منذ ذلك اليوم، بدأت أشياء غريبة تتكرر بشكل لا يُفهم.
على الرغم من أن المنزل لا يسكنه سوى بيانكا وإلينا، بحجة أن تبقى فقط حتى تتعافى إلينا، إلا أن أشياء لم تكن في المنزل بدأت تظهر فجأة، كما سُمعت أصوات فتح باب المدخل في منتصف الليل.
لم يكن في المنزل سوى سرير واحد، لذا كانت تنام مع بيانكا كل ليلة، غير أن الشخص الوحيد الذي كان يتقلب حتى على أصغر الأصوات كانت إلينا.
بدأت تشك في أن فلويد يقف خلف هذه التصرفات، لكن لم يكن هناك دليل، بل مجرد شكوك.
حاولت أن تستجوب بيانكا أثناء تناول الطعام في النهار، لكنها لم تفصح بسهولة.
كل شيء كان يبدو كأنه لغز محير.
“حقًا، لن تخبريني؟”
“أنا جئت إلى هنا بصفتك طبيبتك، أما الأمور الأخرى… هناك ما لا أستطيع قوله الآن، لكنني سأشرح لك بالتدريج…”
تنهدت بيانكا في موضع لم تستطع إلينا فهمه، وأغلقت فمها تمامًا حين تعلق الأمر بفلويدت. كانت تجيب عن كل شيء سابقًا، لكن يبدو أن هذا الأمر أصبح مختلفًا الآن.
ثم هناك مسألة الجدة في الطابق الأول. وجود الجد الذي باع لهم هذا المنزل… هل كان فلويد قد خطط لكل هذا منذ البداية؟
حتى وإن كان السائق قد عاد إلى قصر رينيز وأخبر فلويد بكل شيء… نعم، الرسائل في سلة الطعام.
ألم يكن فلويد هو من كتب هذه الرسائل وأرسلها طوال الوقت؟
في كل مرة، كانت الجدة تترك سلة الطعام أمام الباب وتقول إن هناك فائضًا، وداخل السلة كان دومًا يوجد خطاب صغير مكتوب بخط جميل وأنيق.
“هل حتى شراء هذا المنزل بسعر زهيد، وكون الجدة تعاملني بلطف، كان كل هذا من تدبير فلويد؟”
“أمممم….”
“ألا يمكنك على الأقل إخباري بهذا؟”
لكن بيانكا لم ترد، وأغلقت فمها بإحكام. كانت عيناها وكأنهما تريدان قول شيء، لكن…
ماذا كان يفعل الآن؟ كانت تتمنى أن ترى وجهه مرة أخرى، لأنها لم تستطع رؤيته جيدًا في تلك الليلة التي التقت به فيها على حين غرة.
في النهاية، فلويد لم يتركها، وهي لم تستطع نسيانه.
لكن لم تكن تملك الشجاعة للعودة إلى الماضي والعيش معه من جديد.
وكذلك، لم يكن لديها القدرة على تحمل الانتقادات اللاذعة، ولا كراهية الخدم.
“إذًا، فقط أخبريني بما يفعله فلويد الآن. هل يمكن أن يكون جادًا حقًا بشأن الزواج بي… حتى النهاية…؟”
“…رأيت أن بقاءك هنا أفضل من بقائك في قصر الدوقية. وأنا أوافقه الرأي.”
“إذا كان فلويد يعاني بسببي، فأنا لا أريده أن يواصل…”
“صاحب السمو يحبك كثيرًا، لذلك يفعل كل هذا من أجلك. لذا، إن كنت تحبينه، فلا بأس أن تفعلي ذلك على طريقتك.”
عند كلمات بيانكا، نظرت إلينا نحو النافذة الوحيدة في المنزل. كانت عادت مجددًا إلى نقطة البداية. المسؤولية عن تلك الليلة التي لا يمكن محوها.
ندمٌ عميق، عميق جدًا.
جلست على حافة السرير، ومدّت يدها، فجاء القط الصغير يركض نحوها. كان قد خاف من بيانكا عندما رآها لأول مرة قبل عدة أيام، ولا يزال لم يعتد عليها.
من خلال باب غرفة النوم المفتوح، رأت جاكيت فلويد ملقى على أرضية غرفة المعيشة، أصبح الآن مجرد خرقة بالية. هذا القط الصغير هو من فعل ذلك كله.
“لكن، شعرك منسدل هكذا يليق بك كثيرًا. لم أكن أعلم لأنه كان دومًا مرفوعًا.”
