استمتعوا
كان لي شرف خدمة انستين عزيزتين لطالما احتلّتا مكانة سامية في قلبي.
إحداهما هي الآنسة سوفيلا،
والأخرى هي شقيقتها الكبرى، الآنسة روز.
كنتُ خادمة مخصّصة للآنسة روز منذ ولادتها،
أخدمها بإخلاص لا يعتريه فتور.
في البداية، كانت السيدة تُولي الآنسة روز اهتمامًا بالغًا، غير أنها سرعان ما انشغلت بإنجاب وريث ذكر، فتضاءل اهتمامها بابنتها تدريجيًا… بل، لا، لم تعد تتدخل في شؤونها كما في السابق.
ورغم أن روز لم تكن قد تجاوزت عامها الثالث، فقد كانت ذكية فطنة.
أدركت، من أحاديث الخدم الفضوليين، أن سبب بُعد والدتها عنها هو كونها فتاة لا تصلح لوراثة لقب عائلة الكونت، وأن من يقف وراء هذا القرار هي جدتها الكبرى.
وبعدما أصيبت الجدة بوعكة صحية، ازداد ابتعاد السيدة عن روز حتى أصبح تجاهلها لها أكثر وضوحًا.
“جدّتي… هل تكرهني؟“
عندما توسّلت إليّ الآنسة روز بتلك الكلمات، وهي الفتاة التي لم تُعرف يومًا بدلال أو طيش، أخذتها إلى حيث تقيم جدّتها، في غرفة الخدم التي نُفيت إليها.
كان قلّة من الخدم ممن يحترمون الجدة، يحرصون على تنظيف غرفتها بعناية، ويقوم الطاهي جون بإعداد وجبات مغذية وشهية، ويزيّن البستاني توم الغرفة بزهور مشرقة زرعها بنفسه، ليمنحوا السيدة العجوز قليلًا من الراحة في أيامها الأخيرة.
ورغم أن السيدة لم تُعيّن لخدمتها إلا العدد الأدنى من الخدم، إلا أن انشغالها الدائم بالتسوق مع التجّار الأجانب أتاح لنا فرصة التسلل خفية إلى غرفة الجدة لرعايتها.
لكنها، في نهاية المطاف، كانت غرفة خدم لا أكثر. وعلى سريرٍ صلب غير مألوف، راحت صحة الجدة تتدهور يومًا بعد يوم.
ولأن السيدة كانت تمنع روز من التحدث إلى جدتها، فقد كانت تلك الزيارة آخر لحظة جمعت بين الاثنتين، وأول حديث بينهما وآخره.
“أتظنين أنني أكرهك؟ لا يُعقل هذا يا صغيرتي.”
تكلمت الجدة بتعب ظاهر، لكن عيناها أضاءتا بحنان أمومي عظيم.
وقد بدا أن جوابها قد فاجأ الآنسة روز، إذ احمرّت وجنتاها المستديرتان، ونظرت في عيني جدّتها الحمراوين بانبهار.
“لكنكِ لا تحبّينني… لأنني فتاة… لا أستطيع أن أرث لقب عائلة ستانلي…”
“وهل يُعقل أن يقلّ حبي لحفيدتي بسبب جنسها؟ سواءً كنتي فتى أم فتاة، روز تبقى حفيدتي العزيزة.”
“لكن الجميع يقول إنكِ قسوتِ على أمي لأنني فتاة…”
“صحيح أنّكِ لن ترثي لقب العائلة لأنكِ أنثى، لذا فعلى أبنائي أن يفكروا في وسيلة لاستمرار لقب ستانلي… إنجاب صبي جديد، أو تزويجك من رجل يحمل الاسم… لكن كل هذا لا علاقة له بالحبّ الذي أكنّه لكِ، فذلك أمر مختلف تمامًا.”
ارتعشت عينا روز البنيتان الكبيرتان بالدموع،
وقد علت ملامحها دهشة بريئة.
“هل… هل تحبّينني حقًا يا جدّتي؟“
“أحبّكِ، طبعًا. فأنتِ حفيدتي… وسأحبكِ دائمًا، دون قيد أو شرط، كيفما كنتِ.”
ورغم أنها لم تفصح يومًا، إلا أنني شعرت أن الآنسة روز كانت تؤمن في قرارة نفسها، حتى تلك اللحظة، بأنها ليست محبوبة من أحد.
ولأول مرة، انهمرت دموعها من تلك العينين المفعمتين بالبراءة.
★☆★
“ماري… أرجوكِ. كوني الخادمة الخاصة بسوفيلا، وساعديها.”
حين علمت الآنسة روز بأن أختها ستُنقل لتسكن غرفة الخدم، أسرعت بالطلب إليّ.
“لكن… إن فعلتُ ذلك، فماذا عنكِ يا آنسة روز؟“
“سأكون بخير. أنا بخير بالفعل، لأن جدّتي كانت تحبّني. على الأقل، كان في عائلتي شخص واحد يحبّني حقًا… وهذا يكفيني. أما سوفيلا، فإن تُركت هكذا، فستنمو دون أن تعرف معنى الحب… وستبقى وحيدة إلى الأبد. لذا أرجوكِ، يا ماري، أحبّيها.”
ما كان بوسعي أن أرفض توسّل تلك الصغيرة، التي احمرّت وجنتاها واستجمعت كلماتها بكل ما أوتيت من قوة.
عندما فارقتنا السيدة العجوز الحياة، استقال بعض الخدم المخلصين من العمل في منزل الكونت.
أما أنا، فلولا الآنسة روز، لما رغبت بالبقاء يومًا واحدًا في هذا البيت الذي أساء لسيّدتي الراحلة.
