لو كانت ساشا غرايسون تدرك مسبقًا أن الرجل الذي قابلت عناده الممزوج باللطف سيقلب الحفل رأسًا على عقب خلال أقل من ساعتين، لما ترددت لحظة في منع دخوله إلى القصر.
لكن، ويا للأسى، لم تكن ساشا، تلك المسكينة، على علم بما يُضمره القدر لها.
كانت مستغرقة في سعيها الدؤوب لإنجاح المناسبة التي أعدّتها بعناية متناهية، مما منح آيزاك فرصة لإصلاح هيئته، والاندساس وسط قاعة الرقص بمظهر لائق.
بمساعدة أحد الخدم، جفف آيزاك جسده الغارق بالمطر، وارتدى بدلة رسمية أنيقة بدا وكأنها خُصصت له تحسبًا لهذا الطارئ.
ورغم أن الثوب بدا أوسع قليلًا من ملابس السهرة التي استعارها سابقًا من إدموند، إلا أنه مع ذلك كان ضيقًا بعض الشيء عليه.
“عليك أن تحضر الحفل.”
ردد آيزاك في ذهنه كلمات جدته الحاسمة.
كان الحفل قد بلغ أوجه، والموسيقى والأحاديث تتناغم بانسيابية جميلة، غير متأثرة بوصوله المتأخر.
ولأن ساشا قابلته بلطف، بدا مظهره أكثر اتزانًا ورصانة.
وعلى الرغم من أن أطرافه الطويلة كشفت بعض العيوب الطفيفة في قياس البدلة، إلا أن هيئته لم تعد مدعاة للسخرية.
حين دخل القاعة، لم يحظ سوى بنظرات خاطفة من بعض الحاضرين، الذين سرعان ما عادوا يوجهون أنظارهم نحو نجمة السهرة:
ساشا غرايسون.
امرأة آسرة، تتألق بثوب فاخر تتراقص عليه أضواء الثريات الذهبية، بلا شك كانت مركز الاحتفال بأسره.
وسط صخب المدعوين، رفعت دوقة غرايسون —عمة ساشا— كأسها تدعو للانتباه.
تقدمت ساشا بخطى واثقة، مبتسمة برقة، ورفعت كأسها لتشكر الحضور على تلبيتهم الدعوة.
ثم انتقلت إلى الكعكة الضخمة لتباشر بتقطيعها وسط تصفيق الحاضرين وتهانيهم.
أما آيزاك، فكان يراقبها بعينيه المتعبتين، وهي توزع قطع الحلوى ببشاشة تُخفي الكثير.
“آه، عذرًا!”
اصطدم به شاب بقامة معتدلة وملامح وسيمة.
أومأ له آيزاك بصمت، بينما ابتسم الشاب بأدب وانسحب نحو الحشد.
سرعان ما شرعت الفرقة الموسيقية تعزف أنغامًا إيذانًا بانطلاق الرقص.
“ما الذي تنتظره؟ اذهب وادعُ الآنسة غرايسون للرقص!”
“أحقًا تقولين ذلك يا أمي؟ ليتكِ جلبتِ أخي بدلًا مني.”
استمع آيزاك إلى حديث أم وابنها القريبين منه وهو يحتسي كأس الشمبانيا بلا مبالاة.
رغم إلحاح والدته، لم يجرؤ الفتى على الاقتراب.
“دعك منه، يكفي شرف دخولنا هنا.
أنظر جيدًا؛ يجب أن تكون في مثل وسامة أولئك الرجال لتجرؤ على دعوة وريثة كهذه.”
كان الفتى ينتمي لعائلة بسيطة، بلا نفوذ أو جمال يُذكر، لذا غلب عليه الخوف من أن يواجه رفضًا علنيًا.
تابعت الأم نظرات ابنها، لتلمح الشاب الوسيم الذي اصطدم بآيزاك يقترب من الآنسة غرايسون، يبتسم لها ويدعوها للرقص.
تبادلت الوريثة الشابة معه كلمات لطيفة، فتنهّدت الأم بأسى:
“إنه الابن الأكبر لعائلة أوسموند… حتى من وسط أنقاض منزلهم، استطاع أن يحضر.
أمر لا يُصدق.”
وعلى وقع نغمة رباعية الإيقاع، أعلن الحفل الرسمي بدايته.
ابتسمت ساشا وسجلت اسم أوسموند في بطاقة رقصها قبل أن تتوجه إليه.
رغم تدهور حال أسرته، فتحت له وسامته طرقًا ما كانت لتُفتح لغيره.
وبعينين ممتلئتين بالخذلان، نظرت السيدة روبيت إلى ابنها الذي لم يتحلَّ بالشجاعة الكافية، وكتمت غصتها.
وبعد أوسموند، رقصت ساشا مع ديلان هينسون، الشاب الطموح صاحب مصنع النسيج، ثم إيليوت فافريل، الرسام الواعد، وأخيرًا فلويد كامبل، وريث إحدى أكبر الثروات.
كان آيزاك غريبًا عن هذه الأسماء جميعها، لكنها تسللت إلى أذنه رغمًا عنه وسط تبدل الشركاء.
حينما تغير الإيقاع إلى فالس فينّي ساحر، عاد أوسموند ليظفر برقصة ثانية مع ساشا.
