عبست ليليانا بشدة، محاولة طرد الأفكار المشوشة من رأسها. أخذت نفسًا عميقًا، ووضعت يدها على مقبض الباب.
كلاك.
فتحت الباب غير المقفل بسهولة. رائحة خانقة وعفنة امتزجت بالغبار الكثيف رحبت بها، كما لو أن المكان لم يُهوَ منذ أعوام.
“هل يوجد أحد هنا؟” نادت ليليانا بصوت مرتفع، وهي تكبح سعالها الناتج عن الجو الراكد. تقدمت خطوة إلى داخل الغرفة المظلمة.
“هل هناك أحد؟”.
كان المكان غريبًا. الباب مفتوح، وخارج السياج الصدئ كانت هناك شاحنة حمراء باهتة متوقفة، مما يشير إلى أن المكان ليس مهجورًا تمامًا. لكن داخل المستودع، كانت الصناديق المبعثرة متناثرة بفوضى، دون أي أثر للحياة.
“مرحبًا؟” كررت، لكن الصمت كان الجواب الوحيد.
فجأة، هبت ريح خفيفة، فأغلقت الباب خلفها بصوت خافت. كوونغ. ظلال الغسق غطتها، وأصبحت الغرفة أكثر قتامة.
ثم، من مكان ما في الظلام، ظهر شبح أسود أغمق من الليل نفسه. اقتربت يد غريبة من كتفها، فتجمدت في مكانها، وشعرت بقلبها يكاد يتوقف.
***
في تلك الأثناء، دخل ثيودورو إلى الحانة كعادته، برفقة مساعده بول. عندما وقعت عيناه على رجل في منتصف العمر بشعر أبيض متفرق، لمعت عيناه بلمحة من الدهشة. توقف للحظة، ثم اتجه نحوه بخطوات واثقة.
ربما شعر الرجل بتغير في الأجواء. كان جالسًا بمفرده، يرشف كأسه ببطء، ثم استدار بهدوء. عندما التقى بعيني ثيودورو، ظهرت تجاعيد خفيفة عند زاويتي عينيه، وابتسم بلطف.
“ثبو!” ناداه بلقب ودي.
أبتسم ثيودورو بهدوء، كأنه يستمتع بالموقف.
“ما الذي أتى بك إلى هنا؟”.
“لقاء بعد طول غياب، ألا تستطيع استقبالي بحرارة أكثر؟ تجعلني أشعر بالإهانة، أيها العجوز!”.(فينسنت)
هز ثيودورو رأسه بابتسامة ساخرة، كأنما يقول إن مثل هذه المجاملات ليست من اختصاصه. ومع ذلك، كان هناك خفة وأريحية في أجوائه لم تكن مألوفة. ربما لم يكن هناك شخص آخر في المنظمة يمكنه رؤية ثيودورو بهذه الحالة المرتخية.
قال ثيودورو: “كان يجب أن تزورنا أكثر.”
كان هذا الرجل، الذي يتحدث إليه ثيودورو باحترام نادر، هو فينسنت ديل بييرو، صديق والده فيتوريو منذ زمن طويل، ومستشار عائلة بينيديتي للجيل الثاني.
“كنت مشغولاً بمسألة تعيين محامٍ مؤخرًا. جئت لأرى الوجوه القديمة. لا جديد يُذكر؟ سمعت أن أنطونيو تعرض لضرب مبرح مؤخرًا.”
“ليس شيئًا يستحق اهتمامك.”
أومأ فينسنت ببطء. كان رد ثيودورو جافًا، لكنه يعرف أن هذا هو أقصى ما يمكن أن يقدمه ثيودورو من مجاملة، فلم يبدُ متأثرًا.
“إذن، فليكن. يبدو أن أنطونيو يسبب صداعًا كبيرًا هذه الأيام، حتى لو لم يكن ذلك من شأنك.”
“هل المنطقة الغربية في حالة فوضى مجددًا؟”.
كان الحديث يدور حول حي ديمريسي الغربي، الذي سيطر عليه أنطونيو بقوة، وعن عصابة غوت التي تقاوم بشراسة بعد أن سُلبت أراضيها.
“كلما نسينا الأمر، يعودون لإثارة المشاكل. هذه المرة، حتى أخوك لوتشيانو انضم إلى الفوضى. يجب أن ننهي هؤلاء الصاخبين نهائيًا.”
نظر ثيودورو إليه بصمت، كأنه يسأل عما حدث بعد ذلك.
“حسنًا، لقد هدأتهم إلى حد ما. لكن لوتشيانو لن يظل هادئًا إلى الأبد. يجب أن تفكر مسبقًا في كيفية التعامل مع الأمور عندما يحين الوقت.”