“حقًا؟ أنا أحب شكله وهو مرفوع…”
“إذًا، ارفعيه إن أحببتِ.”
ابتسمت بيانكا بإشراقة طيبة كما كانت تفعل في قصر الدوقية. هذا جعل إلينا تتذكر الأوقات التي كانت تقضيها معها وحدها عندما لم يكن فلويد يأتي إلى غرفة النوم.
لكن هذا السلام الهش، مثل خرزات على لوح زجاجي، انتهى بعد أيام فقط، عندما داهمهم أحد الخدم.
“أشتاق إلى فلويد…”
منذ أن جاءت إلى هذا المكان، بدأت بيانكا تهتم بالقط الصغير، تحاول لمسه دومًا.
لكن القط الذي كان لا يطيق اقترابها، أطلق مواءً عاليًا، مما غطى على كلمات إلينا التي همست بها.
“صاحب السمو كان دائمًا يتعامل بلطف مع الحيوانات الصغيرة… لم تريه عندما كان صغيرًا، أليس كذلك؟ كان جميلًا جدًا حينها.”
“وكيف لي أن أراه؟”
“كانت دوقة السابقة امرأة شديدة الجمال. أجمل من صاحب السمو الحالي نفسه. كانت أميرة من بلاد بعيدة… من أين كانت؟ هممم، لا أتذكر جيدًا، كنت صغيرة جدًا.”
“لماذا تظلين تقولين إن فلويد جميل… هل يمكنك إخباري بالمزيد عن طفولته؟”
“قلت إنني سأخبرك، صحيح؟ حسنًا، سأفعل.”
أشعلت إلينا الشمعة العطرية التي ظهرت فجأة في المنزل منذ الأمس، وألحت على بيانكا بالكلام. ويبدو أن الأخيرة كانت قادرة على التحدث بحرية طالما لم تذكر ما قاله فلويدت بنفسه.
في اليوم الذي التقت فيه فلويد لأول مرة، سمعت الكثير عن والده. ذلك الأب السيء الذي دفع بابنه إلى ساحة المعركة رغم فقدانه لأمه.
لاحقًا فقط عرفت أنه كان الأمير كاهيل، أول دوق لرينيز. لكنها لم تشعر بأي مشاعر طيبة نحوه حتى الآن.
هل كان والد فلويد يعلم كم هو أمرٌ مفجع أن يفقد الإنسان والديه في سن مبكرة؟ ربما لم يكن ليشعر، إذا كان هو من ساعد الإمبراطور الحالي على الاستيلاء على العرش دون دموع أو رحمة.
فلويد كان يتحدث بحذر شديد عن والدته الراحلة.
فالأمور التي ندفنها بعمق في قلوبنا، لا تخرج بسهولة إلى السطح.
إلينا أيضًا، لم تتحدث كثيرًا عن والديها، واكتفت بالتعبير عن ألمها بسبب السيدة لاشيتيه.
لأن الحديث عنهم يجعلها تشعر وكأنها تموت كل مرة.
والداها اللذان غادرا في رحلة طويلة لشراء هدية عيد ميلادها السابع، لم يعودا إلا كجثتين باردتين بعد حادثة عربة.
تتذكر بوضوح كيف حضرت الجنازة مرتدية فستانًا جميلًا، تطلب رؤية والدتها ووالدها، دون أن تفهم معنى الموت.
“حين توفيت دوقة الدوق السابق فجأة… كان هناك حادث. لا أعرف تمامًا ما هو، لكن…”
“حادث…؟ هل كان لفلويد علاقة بذلك؟”
“لا… لا أظن. سمعت أنها كانت حاملًا حينها، ولهذا لم يتمكنوا من إنقاذها.”
—
كان فلويد يسير وحيدًا في حديقة قصر رينيز المظلمة، بعدما خرج من غرفة نومه.
في الصباح، كان قد حضر اجتماعًا مع خدم العائلة وزار البلاط الإمبراطوري لإنهاء بعض المهام.
لماذا ترك لي والدي مثل هذه العائلة والخدم؟ الآن، بعد أن تخلى عن منصبه ويعيش بجانب والدتي، أجد نفسي أشعر بالغضب كلما فكرت به.
عاد من الحرب بعد أن أنهى كل المعارك، ليُمنح منصبًا لم يكن يرغب به أصلًا…
ومنذ أن اختفت إلينا من القصر، بدا وكأن كل شيء أصبح على ما يرام بشكل لا يُصدق. كأن النزاعات التي كانت تحدث مع الخدم الذين يدّعون تنفيذ وصية والده لم تكن حقيقية.
