وفقًا لما روته تلك المرأة، فقد سارت الأمور تمامًا كما وصفتها.
ورغم تأثرها السلبي بما جرى، فقد شعرت أنها ملزمة بالتصرف كصاحبة للحفل، وأبدت استعدادها للتوسط وتهدئة الخلاف.
وأشارت إلى أن طبيعة هذه الصناعة الهشة، التي تتأثر سريعًا بالقيل والقال، تفرض على آيزاك أن يُنهي المسألة بشكل ودي أيضًا.
وأوضحت أنها، متى ما بادر آيزاك بالاعتذار لروبرت، ستتصل بالصحفيين لتصحيح الرواية السابقة، بل وستقلب الحادثة لصالحها بتصريح كاريكاتوري طريف مثل: “وفي النهاية، تصالح الرجلان كالسادة فعلًا!”
“الجميع حمقى.”
نعم، لم يكن في كلماتها ذرة صدق.
“هل يدرك أولئك الحمقى أنهم انتهوا إلى هذا الوضع بسببها؟”
وكما لم يكن آيزاك يعبأ بشأنها، لم تكن هي تبالي لأمره كذلك.
لم يظهر على ملامحها أدنى فضول حيال سبب تلك المشاجرة السخيفة.
كل ما كانت تريده هو اعتذار فوري، وتسوية تحفظ كرامتها.
لم تطلب أكثر من ذلك.
لكن في تلك اللحظة، شعر آيزاك بالإهانة.
كان ينوي تقديم اعتذار صوري، غير أن طلبها المباشر، قبل حتى أن تسمع منه، أثار استياءه.
فأجابها بصرامة:
“سيكون ذلك صعبًا.”
ألم يكن الأجدر بها أن تعتذر أولًا؟ يا لها من وقحة.
وربما لهذا السبب تحديدًا، كان سلوكها هو أكثر ما ضايقه.
كان من الأسهل عليه أن تواجهه بدعوى قضائية، أو أن تطالبه بتعويض مالي، كما فعل كثيرون سبق وأن مرّغهم في التراب.
أما أن تُلزمه بالاعتذار تحت ذريعة “الوساطة”، فذلك كان هراءً بنظره.
وعلى الرغم من أنه هو من بدأ بالضربة، ولم يكن يملك الحق قانونًا في رفض تسوية عادلة، إلا أنه رفض حتى هذا الطلب الوحيد.
يا تُرى، كيف بدا وجهها عند سماع جوابه؟
لم تُظهر امتعاضًا يُذكر.
بل اكتفت بابتسامة هادئة، وكأنها كانت تتوقع الرفض، وقالت ببساطة: “فهمت.”
… “فهمت.”
ومنذ اليوم التالي، شرعت بالظهور يوميًا في مقر الفوج.
كان فوج المشاة الرابع يتمركز في حقل لانس، وهي منطقة نائية وهادئة، حيث تكفي شائعة مثل “ابن أحد النبلاء اشتبك في شجار بالحانة” لتملأ أيام الناس بالحديث.
وكان السكان، الذين طالما افتقروا لمواضيع تثير فضولهم، مفتونين بخبر الوريثة الغنية.
حتى ضباط الفوج أنفسهم لم يكونوا أقل حماسة.
الضباط العُزّاب على وجه الخصوص، بدأوا بتلميع أحذيتهم وتسريح شعورهم بعناية مبالغ فيها تزامنًا مع مواعيد زياراتها.
أما أمثال آيزاك، الذين لا مستقبل لهم يُرتجى، فلا حاجة لذكرهم.
فبعد أن زارته يوم الإثنين، عادت الثلاثاء، ثم الأربعاء.
وأصبح مبنى القيادة، حيث تُسجَّل الزيارات، يعجّ بالعُزّاب البائسين في أوقات محددة من النهار.
في يوم الإثنين، اكتفت بشرب الشاي مع آيزاك، وتبادلت بضع كلمات مع قائد الفوج قبل أن تغادر.
