لم يجرؤ على أن يسألها: ما سرّ تلك الجدية الحازمة التي ترتسم على ملامحها تجاه أمر لا يمتّ لها بصلة؟
ولم يستطع، فوق ذلك، أن يطرح السؤال الأشد إلحاحًا: لماذا، وهي الوريثة المترفة التي لا تثقلها الأعباء مثله، تبدو كأنها تفهمه فهمًا عميقًا؟
وفي اللحظة ذاتها، دخلت ماتيلدا إلى قاعة الطعام، فمزّقت المشهد ووأدت الكلمات التي لم تُنطق.
وربما في تلك الثانية العابرة، لم يعد لدى آبزاك رغبة في قول شيء.
لقد أذهله موقفها.
تلك المرأة التي طالما بدت بعيدة عنه وغير معنية، أظهرت فجأة مسحة من الألفة… أو ربما التعاطف.
سخافة.
انسَ ذلك.
تجاهله.
**
في اليوم التالي، الجمعة.
وكأن شيئًا لم يحدث، عادت ساشا غرايسون لتزوره.
كان آبزاك يرزح تحت صداع ثقيل بسبب سُكر الليلة الماضية.
لم يكن في أفضل حال، وإن كان أتعس حالًا من الميجر ويلز الذي شرب حتى الثمالة بذريعة “مواساته”.
ورغم ذلك، بقي الصداع يفتك برأسه، ومعدته تعاني من اضطراب عنيد.
وكعادتها في الأيام السابقة، جلست ساشا على أريكة مكتبه بوقاحة مثيرة، تحتسي الشاي وتثرثر في أمور لا أهمية لها.
وكأن ما قاله، في حالة سُكره، عن زواجٍ مدبّر وضغوط جدته، لم يُقال أبدًا.
كانت تتحدث بلا أدنى إشارة لما جرى.
شعر آبزاك بامتنان غريب امتزج بانزعاج مكتوم.
لماذا ما زالت هنا، تثير ضيقه بمجرد وجودها؟
“لمَ أتيتِ؟” — سؤال كان عاجزًا عن طرحه بالأمس، فعاد يلحّ عليه.
ألم تكوني ترفضين سماع أي اعتذار مني أساسًا؟
لكنه تذكّر كلماتها المطمئنة في الليلة الماضية، وتبدد السؤال في ذهنه.
هي عابرة طريق… لن أراها مجددًا.
هكذا أقنع نفسه، وهو يراقبها بحذر.
حينها، وكأنها تذكرت شيئًا، ناولته علبة مسطحة كانت إلى جانبها.
“سأعود إلى العاصمة اليوم.”
قالتها بابتسامة لبقة.
تردد آبزاك للحظة، ثم مد يده وأخذ العلبة.
ومن بين أطراف الغطاء، تسلل عبق خفيف برائحة القرفة.
“فطيرة تفاح.
سمعت أنك تحبها.”
“…من أخبركِ بذلك؟”
“زوجة الرائد.
قالت إنك لا تكثر من زيارة المدينة، لكنك لا تفوّت زيارة ذلك المخبز كلما أتيحت الفرصة.”
“…شكرًا.”
قاطعها على عجل، راغبًا في إنهاء الموقف.
لاحظت ساشا احمرار أذنيه، فابتسمت برفق.
منذ حديثها الأول الجاد معه، كان ثمة شيء واضح…
“شكرًا على صبرك خلال الأيام الأربعة الماضية.
لا بد أنني سببت لك الإزعاج.”
لقد كان… عاديًا على نحو مفاجئ.
ليس ذلك الوحش الذي تروّج له الأقاويل، بل وقح قليلًا، يميل للدفاع عن نفسه أكثر من اللازم، لكنه لا يشبه الصورة البشعة التي نُسجت حوله.
تأملت الأمر، وتساءلت: هل ينبغي أن تخبره بالحقيقة؟
السبب الحقيقي لقدومها.
“بصراحة… لم أكن بحاجة إلى اعتذار منك على الإطلاق.”
قررت أن تكون صادقة، ولو لمرة.
“…عذرًا؟ ماذا تقصدين؟”
“تلك الفكرة التي اقترحوا فيها أن تقدم اعتذارًا.”
تابعت ساشا، رغم نظرته المرتابة:
“كنت أبحث عن حجة للهرب.
بعد ما حصل في الحفلة، وجدت نفسي أتحمّل بعض العواقب. أوسموند وبلوم، بعد أن ضربتهما، استغلا إصابتيهما للبقاء في أرضي.
لم يكن في نيّتهما المغادرة.”
“…”
“وابن عمي كذلك.
أصر على البقاء، مدّعيًا أنه يرغب في حمايتي.
ظننت أن الأمر سيستمر ليومين، لكن الثلاثة ظلوا يضيّقون الخناق عليّ، كلٌّ بطريقته.”
قالت ذلك بنبرة هادئة:
“أخبرتهم أنني سأذهب لأنتزع اعتذارًا منك بنفسي، ثم غادرت القصر.
لكن ابن عمي أرسل خادمة لتعقبي، فاضطررت إلى الاستمرار بالتمثيل وكأنني أحاول إقناعك.”
كان حديثها ينساب بسلاسة، وكأنها انتظرت هذه اللحظة طويلاً.