كان صوته منخفضًا وحذرًا. أطرق ثيودورو بصره إلى الأرض، وجهه خالٍ من التعابير. لم يكن واضحًا ما الذي يفكر فيه. بدا أن فينسنت يريد قول المزيد، لكنه أغلق فمه بنظرة معقدة. ربما قرر تأجيل المواضيع الثقيلة، فتحول الحديث إلى شيء آخر.
“بالمناسبة…” قال فينسنت، وهو ينظر حول الحانة بعينين متسائلتين.
“سمعت أن هناك فتاة جميلة تغني هنا، لكنني لا أراها. كنت أنوي سماعها اليوم بعد كل هذا الحديث عنها.”
“ماذا؟” تدخل بول فجأة، الذي كان يقف بهدوء إلى جانبهم. أدرك خطأه سريعًا، فانحنى معتذرًا وتراجع. لكنه أضاف:”أعتذر، لكن…” نظر حول الحانة بقلق واضح. غياب ليليانا جعله مرتبكًا بشكل ملحوظ.
مع فضول فينسنت المتزايد، تنهد ثيودورو وقال: “ربما لن نراها هنا مجددًا. لو جئت البارحة، كنتَ ستسمع صوتها. كان جميلًا، للأسف.”
“ماذا؟”
“هل هناك مشكلة مع الآنسة موريتي؟” سأل بول بقلق.
بدت نبرة ثيودورو وكأنه يريد تجنب الشرح، لكنه أمام إصرار الاثنين، لخص ما حدث. أخبرهم أن ليليانا موريتي ذهبت إلى نورث ويلينغتون بنفسها لتجنيد سيلفانو جياكوني لمواجهة قوى أنطونيو.
تفاعل الاثنان بشكل متباين. فينسنت، الرجل الأكبر سنًا، اكتفى بتمتمة “أوه، شيء مععقد” وهو يفرك ذقنه. أما بول، فقد تفاجأ لدرجة أنه بصق المشروب الذي كان يرشفه على الأرض.
“هل تركتها تذهب هكذا؟!”.
نظر ثيودورو بنظرة حادة إلى بقعة المشروب التي كادت تلطخ سرواله، ثم أجاب ببرود:”حذرتها مرارًا من الخطر. هل كان يجب أن أمسك بساقيها وأتوسل إليها؟”.
“ليس هذا ما أعنيه، لكنك تعلم أنها قد لا تعود حية!”.
“جيد جدًا.”
تدخل فينسنت فجأة، مقاطعًا بكلمة واحدة. نظر إليه بول بدهشة، وكأنه لا يصدق أن فينسنت يؤيد هذا. رفع ثيودورو حاجبًا بمرونة.
“لقد فعلتَ الصواب. تلك الفتاة وقحة بعض الشيء. لستُ من مؤيدي أنطونيو، لكنها مغرورة أكثر من اللازم.”
ساد صمت ثقيل. شحب وجه بول، لكنه لم يعترض. كان يعرف ما يعنيه موقف ثيودورو.
ارتجفت يد بول وهو يمسك بمنديل، فأطلق ثيودورو صوت استياء خافت وحذره:”بول، ربما أصبحتَ قريبًا منها بسبب عملكما معًا، لكن تخلص من أي تعاطف غير ضروري.”
“…حسنًا.”
رد بول بتردد، وساد صمت آخر على الطاولة. استمر فينسنت في هز ساقه بلا مبالاة، كأن كلماته القاسية لم تكن شيئًا يُذكر. ثم توقف فجأة.
“ربما أكون مخطئًا.”
التفت إليه الاثنان، واستمر فينسنت بنبرة هادئة خالية من العاطفة: “قد تعود تلك الفتاة سالمة. إنها تغني في مكان تحبه، أليس كذلك؟ ونجت من قبضة أنطونيو. لو كانت مجرد فتاة جبانة غير قادرة على الدفاع عن نفسها، لما نجت من كل ذلك.”
كان من المدهش أن يقول هذا الرجل الذي بدا وكأنه يؤيد موتها قبل لحظات. كان ينظر إليها بموضوعية، كغريب تمامًا عن الأحداث. ربما لهذا استطاع تقييمها بعقلانية.
لم يستطع ثيودورو وبول تجاهل كلامه، فبدآ يعيدان التفكير فيه.
ابتسم فينسنت بغموض ونظر إليهما، “لننتظر ونرى ما سيحدث. قد يكون شيئًا يستحق الاهتمام، أو لا.”
***
في تلك اللحظة، في نورث ويلينغتون… .
“آه!”.