وفي الثلاثاء، جابت ساحة التدريب برفقة الرائد ويلز، الضابط الأعلى لآيزاك.
ومن منظور موضوعي، كانت حقًا فاتنة.
لم يكن الجمال وحده ما يميزها، بل حضورها كله كان أنيقًا ومبهرًا.
ثوبها رفيع، خطواتها محسوبة، ابتسامتها لا تنطفئ، صوتها واثق، حديثها رشيق، وتعاملها مع الجميع يتّسم باللطف.
كل من تحدّث إليها، حتى للحظات، لم يسعه إلا أن يمتدحها.
عدا آيزاك.
فهو وحده من ضاق بها ذرعًا.
كان مجرد رؤيتها يزعجه، خاصة بعد أن قالت “فهمت”
ثم عادت في اليوم التالي وكأنها تقول:
“سأواصل الضغط حتى تستسلم.”
فيما كان الآخرون يتأنقون عند لقائها، كان آيزاك يدير وجهه ويبتعد.
لكنها دائمًا ما كانت تعثر عليه.
فقد قدّمت الآنسة ساشا غرايسون طلب زيارة لأيام الإثنين والثلاثاء والأربعاء.
وبحسب البروتوكول، يتطلب مثل هذا الطلب موافقة القائد.
والقائد، الذي لم يكن يُطيق آيزاك أصلًا، بدا مستمتعًا بإقرار كل زيارة رغماً عنه.
زد على ذلك أن آيزاك كان يخضع لعقوبة “تدريب المجندين الجدد”، مما قيّده وأفقده القدرة على رفض الزيارات.
—
“ما هذا؟”
“لا أعلم، تركه الضابط السابق.”
حدث ذلك يوم الثلاثاء، عندما أُمر آيزاك بمرافقة ساشا في جولة بساحة التدريب.
كان يتوقع محاولات إقناع جديدة، لكنها بدت وكأنها مجرد سائحة مهتمة بالمكان.
كانت تهز رأسها بإعجاب عندما يقول: “هذا مجرد تل”، أو “لا داعي لمعرفة ذلك”، كما لو أنها تستمتع فعلًا بالمشاهدة.
“كم هناك من جوائز الصيد…”
ثم أتى الأربعاء.
دخلت مكتبه وهي تحمل ورقة موقّعة من الرائد.
“تلك الجوائز تعود لضابط سابق، أو ربما لضابط سبق من سبق.
أنا أكره القتل بدافع الترف.”
كان مكتب آيزاك فسيحًا نسبيًا، لكن ازدحام الجوائز والديكور المزعج جعله يبدو خانقًا.
رغم أن المكتب لم يكن سيئًا، إلا أن الطاولة المخصصة للضيوف كانت في حالة يرثى لها.
نظرت ساشا بصمت إلى كومة الملابس المتسخة على الأريكة، بينما كان آيزاك يزيحها بتوتر.
الأرائك بدت لزجة.
متى كانت آخر مرة نُظفت فيها؟
“آسفة، هل من مكان آخر يمكنني الجلوس فيه؟”
“لا.
للأسف، لا يوجد.”
أجابها ببرود دون أن ينظر نحوها.
نظرت ساشا بين ثوبها الفاخر والأريكة القذرة، ثم جلست بأناقة على الحافة، بعد أن مسحت المكان بمنديل.
كان تعبير وجهها واضحًا: “هذا المكان مقرف.”
لكن آيزاك تجاهلها.
ثم بدأت تتأمل الجوائز المعلّقة على الحائط.
“هل تحب الحيوانات؟”
“لا.”
“وهل صورة الكلب على مكتبك تعود للضباط السابقين أيضًا؟”
“…لا.
تلك لي.”
سادت لحظة صمت محرجة.
متى رأت تلك الصورة؟ سارع آيزاك إلى قلب الإطار على وجهه.
ومثل اليوم السابق، بدأت تطرح أسئلة سطحية: ما هذا؟ ذلك الممر يبدو لطيفًا.
