كل ما كنت أعرفه عنه لم يتعدَّ اسمًا غريبًا وأصلًا مبهمًا، ولم أكن ساذجة إلى حدٍّ أُضحّي معه بحياتي المستقرة في كوريا لمجرد ذلك.
“آسفة.”
كابحتُ المشاعر الغريبة التي اجتاحتني، وأجبته بحزم. فأطرق رأسه بخيبة، ولم يُلحّ بعدها في أن أذهب معه.
・ 。゚ ✧ : * . ☽ . * : ✧ ゚。 ・
منذ ذلك اليوم، لم يظهر «رينوس» أمامي مرة أخرى.
أصبح طريق العودة من العمل، الذي اعتدنا أن نسلكه معًا كل يوم، موحشًا.
وتحوّل العشاء بمفردي، بعدما اعتدنا أن نتقاسمه، إلى وجبة بلا طعم… حتى قهوة اللاتيه في المقهى المعتاد، حيث كنا نجلس متقابلين بحجة دراسة اللغة الكورية، لم تعد تحمل أي نكهة عذبة، بل كانت مُرّة فحسب.
كنت أرفع بصري إلى النافذة في كل مرة يمرّ أحدهم، أبحث عن وجهه.
لكن رينوس لم يظهر قط.
هل رحل حقًا…؟
امتلأ فمي بمرارة خانقة. صحيح أنني رفضته، لكن هل يُعقل أن يختفي هكذا دون حتى كلمة وداع؟
غمرتني خيبة عميقة امتزجت بالخذلان، ووجدت نفسي، من غير وعي، أعود إلى الأماكن التي كان يجلس فيها.
هو نفسه الذي كان يجلس على هذا الكرسي بانتظاري… وهو نفسه الذي ناداني باسمي عند هذا الزقاق…
بل وحتى الكائن «بييك»، الذي كان يزورني ليلاً بين الحين والآخر، اختفى هو الآخر منذ اليوم الذي غاب فيه رينوس.
هل كان بينهما رابط ما؟ ربما كان بييك حيوان رينوس الأليف…
“يقال: لا ندرك قيمة وجود أحدهم إلا بعد فقدانه.”
لم أتصوّر أنني شخص يفتقد الآخرين بهذه الحدة، لكن بعد أن اختفى رينوس وبييك معًا، غدوتُ وكأنني فقدت أثمن ما في حياتي، عالقةً في فراغ يوميّ بارد وكئيب.
الزمن كفيل بمداواة هذا، أليس كذلك…؟
ولكي أقاوم وحدتي، انغمستُ كليًا في العمل، مطفئةً شوقي لمن لا أستطيع أن أراه. حتى مشرفي، الذي عُرف بإدمانه على العمل، ذُهل من تفانيّ الذي فاقه.
لكنّ القلب لا يُقاد دومًا كما نشاء.
كلما حاولت أن أخمد مشاعري، ازداد اشتياقي قوة. كان في البداية نهراً، ثم اتسع إلى بحيرة، ثم أصبحت البحيرة بحرًا لا نهاية له.
وهكذا، وأنا أتشبث بصعوبة للبقاء طافية في محيط من الشوق، حلّ ذلك اليوم—
・ 。゚ ✧ : * . ☽ . * : ✧ ゚。 ・
كان يوم جمعة هادئًا، يشبه تمامًا اليوم الذي التقيت فيه لأول مرة برينوس وبييك.
ترددت في مغادرة العمل مبكرًا، لكن بما أن لا شيء كان ينتظرني في المنزل، شغلت نفسي بمهام إضافية لم أكن بحاجة فعلية إلى إنجازها.
“هيه، أحدهم ينتظركِ في الأسفل.”
قالها مشرفي، العائد للتو من المتجر، ليقذف في وجهي خبرًا صاعقًا.
هل يمكن أن يكون… رينوس؟
لم أسأله شيئًا، بل اندفعت نحو الطابق الأول.
وهناك، لمحته فورًا. أصبح وجهه مألوفًا لدرجة أنني استطعت تمييزه من بعيد، بخصلات شعره الأشقر اللامعة التي خطفت بصري على الفور.
