لم تكن آرلين غافلةً عن تغيّرِ نظرةِ كاشين بعدَ تعريفِها بآزين.
في تلكَ اللحظةِ، كانت مشوشةً جدًا لدرجةِ أنّها لم تستطع قولَ المزيدِ.
عندما عرّفتهُ بآزين، شعرت أنّ تعبيرَهُ كان غريبًا، لكن قبلَ أن تتمكّنَ من فهمِ ذلكَ، أُغميَ على آزين.
بعدَ ذلكَ، صرخت لتستدعيَ الخدمَ، ونُقلَ آزين إلى غرفتِهِ، واستُدعيَ الدكتورُ هيرت.
عندما انتهى كلُّ شيءٍ، كانت طاولةُ الشايِ قد رُتّبت، واختفى دوقُ ريكويس.
أُقيمَت المأدبةُ المسائيّةُ كما هوَ مخطّطٌ، لكن الجوَّ كان مختلفًا.
كانت آرلين شبهَ مشتتةٍ بقلقِها على آزين، وكاشين بدا غارقًا في أفكارِهِ.
مع ذلكَ، كانت نظرتُهُ تلتصقُ بوجهِها بشكلٍ لزجٍ و مقزز، لكنّها كانت مختلفةً عن النظرةِ التي كان ينظرُ بها إليها سابقًا.
كانت أكثرَ…
لزوجةً، وإصرارًا…
ظنّت أنّهُ ربّما خيالُها أو ردّةُ فعلٍ مبالغٍ فيها.
كان قد عانى طويلًا في ساحاتِ القتالِ، وعادَ لتوّهِ، فمن الطبيعيِّ أن يكونَ مختلفًا عن طفولتِهِ.
ربّما لا تستطيعُ تخيّلَ ما مرَّ بهِ خلالَ ستِّ سنواتٍ في الحربِ.
بفضلِ معاناتِهِ ورفاقِهِ في الدفاعِ عن الشمالِ، استطاعت هي العيشُ بسلامٍ هنا.
بهذا المنطقِ، كان عليها أن تقبلَ تغيّرَ نظرتِهِ.
لكن في اليومِ التالي، بعدَ أن خرجَ كاشين من مكتبِ والدها بعدَ لقاءٍ طويلٍ، كانت نظرتُهُ عندما التقيا مصادفةً…
‘مخيفةً.’
شعرت وكأنّها ستُسحبُ وتُلتهمُ، فارتجفت.
لم تخفْ منهُ يومًا، حتّى عندما كان الجميعُ يتحاشونهُ ويصفونهُ بالملعونِ أو المقزّزِ.
لم تشعر أبدًا أنّهُ مخيفٌ، حتّى عندما قالوا إنّهُ وحشٌ.
في ذلكَ الوقتِ، كان مجرّدَ طفلٍ مجروحٍ بسببِ نظراتِ الآخرينَ.
لكن لأوّلِ مرّةٍ، شعرت أنّهُ مخيفٌ.
يا للسخريةِ، لم تخف منهُ عندما كان الجميعُ يتحاشونهُ، لكنّها خافت الآنَ وهوَ مشيدٌ بالمديحِ.
‘ما الذي تحدّثَ عنهُ مع والدي ليصبحَ هكذا…؟’
كان كاشين مكروهًا من الملكِ، ووالدها أقربُ أنصارِ الملكِ، لذا ربّما دارَ الحديثُ عنهُ.
لكن، لمَ كان والدها سيواجهُهُ بحدّةٍ الآنَ وقد أصبحَ قويًا؟
عندما سألت والدَها لاحقًا، ابتسمَ وتهرّبَ من الإجابةِ.
مهما كان محتوى الحديثِ، لم يكن الجوُّ جيّدًا بعدَهُ.
غادرَ الضيوفُ شويل بعدَ ذلكَ بسرعةٍ.
عندما خرجت عائلةُ الدوقِ لتوديعِ الضيوفِ، تركَ كاشين قبلةً لزجةً على يدِها بينما ينظرُ إلى عينيها بإصرارٍ، وقالَ:
«سآتي لأخذِكِ قريبًا، يا آنستي.»
ابتسامتهُ بدت كأنّها نظرةُ مفترسٍ إلى فريستِهِ، بشكلٍ مخيفٍ…
‘لا يجبُ أن أفكّرَ هكذا.’
هزّت رأسَها لتطردَ هذهِ الأفكارَ.
إنّهُ شخصٌ عانى الاضطهادَ في طفولتِهِ، وأُرسلَ إلى ساحاتِ القتالِ فورَ كبرِهِ، وعادَ لتوّهِ.