رقص بإتقان وجمال يفوق سابقيه، يقودها بخفة وأناقة.
أما النساء الواقفات، فلم يخفين تبرمهن وهمسهن:
“تظنين أن مدلل آل أوسموند سيفوز؟”
“مستحيل.
لو حدث ذلك، لنهضت الليدي روزالين من قبرها!”
رغم أنه سُمي حفل عيد ميلاد، إلا أنه كان، في جوهره، أشبه بسوق نخاسة اجتماعية متنكرة. وساشا، وريثة الثروة الضخمة، كانت الجائزة المنشودة.
أما آيزاك، فلم يكن سوى عبء ثقيل لا يريده أحد.
تأمل ببرود أوسموند وهو يطبع قبلة وداع على يد ساشا، ولما تبادلت معه ابتسامة مجاملة بدت من خلالها ملامح التعب، التقت نظراتها بنظرات آيزاك للحظة خاطفة.
لكن آيزاك قطع التواصل سريعًا، ووضع كأسه جانبًا، متوجهًا إلى التراس.
كان المطر قد بعثر الزينة والأشرطة فوق الشرفة، يتركها مبللة ومُلقاة بشكل يرثى له.
دون اكتراث، أكمل آيزاك سيره إلى الداخل، مستندًا إلى أحد الأعمدة، مستخرجًا سيجارًا وسكينًا صغيرة.
بمهارة اعتادها، قطع طرف السيجار، أشعله، ونفث سحبًا كثيفة من الدخان أخفت ملامحه الحادة.
ومن خلال أضواء القاعة، تطلع إلى الخارج ببرود قاتل.
أي آمال عَقدتها جدته عليه حين أرسلته إلى هذا الحفل؟
تخيل نفسه يتقدم نحو ساشا ويطلب منها رقصة… فكرة واحدة كانت كافية لتثير اشمئزازه العميق.
كل ما أراده هو أن ينتهي هذا العناء، ويعود أدراجه؛ يكفيه أنه أدى أقل القليل من واجبه، ولعل جدته تغفر له زلته السابقة مع ابنة عمه، رايتشل ويكس.
وأثناء ما كان ينفض رماد سيجاره، سمع صرير باب الشرفة ينبئ بقدوم شخص آخر.
“لماذا تركتها تذهب؟ كان عليك أن تضغط عليها أكثر!”
“روبرت، هذا شيء غير لائق، لا سيما وهناك من ينتظر دور الرقص…
على أي حال، تركت انطباعًا قويًا الليلة، وهذا يكفي.”
اتضح أن هناك اثنين آخرين تسللا إلى المكان.
كانت الإضاءة خافتة للغاية، تتسلل إليها أنوار خافتة من القاعة.
لم يكن التسلل إلى الشرفة إلا علامة على أمرين: كراهية للازدحام، أو رغبة في حديث لا يحتمل سماعه علنًا.
“تظن أنها وقعت في حبك؟”
“لست متأكدًا، روبرت… ربما لا حبًا، ولكنني على الأقل حصلت على توقيعها في بطاقة الرقص، وهذا بحد ذاته نصر.”
“عليك أن تسارع بمواعدتها قبل أن يسبقك أحدهم!”
“روبرت، فلنكن واقعيين… الزواج بها حلم بعيد المنال.
أترى شركاءها؟ كلهم أثرياء وذوو نفوذ.”
“دع الزواج جانبًا… اجعلها فقط عشيقتك.”
“…عشيقة؟”
ثم…
طاخ.
ارتطم شيء ما بقوة مكتومة.
استدار آيزاك الذي كان يتهيأ لإشعال سيجار آخر، تلقائيًا نحو مصدر الصوت.
رجلان.
تعرف على الأطول منهما: أوسموند.
“أيها الوغد… أظننت أنني أنفقت عليك المال والملابس والدعوات والعربة لتكتفي بعلاقة عابرة؟!”
“روبرت… أرجوك…”
تعالت الأصوات أكثر.
“إن لم تحصد أموالها، فادفع لي كل قرش أنفقته عليك، الآن! هل تملك المال أصلًا؟”
ضربة أخرى.
آيزاك، ببرود اعتاد عليه، كان قد شهد مشاهد مماثلة مرارًا.
“انسَ المال… أغرِها كما تفعل دومًا مع الباقيات.”
“…”
“أنت بارع بالخداع… فاتن وماكر.
دع المال عليّ، فقط أدي دورك كما ينبغي.”
كان حديثهما صريحًا إلى حد مقزز، وكأنهما يرويان مشهدًا من كابوس فج.
لم يكن هناك خادم واحد قريب؛ الجميع منشغلون داخل القاعة.
ولهذا السبب تسللا هنا.
“دبرت لك أمر التغطية لاحقًا…
حتى الشخص الذي سينظف آثار الفضيحة، رتبت كل شيء…
هل تدرك كم كان من الصعب إقناعه؟”
“كم؟”
صمت روبرت فجأة.
إذ تحولت أنظاره وأنظار أوسموند معًا نحو مصدر الصوت الخافت.
“…من هناك؟”
آنذاك، استشعر روبرت عبق الدخان المنتشر، ثم استدار ليحدق بذهول في وجه آيزاك.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 2"