كان واقفًا بملامح متصلبة، وعيناه الزائغتان تتابعان المارة في ردهة المبنى وكأنّه لا يراهم حقًا.
رينوس!
ركضتُ نحوه بلا تردد وأمسكت بذراعه.
وعندما التقت عيناه بعينيّ، انعكست فيهما دهشة عارمة. ربما لأنني للمرة الأولى أبادر أنا بالإمساك به.
ولم أدرِ كيف انطلقت من فمي كلمات متجهمة:
“ظننت أنك غادرت دون أن تقول شيئًا.”
تردد رينوس، وأشاح بنظره بعيدًا قبل أن يجيب:
“…عليّ أن أذهب الآن…”
“إن أعطيتني عنوانك، سأكتب لك رسائل. أو… ألديك بريد إلكتروني؟ حساب على أحد برامج المراسلة؟”
“…لا، ليس لدي.”
تحطمت شجاعتي التي جمعتها بشق الأنفس في لحظة.
لا عنوان… ولا حتى بريد إلكتروني أو وسيلة اتصال؟ أليس ذلك يعني ببساطة أنه لا يرغب في البقاء على صلة بي؟
صحيح، لقد رفضتُ الذهاب معه، ومن الطبيعي أن ينزعج. وربما جرحت مشاعره، أو أبغضني لذلك. لكن مهما حاولت إقناع نفسي، كان شعور المرارة في صدري أثقل من أن أحتمله، فوجدتني أطرق الأرض بطرف حذائي في ضيق.
لكن بما أنّ جوابي كان هو ذاته هذه المرّة أيضًا، فقد خفضتُ بصري، وأطبقتُ شفتيّ بإحكام.
وحين تأكّد رينوس مجددًا من أنّني ما زلتُ لا أنوي مرافقته، ارتسمت على وجهه ابتسامة مريرة.
“كما توقعت… يبدو أنه لا يوجد سبيل سوى أن أوقظكِ بنفسي.”
تمتم بكلمات لم أفهمها، ثم مدّ يده يربّت على رأسي كما لو كان يهدّئ قطة هائجة.
عادةً كنتُ أكره بشدّة أن يلمس أحد شعري، لكن لسبب ما، حين فعل رينوس ذلك، بدا الأمر لطيفًا.
وأبقى يده فوق رأسي، قبل أن يتحدّث بحذر:
“إن لم يكن الأمر يزعجكِ… هل لي أن أقبّلكِ لمرة أخيرة؟”
“…ماذا؟”
ارتبكتُ من طلبه الجريء، فرفعتُ نظري نحوه بسرعة. كان وجهه جادًا إلى حدّ لا يُصدَّق، حتى لم أستطع تصديق أنّه من الشخص ذاته الذي تجرّأ على طلب كهذا قبل لحظة.
عيناه الذهبيتان الصافيتان تموّجتا بعطش عميق.
وما إن رأيتُ ذلك حتى أفلتت من حلقي كلمة لم أنوِ قولها:
“…نعم.”
تجمّدتُ للحظة في صدمة. ما الذي قلته للتو؟
حتى رينوس نفسه اتّسعت عيناه دهشة، لكن سرعان ما استعاد هدوءه، ثم انحنى نحوي بعد تردّد قصير.
عاصفة من التردّد اجتاحت داخلي—هل عليّ أن أرفض الآن؟
لكن حين لمحته يتردّد بدوره أمام تردّدي، أغمضتُ عينيّ بإحكام في قرار متهوّر: فليكن ما يكون.
وأمسكتُ بذراعه بقوة.
“…”
توقّف للحظة، ثم لامست شفتاه شفتيّ برفق.
ومن غير وعي، جذبتُه إليّ أكثر، فألقى رينوس بتردّده جانبًا.
كانت تلك القبلة عميقة وساخنة. وبرغم أنّها كانت المرّة الأولى بيننا، إلّا أنّه قبّلني بلا قيود، كما لو أنّه يعرفني أكثر من أي شخص آخر.
تداخلت أنفاسنا الساخنة، وتدفأت بيننا حرارة مشتعلة.