لا يجبُ أن تفكّرَ أنّهُ مخيفٌ.
حاولت إقناعَ نفسِها أنّها مبالغةٌ، لكن نظرتَهُ لم تبدُ كصداقةٍ بريئةٍ.
إذا كان حقًا ينوي التقرّبَ منها…
‘إذًا، يجبُ أن أرفضَهُ بوضوحٍ.’
لم تكن تنوي الارتباطَ بعلاقةٍ عميقةٍ مع أيِّ أحدٍ.
كيفَ لشخصٍ لا يستطيعُ حمايةَ نفسِهِ، لا يعرفُ كم سيبقى على قيدِ الحياةِ، أن يرتبطَ بمشاعرَ عميقةٍ أو يصنعَ رابطًا لا يُقطعُ؟
لا يمكنُها فعلُ ذلكَ.
تذكّرت وجهًا في ذهنِها، لكنّها طردتهُ بسرعةٍ.
‘يجبُ إعادةُ القلادةِ. سأقولُ إنّها هديّةٌ مبالغٌ فيها مقارنةً بما فعلتُ، وأنّ الإمداداتِ لم تكن لكاشين وحدهُ، بل لكلِّ جنودِ الشمالِ…’
تنهّدت آرلين وانتقلت إلى المكتبِ لتكتبَ الرسالةَ فورًا.
طُرقَ البابُ بنقرةٍ مألوفةٍ، فرفعت رأسَها.
كانت تعرفُ من هوَ من الصوتِ.
لقد مرَّ وقتٌ طويلٌ.
“تفضّل.”
فتحَ البابُ عندما نادت بحماسٍ.
“آزين!”
كان وجهًا لم ترَهُ منذُ فترةٍ، بدا هزيلًا جدًا.
“هل أنتَ الآنَ بخيرٍ لتنهضَ؟”
“لقد مرَّ وقتٌ منذُ رؤيتِكِ، يا آنستي. أعتذرُ عن إقلاقِكِ.”
“لا، عن أيِّ شيءٍ تعتذر…؟”
نهضت آرلين من كرسيِّها، واقتربت من آزين الواقفِ عندَ البابِ.
شعرت بالأسى لرؤيةِ وجهِهِ النحيلِ، فوضعت يدَها على خدِّهِ دونَ وعيٍ.
عبست وهي تشعرُ بخدِّهِ النحيلِ الخشنِ.
“كان الجميعُ يقولونَ إنّكَ بخيرٍ ولا داعيَ للقلقِ، لكن انظر، وجهُكَ أصبحَ نصفَهُ!”
نظرَ آزين إلى وجهِ آرلين وابتسمَ بخفّةٍ، مائلًا وجهَهُ إلى يدِها الناعمةِ الدافئةِ.
أنتِ هنا، حيّةٌ، بجسدٍ دافئٍ.
انتشرَ الدفءُ في جسدِهِ، يذيبُ البردَ الذي تجمّدَ فيهِ.
رؤيتُها حيّةً، مبتسمةً، جعلتهُ يتنفّسُ بسهولةٍ أكثرَ.
لم يعرف كم مرَّ من الوقتِ وهوَ طريحُ الفراشِ، لكنّهُ هرعَ إلى غرفتِها قبلَ أن يتبيّنَ ذلكَ.
كان يعلمُ أنّهُ لم يحدث شيءٌ خلالَ تلكَ الأيامِ، لكنّهُ كان يحتاجُ إلى رؤيتِها.
لتأكيدِ أنّها لا تزالُ هنا.
على عكسِ تلكَ الصورةِ في الكوابيسِ المتكرّرةِ، حيثُ كانت ممدّدةً فوقَ أكوامِ الجثثِ.
بينما كان ينظرُ إلى عينيها الخضراوينِ القلقتينِ، ألقى نظرةً على السيدةِ مورن وجينو.
كانت مورن تديرُ وجهَها بخجلٍ، تتصطنعُ السعالَ، بينما كانت جينو تنظرُ إليهِ بعيونٍ متلألئةٍ بالتوقّعِ.
…لم يتذكّر ماذا حدثَ لهاتينِ الاثنتينِ.
باستثناءِ ما يتعلّقُ بها، كانت ذكرياتُ الحياةِ السابقةِ ضبابيّةً.
لذلكَ لم يفكّر أنّ هذهِ الحياةِ قد تكونُ في نفسِ الزمنِ.
حتّى لو كانت الذكرياتُ واضحةً، لم يكن ‘كاشين’ في الحياةِ السابقةِ ليهتمَّ بمصيرِ هاتينِ.