رمقها آبزاك بنظرة مصدومة. أشارت نحو الباب وقالت هامسة:
“الخادمة ما زالت في الخارج، بالمناسبة.
كلفتها ببعض المهام بالأمس، لكنها استشاطت غضبًا. على أي حال…”
“كنتِ تأتين إليّ كل يوم… من أجل تلك الخادمة؟”
“التي أرسلها ابن عمي، نعم.”
“إذًا… كنتِ تمثّلين؟ حتى لا يشك بكِ قريبكِ المتسلط؟”
كان التفسير غريبًا.
أن تتظاهر بإزعاجه كي تخدع ابن عمها.
“ابن عمي هو جيفري غرايسون، الفيكونت.
ومنذ صغره، لم يعرف يومًا معنى الرفض.”
نظر إليها آبزاك باشمئزاز وسأل:
“هل… يحاول التقرّب منكِ؟”
“أوه، شيء قريب من ذلك.
لكنه لا يُكلّف نفسه حتى عناء المجاملة.
لا ينتظر موافقة أحد.”
أي أن ابن عمها لا يعرف حتى قواعد اللعب.
“…”
“…”
حلّ الصمت.
تبادل الاثنان نظرات صامتة، بلا حاجة إلى الكلام.
نحن لا نهتم ببعضنا أصلًا.
“أظنني بالغت في الحديث.
انسَ الأمر، كما نسيتُ أنا ما قلته في تلك الليلة.”
أومأ آبزاك بصمت. لم يكن معنيًا بها أصلًا.
“على أي حال، آسفة لإزعاجك هذه الأيام.
وشكرًا. استمتعت بالتجوال في لانسفيلد.”
“…”
“كان من الجميل الحديث مع الناس أيضًا.
الجميع هنا طيّبون.
بصراحة… أود العودة مجددًا.”
“…فلتفعلي.”
قالها آبزاك على مضض.
“لكن لا تجعلي اسمي ذريعة.
تعالي كسائحة.
زوجة الرائد سترحب بكِ، هي وزوجها.”
قالها دون أن يلاحظ أنه يمنحها دعوة.
لكن ساشا اكتفت بالابتسام.
“أحب ذلك، لكنني سأنشغل قريبًا.”
“بسبب أولئك الثلاثة؟”
“جزئيًا.
لكن، تمامًا مثلك، عليّ أن أتزوج… وبسرعة.”
توقفت عن الحديث فجأة.
ثم نظرت إلى الساعة، ونهضت معلنة أن وقت الرحيل قد حان.
نهض آبزاك معها دون تفكير.
سبقها إلى الباب وفتحه، وكأنه يودعها.
بل رافقها حتى عتبة العربة.
“انتظري.
غريتا… أعني…”
“…”
“أعني، أنتِ…”
“ساشا غرايسون، كابتن.”
ثم، وكأن ذلك لا يكفي، فتح باب العربة مجددًا، حين كادت تُغلقه.
“آمل أن تتخلصي منهما.”
“…لِمَ؟”
“لأن الطويل يرغب بجسدكِ، والقصير يريد مالكِ.”
ولم تبدُ متفاجئة.
بالطبع.
كم من رجل اقترب منها بدافع الطمع؟ بأقنعة شتى، لكن الغاية واحدة.
“كابتن…”
“نعم؟”
“لو التقينا في ظروف أخرى… أظننا كنا سنصبح صديقين جيدين.
من المؤسف.”
تأخر آبزاك قليلًا في الرد.
“…عذرًا؟”
لكن ساشا كانت قد صعدت بالفعل.
“شكرًا، كابتن.
سأحرص على الحذر.”
أُغلق الباب، وتحركت العربة التي تقلّ ساشا غرايسون مبتعدة.
ظل آبزاك واقفًا، يراقبها وهي تبتعد، أنفاسه ثقيلة.
“…”
بقي ذلك الشعور يعتمل في صدره، ثم، حين اختفت العربة عن الأفق، تنفّس بعمق.
“حسنًا… على الأقل، لن أراها مجددًا.”
فالأمور، دومًا، تأتي حين لا يُنتظر قدومها.
وبالنسبة لآبزاك، “الأمور” تعني دومًا المتاعب.
—
وعندما عادت تلك المرأة، ساشا غرايسون، إلى لانسفيلد بعد أقل من أسبوع…
شعر آبزاك فورًا أن كارثة جديدة تلوح في الأفق.
“مر وقت طويل، كابتن.
كيف حالك؟”
لم تكن نظرتها كاليوم الأول، ولا كانت تحمل صدق اليوم الأخير.
كانت تبتسم، لكن ابتسامتها هذه المرة كانت مدروسة، مشبعة بنيّة واضحة لإقناعه.
“إن كنتِ هنا للسياحة، فالأفضل أن تزوري زوجة الرائد.”
“لا، أتيت لأراك، كابتن.”
قالتها دون مواربة.
“أنت بحاجة إلى الزواج سريعًا، أليس كذلك؟”
اختفى تحفظها القديم، وبرزت مكانه جرأة لا تعرف الخجل.
“حسنًا، اتضح أنني في ورطة مماثلة.
بل… أسوأ قليلًا.”
وكأنها تلقت ضربة على رأسها، وأصبحت امرأة أخرى.
“ما رأيك بي كشريكة؟”
طرحت السؤال كقنبلة، دون تردد، وبنظرة لا تقبل التراجع.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"