينِ صافيتينِ. ستبتسمُ لهُ.
“‘لا تقلقي بشأنِ أيِّ شيءٍ وارتاحي. أنتِ في أمانٍ هنا.’”
التعليقات لهذا الفصل " 4"