وحين ابتعدتُ قليلًا لاهثة، ترك لي فسحة قصيرة لأتنفّس… لكن سرعان ما عاد ليقتنص أنفاسي من جديد.
وكأنّه لا يرتوي، ظلّ يقبّلني بلهفة، إلى أن آلمتني شفتاي واشتعلتا بالوخز، وعندها فقط تراجع أخيرًا.
لهاثه المتقطّع تبعثر على مسامعي وهو يهمس:
“للعودة إلى الواقع… تحتاجين إلى صدمة كهذه.”
“…ماذا؟”
“فكّرتُ طويلًا… أي ذكرى يجب أن أريكِ لتعودي. لكن مهما أجهدتُ عقلي…”
تلبّدت ملامحه بالحزن.
“…أدركتُ أنّه، بخلاف إظهار حياتكِ السابقة، لا يوجد سبيل آخر.”
حاولتُ أن ألتقط أنفاسي وأفتح فمي لأسأله عمّا يقصده، لكن شفتيه أسكتتاني فجأة.
لكن هذه المرّة لم تكن القبلة سوى لمحة عابرة. ثم تراجع خطوتين إلى الوراء.
كان وجهه يعلوه قسوة الألم: خوف غامض، ندم، أسى عالق، وتعلّق لم يُرِد الإفلات منه.
“أعتذر… لإخباري إيّاكِ بهذا متأخرًا.”
“ماذا—؟”
مدّ يده فجأة ليغطي وجهي بكفّه. كان يفترض أن أرى شيئًا من بين أصابعه، لكن كل ما أبصرته لم يكن سوى ظلام حالك.
سرعان ما اختفت نسائم الهواء من حولي، وأحسست بأن الأرضية تحت قدمي تتهاوى، فيما جسدي يطفو في فضاء خاوٍ.
مددتُ يديّ باحثةً عن رينوس، لكن لم أقبض على شيء.
“لا تسامحيني.”
برغم أنّ حديثه بالكورية كان دائمًا متعثّرًا، إلّا أنّ تلك الكلمات—”لا تسامحيني”—خرجت نقية صافية، كما لو أنّه كرّرها آلاف المرّات من قبل.
تردّد صوته البعيد في أذني، باهتًا كصدى. كان ذلك آخر ما سمعتُه قبل أن أفقد وعيي.
وعندها، تدفّقت إلى داخلي ذكريات حياتي السابقة… كأميرة إلدورادو.
・ 。゚ ✧ : * . ☽ . * : ✧ ゚。 ・
[السنة 192، شهر أبريل، اليوم XX. الطقس: صافٍ متلألئ.
كنتُ جائعة للغاية، فذهبتُ إلى الجبل المقدّس لقطف بعض الثمار.
قالوا إن التنين المقدّس، اللورد آبشوليكتار، يسكن هناك، وإنه لا يجب على أحد أن يدخل. لكنني كنتُ جائعة أكثر من أن أتحمّل.
وبينما كنتُ هناك، انزلقتُ من على منحدر صخري وتدحرجتُ إلى الأسفل، لكن اللورد آبشوليكتار بنفسه أنقذني!
هيهي.
يجب أن أحضر له بعض الثمار لاحقًا كعربون شكر.]
・ 。゚✧: . ꕥ . :✧゚. ・
[السنة 192، شهر مايو، يوم XX. الطقس: حار قليلًا.
في طريقي لشكر اللورد آبشوليكتار على علاجي، صادفتُ قنفذًا مصابًا.
وبما أنه عالجني، فكرتُ أنه قد يُعالج القنفذ أيضًا. فالتقطتُ ثمرة أخرى كأجرٍ للعلاج، وأحضرتها معي.
لكن في عرين اللورد آبشوليكتار، لم أجد سوى صبيًا قبيحًا وشريرًا أيضًا.
قال لي: “دَعِ القنفذ يموت فحسب”، وحين سألته عن مكان اللورد آبشوليكتار لم يُجبني حتى.
ومع ذلك، عالج القنفذ. لقد كان ماهرًا حقًا.