في تلك اللحظة، كان إبعاد إلينا عن القصر يبدو كأفضل خيار ممكن.
“غدًا، سأجعلهم يوقعون جميعًا.”
كان فلويد يجبر خدم القصر على توقيع تعهدات، واحدًا تلو الآخر. في الأصل، الخدم المرتبطون بالدوق كانوا ملزمين بطاعته، لكن الأمر اختلف مع الدوقة.
قوانين وإجراءات إمبراطورية كوسيللي كانت صارمة، بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية.
حتى لو كان النبيل مقربًا من الإمبراطور، أو من العائلة المالكة، كان عليه الالتزام بالقانون.
لكن، هذا لا يعني أنه لم يكن هناك قوة تستمد من المكانة الاجتماعية…
ولهذا، أجبرهم على التوقيع على تعهد بأنهم سيفقدون مناصبهم كخدم لدوقية رينيز إن ألحقوا ضرر بأيلينا
“وفي تلك الليلة أيضًا، لم يكن ينوي زيارة إلينا.”
لم يخطر بباله الذهاب لرؤية إلينا تلك الليلة، إلى أن خرجت منه دون وعي منه تساؤلات عن حالها، وقبل أن تستدعيه العجوز التي تسكن في الطابق السفلي من منزل إلينا على وجه السرعة.
في البداية، لم يكن أكثر من محاولة بسيطة لضمان أنها تأكل جيدًا في منزل مناسب. فقد كان قلقًا من أنها، إن تُركت بمفردها، ربما لا تتناول طعامها بشكل منتظم.
كان ذلك كل ما في الأمر. لم يكن يدري بشأن أي شيء آخر، لكنه على الأقل أراد التأكد من أنها تأكل جيدًا.
لهذا السبب، طلب من أحد معارفه في المنطقة التي رغبت إلينا بالسكن فيها، أن يبيع لها منزلًا جيدًا بسعر رخيص، كما طلب من زوجة ذلك الرجل أن تعتني بطعام إلينا.
“هل تنوي الذهاب إلى الآنسة مرة أخرى؟ وماذا ستحمل معها هذه المرة؟”
قالها زيغيل، مساعده الذي التقاه بينما كان يدور حول المبنى الرئيسي لقصر الدوقية، حاملاً ملفات سميكة.
زيغيل كان أحد القلائل الذين يثق بهم فلويد ويعتز بهم في قصر الدوقية. على عكس الخدم الذين لم ينسوا الدوق السابق – والده – ولا يزالون يتدخلون في شؤونه، كان زيغيل أحد رفاقه في ساحة المعركة، وكان أيضًا من المؤيدين لإلينا.
بل إنه، فقط في الليلة الماضية، كان صريحًا بما يكفي ليخبره بأنه وضع شمعة عطرية مهدئة في منزل إلينا دون أن تلاحظ.
“لن أذهب هذه المرة. سأُنهي كل الأمور، ثم أزورها رسميًا.”
قال فلويد وهو يسحب ملفًا من الأوراق التي كان زيغيل يحملها، ثم أنهى نزهته الليلية وصعد إلى مكتبه، المكان الذي نادرًا ما كان يدخل إليه.
منذ صغره، لم يكن مستعدًا ليصبح ربّ العائلة. لم يكن يتوقع أن يتنازل والده عن منصبه بهذه السهولة، وكان لا يزال منشغلًا بالسيف في ساحات الحرب.
ومع ذلك، الآن وقد أصبح هو رب العائلة، كان فلويد يبذل جهده دومًا ليكون ربًّا مسؤولًا ومجتهدًا.
“لقد أنهيت البحث الذي طلبته. يبدو أن الأمور هادئة لأن علاقتكما لم تُعلن رسميًا بعد.”
على الرغم من أن فلويد لم يطلب منه ذلك، تبِعه زيغيل إلى داخل المكتب، وكأنه ينوي شرح الملفات التي جلبها بنفسه.
كانت الملفات تتعلق بعائلة إلينا، بيت كونت فالوا. فبما أنه وعد أن يعتني بكل شيء من أجلها، لم يكن بإمكانه أن يتجاهل هذا الأمر.
“لكن، هل أنت متأكد من عدم زيارتك للدوق السابق؟”
“هل تظن أن والدي سيكون سعيدًا برؤيتي؟ انسَ الأمر. دعنا ننجز العمل فقط.”
غاص فلويد في الملفات داخل مكتبه، غارقًا في التفكير، يتساءل ما الذي يمكنه فعله أكثر من أجل إلينا.
التعليقات لهذا الفصل " 26"