الميداليات رائعة.
تعليق على جوائز الصيد…
…حقًا، ما الهدف من كل هذا؟
“…آنسة غرايسون.”
تنهد آيزاك وهو ينطق اسمها بضيق ظاهر.
كان يكره الجلوس مع الغرباء، وهذا اللقاء كان بمثابة عذاب.
لكنها لا بد شعرت بذلك.
“هل ستأتين غدًا أيضًا؟”
قبض على مسند المقعد، ونظر إليها بعينين زرقاوين يتقلب فيهما الضيق والحيرة.
بقايا تهذيبه كانت تنهار.
لكنها لم تُجِب.
بل نظرت إليه بالتعبير الغامض نفسه، صامتة، وكأنها تنتظر كلماته التالية.
مستفزة.
“لن أكون هنا غدًا.”
كان يقصد: لا تتكبدي عناء الحضور، فلن أغيّر موقفي.
لكنه اختار أسلوبًا غير مباشر، ربما لأول مرة، في محاولة واهية للتهذيب.
“سأكون خارجًا غدًا، لذا لن تتمكني من رؤيتي، حتى لو قدمتِ طلبًا.”
“…فهمت.”
قالتها بهدوء.
وفور أن أنهى الجملة، شعر بحرارة تتصاعد إلى وجهه.
ربما كانت تلك آخر زيارة، وها هو قد أغلق الباب بنفسه، دون حاجة.
رفعت فنجان الشاي الذي أعدّه لها، أخذت رشفة، ثم أعادته بهدوء.
“حتى لو استمريتُ في الحضور، فلن يفيدك ذلك في شيء.”
همس آيزاك بصوت منخفض للغاية، وكأنه لا يهمه إن سمعته أم لا.
ما تبقى من شعور بالذنب داخله بدأ يتلاشى، بعد أيام من تصرفاتها المستفزة.
“لن أعتذر لذاك الوغد…”
لن أعتذر.
لن أتراجع.
كفي عن مضايقتي.
ارحلي.
فقط… ارحلي.
“آه…”
صدر صوت خافت من الجهة المقابلة للطاولة، قطع أفكاره.
نظر آيزاك بحدة.
“…ما الأمر بحق الجحيم؟”
“لماذا تلمسين ذلك؟!”
كان أحد أصابعها المغطاة بالقفاز ملطخًا بالدم.
اعتذرت بهدوء
: “آسفة، لم أدرِ أن الطرف كان حادًا.”
بينما كان غارقًا في أفكاره، كانت تعبث بسيف زينة وجرحت نفسها، ثم اعتذرت بكل بساطة.
رشيقة؟ متزنة؟ سخر آيزاك من كلمات الرائد بالأمس.
كانت تزعجه عن عمد.
تعاقبه بأسلوبها الخاص.
“شكرًا.”
أخرج آيزاك من جيبه أنبوبًا صغيرًا من المرهم، وناولها إياه.
كان قريبًا منها أكثر مما ينبغي، لكن انزعاجه منعه من ملاحظة ذلك.
عاد إلى مقعده، وأخذ رشفة من الشاي.
تفو… طعمه مقرف.
“بالمناسبة… سمعت من الرائد شيئًا مثيرًا البارحة.”
لم يلتفت إليها. أكمل شرب شايه البارد.
“يُقال إنك ستقابل سيدة من آل كوينت غدًا في اجتماع زواج.
هل هذا صحيح، كابتن؟”
قفز آيزاك من مكانه كمن لدغته عقرب، ثم سعل بخفة.
أما ساشا غرايسون، فابتسمت ابتسامة رقيقة.
“أتمنى حقًا أن تسير الأمور على ما يرام.”
إذًا، تنوي خوض اجتماع زواج دون أن تُنهي ما بيننا؟
حظًا موفقًا، حقًا.
“…”
وهذا بالضبط، ما كانت تعنيه.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 5"