تراجعت ليليانا للخلف، وتعثرت بقدميها، وسقطت على الأرض، مطلقة صرخة قصيرة. بقيت مرتعشة، غير قادرة على النهوض، وهي تشعر بالرعب يجتاحها.
لم تكن اليد التي لمست كتفها وهمًا. كانت دافئة، يد إنسان حقيقي.
‘أين هو؟: تساءلت، وهي تنظر حولها في الظلام الدامس. لم تستطع تمييز الخروج أو معرفة من أين كان ذلك الغريب يراقبها.
فجأة، طق! رن صوت واضح، واشتعلت شعلة صغيرة أمامها. أضاءت النار المساحة المظلمة، وكشفت عن رجل يحمل ولاعة زيبو أمام وجهها.
“من هذه؟”.
“آه!” صرخت ليليانا، وهي تتراجع أكثر، ممسكة برأسها ومتكورة على نفسها. اقتربت يد الرجل منها، مما زاد من ذعرها.
“مهلاً، مهلاً! أنا من فوجئ، فكيف تصرخين أنتِ أكثر؟”.
ربت على كتفها بلطف، لكن قلبها المرتعب لم يهدأ بسهولة. نظرت إليه بحذر، وهي تتفحص الغرفة المعتمة، وسألت بصوت مرتجف: “أنت… السيد جياكوني؟”.
“همم؟”
ضاقت عيناه، وابتسم بخفة.
“أعتقد أنني سألت أولاً.”
كانت ابتسامته مزعجة ونبرته باردة. ابتلعت ليليانا ريقها، غير متأكدة مما يجب قوله. لم يكن من المرجح أن يعرف اسمها إذا قالت. لكن سرد غرض زيارتها مباشرة بدا محرجًا.
بينما كانت تتردد، بدا الرجل نفاد صبره. لوى فمه بامتعاض، ثم نهض فجأة من مكانه.
تاب، تاب.
ابتعدت خطواته بسرعة، وتلاشى ضوء الولاعة، تاركًا المكان في ظلام دامس مرة أخرى.
:ماذا؟ هل أتبعه؟: فكرت ليليانا، وهي تشعر بالحيرة. تلاشى الخوف تدريجيًا، وحل محله الارتباك. نهضت ببطء، غير متأكدة مما يجب فعله.
فجأة، طق! انفجر ضوء ساطع من السقف العالي. بدأت المصابيح المتوهجة تشتعل واحدًا تلو الآخر، مضيئة المكان بضوء قوي.
عبست ليليانا وهي تحمي عينيها من الوهج المفاجئ.
“آه…”.
من خلال عينيها المزمومتين، رأت ظلًا أسود. الرجل الذي كان يحمل الولاعة قبل ثوانٍ كان الآن يقف بعيدًا، متكئًا على الحائط.
نظر إلى الأضواء دون أن يرمش، ثم صرخ نحوها: “هل ستبقين هناك؟”.
“ماذا؟”.
“لا يمكننا التحدث على الأرض في الظلام، أليس كذلك؟”
كان محقًا، لكن تغيره المفاجئ في الموقف واستقباله العشوائي جعلاها مترددة. بدأت تمشي بحذر نحوه.
لاحظت ليليانا، للحظة، أن زاوية فمه تحركت كذيل ثعبان.
‘ما هذا؟’ تساءلت، لكن عندما حاولت التأكد، كانت الابتسامة الغريبة قد اختفت، وكان وجهه يحمل الملل المعتاد.
‘يا إلهي، هذا مخيف… ‘
أشار الرجل بذقنه نحو مكتب في الطابق الثاني.
“اصعدي.”
تبعته ليليانا بحذر إلى المكتب، وجلست على أريكة جلدية قديمة، متجنبة الصناديق المتناثرة على الأرض. اختفى خوفها تدريجيًا، إذ بدا الرجل غير مهتم بإيذائها، على الأقل في الوقت الحالي. لكنها شعرت بعدم الارتياح من قدرته على التصرف بلا مبالاة دون أن يخفض حذره.
نظرت حول المكتب القذر. كان الطابق الأول والثاني متشابهين في فوضاهما. بدا أن فتح أي صندوق سيطلق سربًا من الحشرات.
‘آيه…: شعرت بقشعريرة في رقبتها.
كانت هناك رائحة غريبة، تشبه رائحة الدم، جعلتها تشعر بالقلق.
عندما أدارت رأسها ببطء، التقت عيناها بعينين سوداوين تحدقان بها مباشرة.
“…”
“انتهيتِ من المشاهدة؟”.
“…”
“لا يوجد الكثير لتريه، أليس كذلك؟ هذا المكان مقلب قمامة. ذلك الوغد لا يهتم بإدارته.”
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 16"