ولعل حالة الفوضى التي سادت بعد استقالة الخدم جعلت من السهل عليّ أن أتحول إلى الخادمة الخاصة بسوفيلا.
ومنذ تلك اللحظة، بدأت أيامي الجديدة.
صحيح أنني مررت بمصاعب، لكنها كانت أيامًا مليئة بالعطاء.
ولم أحبّ الآنسة سوفيلا لأنّ الآنسة روز طلبت مني ذلك،
بل أحببتها من أعماقي.
ويمكنني أن أجزم بكل ثقة أن مشاعري تجاه سوفيلا كانت صادقة تمامًا، خالية من أي زيف أو تصنّع.
★☆★
“سأطرد ماري، وتوم، وجون.”
بهذه الكلمات أعلنت السيدة قرارها بعد تقييم مهارات الآنسة سوفيلا.
وكان وقع الخبر صادمًا.
وليس من أجل مستقبلي أنا، بل من أجل مصير الآنسة سوفيلا.
“لم أظنّ أن أمي ستصل إلى هذا الحد… لكنني سأجد طريقة.
لن أسمح بأن يُلقى بماري وتوم وجون إلى الشارع.”
همست الآنسة روز إليّ سرًّا، بعزم لم أرَه في عينيها من قبل.
“نحن بخير، صدّقيني.
ما يؤلم قلبي حقًا هو مصير الآنسة سوفيلا…”
“إن دافعتُ عنها، فلن أفعل سوى تأجيج غضب أمي… حتى الآن، كنتِ أنتِ وتوم وجون من يحمونها، لكن لا بد أن أفعل شيئًا… أنا من يجب أن يحميها.”
قالتها الآنسة روز وقد اشتعلت في عينيها شرارة القرار.
وفي اليوم التالي، اقتربت منّي مرة أخرى، وهمست.
“ماري، خذي هذا… وثمة نسختان لتوم وجون.”
ناولَتني أوراقًا كانت عقود عمل رسمية مع منزل الفيكونت،
عائلة خطيب الآنسة سوفيلا، السيد بيلي.
“كيف حصلتِ على هذا؟“
سألتها بذهول، لكنها لم تجب سوى بابتسامة دافئة.
“سأفعل ما بوسعي من أجل سوفيلا، لكنّي أعلم أن السنوات القادمة ستكون صعبة عليها حتى يحين موعد زواجها. لذا، عندما يحين ذلك اليوم، أرجو منكم أن تكونوا هناك… إلى جانبها، لتدعموها في سعادتها.”
ولأنّ الأمر كان سرًّا لا يمكن كشفه، لم نستطع إخبار أحد،
لا في منزل الكونت، ولا حتى الآنسة سوفيلا.
فلو علِمت السيدة، لما توانت لحظة في تخريب كل شيء.
ولذلك انتظرنا… انتظرنا اليوم الذي نستطيع فيه خدمة الآنسة سوفيلا مجددًا، لا كخادمة في الظل، بل علنًا، وهي تعيش حرة في كنف عائلة الفيكونت.
“لقد وصلتني عروض لضمّكم إلى منزل آخر.”
دعانا السيد بيلي ذات يوم، وقالها فجأة، فحدّقنا فيه بدهشة.
“عرض لضمّ خدمٍ أمثالنا…؟“
“كان من المفترض أن يتحدث والدي الفيكونت بشأن هذا،
لكنه قرار اتخذتُه بنفسي. لذا سأشرحه بنفسي أيضاً.”
تابع حديثه بنبرة هادئة.
“عائلة دوق براون طلبت أن تضمكم إلى خدمها. إنه عرض مغرٍ، بلا شك.”
دوق؟ لماذا نحن؟ سؤال تبادر إلى أذهاننا جميعًا.
لكننا نطقنا معًا بنفس الجواب.
“نحن ممتنون، ولكن… نودّ رفض العرض.”
“نرغب في البقاء هنا، في هذا المنزل.”
“نريد العمل في المنزل الذي ستقيم فيه الآنسة سوفيلا، زوجتك المستقبلية.”
ابتسم السيد بيلي بلطف قائلاً.
“كم تمنّيت لو رأيت السيدة سوفيلا، تلك التي تحبونها بهذا القدر. حتى أنا، خطيبها، لم تسمح لي والدتها برؤيتها قط.”
“لم ترها قط؟ ماذا تعني…؟“
“لقد تم فسخ خطوبتي من الآنسة سوفيلا.”
لقد صُدمنا جميعًا.
الخطوبة أُلغيت؟! فهل ستظلّ الآنسة سوفيلا حبيسة منزل الكونت إلى الأبد…؟
“لا تقلقوا. السيدة شوفيلا ستنال سعادتها. ربما انتقالكم إلى منزل دوق براون هو أحد أسباب تحقق تلك السعادة.”
قالها السيد بيلي بتلك الطمأنينة التي ألفناها منه.
فآثرنا أن نؤمن بذلك اليقين في عينيه. فإن لم تكن الآنسة سوفيلا ستنتقل إلى منزل الفيكونت، فلا داعي لأن نبقى.
“ماري! توم! جون!”
وحين هرعت إلينا الآنسة سوفيلا، بجسد أنحل مما كانت عليه،
لكن بابتسامة متألقة كالتي عرفناها قبل ست سنوات،
لم نتمالك أنفسنا، وبكينا جميعًا دون تردّد.
آه… يالها من راحة… كم أنا ممتنة لهذا اليوم!
لقد انتهت الأيام التي كنا لا نملك فيها سوى الدعاء من بعيد.
فالآن، يمكننا أن نخدم الآنسة سوفيلا، سيدة قلبي،
ونكون دومًا إلى جانبها لنصنع لها السعادة التي تستحقها.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 8"