كانت عيناهُ تريان آرلين فقط، ولم يبالِ بمن حولَها، من أحبّتهم أو أحبّوها.
لكن، بما أنّ عائلتَها أُبيدت، فإنّ الخدمَ، ما لم يكونوا من أدنى المستوياتِ، قُتلوا على الأرجحِ…
‘ربّما ماتتا.’
غرقت عينا آزين أكثرَ فأكثرَ، فداعبت آرلين خدَّهُ بقلقٍ.
نظرَ إليها مجدّدًا.
كيفَ، كيفَ استطعتُ تدميرَ هذا الجمالِ بهذهِ القسوةِ؟
كيفَ استطعتُ كسرَ هذا الكائنِ الهشِّ بهذهِ الوحشيّةِ و أولائكَ الأشخاصِ الطيبينَ؟
شعرَ آزين بيديهِ ترتجفانِ، فعصرَ قبضتَهُ بقوّةٍ.
“أردتُ فقط… التأكّدُ من أنّكِ بخيرٍ، يا آنستي.”
“أنا لستُ المريضةَ، لمَ تقلقُ عليَّ؟ أنتَ المريضُ، تعالَ واجلس، يا سير آزين.”
هرعت آرلين إلى الطاولةِ، مشيرةً إلى كرسيٍّ مقابلٍ.
عادةً، لا يجلسُ الحرّاسُ، لكن آزين كان في إجازةٍ، ولم تكن تنوي تركَ شخصٍ هزيلٍ مريضٍ واقفًا.
كانت تعرفُ جيدًا كم يكونُ الجسدُ ضعيفًا بعدَ المرضِ.
لكن آزين لم يتحرّكْ.
“لا، يكفي أنّي رأيتُكِ.”
وقفَ عندَ البابِ، ينظرُ إليها بهدوءٍ.
بدا نظرتُهُ حزينةً، فشعرت آرلين بالإحراجِ.
ربّما كان ذلكَ بسببِ مرضِهِ، أو ربّما هيَ حساسةٌ أكثرَ من اللازمِ مؤخرًا.
“هل أنتَ بخيرٍ الآنَ؟ ماذا قالَ دكتور هيرت؟”
“أمم، سأزورُ الدكتورَ الآنَ. لكنّي حقًا بخيرٍ، فلا تقلقي عليَّ.”
حتّى لو لم أكن بخيرٍ، يجبُ أن أكونَ كذلكَ من الآنَ.
ابتلعَ هذهِ الكلماتِ في ذهنِهِ.
“طالما أنتِ بخيرٍ، يا آنسة، فأنا بخيرٍ.”
ابتسمَ آزين بخفّةٍ، لكن ابتسامتَهُ بدت متعبةً.
هل كان ذلكَ بسببِ مرضِهِ؟ شعرت آرلين بالأسى.
“لكن، اذهب إلى دكتور هيرت أوّلًا. جينو، هل يمكنُكِ استدعاءُ الدكتور؟”
“لا، يا آنسةُ، سأذهبُ إليهِ بنفسي.”
نظرت آرلين إليهِ بعدَ كلمتِهِ الحازمةِ.
كان لا يزالُ ينظرُ إليها بعيونٍ حزينةٍ، يتأمّلُها بلا توقّفٍ.
“لمَ…”
“ماذا؟”
“لمَ تنظرُ هكذا… لا، لا شيءَ.”
ربّما كان مريضًا، عيناهُ رطبتانِ لذلكَ.
فكّرت بناءً على تجربتِها، ثمّ ابتسمت بإشراقٍ وقالت:
“أنا حقًا بخيرٍ، فلا تقلقْ عليَّ وارتح. أنا أقوى منكَ الآنَ. لمَ يقلقُ المريضُ عليَّ؟ ما الخطرُ الذي قد يحدثُ في هذهِ القلعةِ؟”
ضحكَ آزين بخفّةٍ، نظرَ إلى السيدةِ مورن وجينو مرّةً أخرى، ثمّ عادَ بنظرِهِ إلى آرلين.
بعدَ تأمّلِها طويلًا، كأنّهُ ينحتُ صورتَها في قلبِهِ، تحدّثَ:
“الآنسةُ آرلين،”
بخلافِ عادتِهِ، توقّفَ عن الكلامِ.
أنتظرتهُ آرلين، ترمشُ بعينيها، تنتظرُ كلامَهُ التاليَ.
“أعتذرُ، لكن أودُّ التخلّي عن واجبِ الحراسةِ مؤقتًا.”
شعرت بقلبِها يهوي فجأةً.
“آه… هل… فعلتُ شيئًا خاطئًا…؟”
التعليقات لهذا الفصل " 20"