كنت أريد أن أقدّم الثمرة بنفسي للورد آبشوليكتار، لكن ذلك الصبي القبيح أخذها من يدي بعنف وقال إنه سيقدّمها بدلاً عني.
مربّيتي كانت تقول دائمًا إنه يجب أن أشكر من يساعدني بنفسي…
لكن ربما لا بأس إن كان الأمر مع اللورد آبشوليكتار، بما أنه ليس بشرًا؟]
・ 。゚✧: . ꕥ . :✧゚. ・
[السنة 192، شهر أغسطس، اليوم XX. الطقس: حار بشكل لا يُحتمل.
في كل مرة أذهب فيها لرؤية اللورد آبشوليكتار، لا أجد إلا ذلك الصبي القبيح.
صحيح أن علاج الحيوانات المريضة أمر لطيف، لكنني أريد رؤية اللورد آبشوليكتار أيضًا.
حتى حين أسأله عن مكانه، لا يُجيب أبدًا. قبيحٌ ووقح، حقًا.
ومع ذلك، هو يعالج الحيوانات جيدًا.
لا بد أنه طبيب بيطري.]
・ 。゚✧: . ꕥ . :✧゚. ・
[السنة 192، شهر أكتوبر، اليوم XX. الطقس: معتدل ولطيف.
ذلك الصبي القبيح—بل لنَقُل: “ليتّي”—قال إنه ليس طبيبًا بيطريًا. يا للدهشة!
قال إنه موهوب في السحر وإنه تلميذ اللورد آبشوليكتار. أشعر بالغيرة. أتمنى لو كنت أستطيع استخدام السحر أيضًا، حينها ربما أتمكّن من رؤية اللورد آبشوليكتار.
قلت لليتّي إنه يمكنني أن أوصي به لدى جلالة الملك ليصبح ساحرًا في القصر، لكن ليتّي هدّدني بأنه إن قلت ذلك، فلن يعطيني طعامًا أبدًا.
كم هو شرير.
فأنا، كأميرة مملكة إلدورادو، لا يجب أن أستسلم للتهديدات، بل من واجبي أن أخبر جلالة الملك في كل مرة أرى فيها ساحرًا!
لكن… لا أريد أن أفوّت الطعام اللذيذ.
إذن… أظن أنني لن أقول شيئًا.]
・ 。゚✧: . ꕥ . :✧゚. ・
[السنة 192، شهر ديسمبر، اليوم XX. الطقس: يتساقط الثلج.
تساقط ثلج أبيض نقي، فرسمت صورة لليتّي على سطحه.
احتجّ قائلًا إنه ليس بذلك القبح.
لكنه كذلك، قبيح.
ومع ذلك، وبما أنني أميرة لطيفة، فقد كذبت وقلت له إنه وسيم. عندها احمرّ وجهه فجأة وغضب بشدة، وقال إنه لا يجب أن أقول مثل هذه الأمور لأي كان.
صحيح، الكذب أمر سيّئ.
المرة القادمة سأقول له الحقيقة—بأنه قبيح.]
・ 。゚✧: . ꕥ . :✧゚. ・
[السنة 193، شهر يناير، اليوم XX. الطقس: بارد لكنه صافٍ.
اليوم لعبتُ مع ليتّي لعبة “المنزل”.
كنت أنا الأم وليتّي كان الأب. ووفقًا للكتاب الذي يشرح كيفية اللعب، قلت: “لقد عدتَ إلى البيت يا عزيزي”، وأعطيته قبلة.
لكن ليتّي احمرّ وجهه وصرخ بي بغضب شديد، وقال إنه لا يجب أن أقبّل الناس وأدعوهم “يا عزيزي” هكذا.
لكن الكتاب كان يقول إن الأزواج يفعلون ذلك في لعبة “المنزل”.
وحين أريته الكتاب، قال وهو غاضب: إنه من الآن فصاعدًا لا يمكنني أن ألعب لعبة “المنزل” إلا معه فقط.
ربما ليس لديه أصدقاء آخرون ليلعب معهم. مسكين.
لذا سألته إن لم يكن له أي أصدقاء، فغضب مجددًا. لماذا يغضب دائمًا؟ ليس لدي أنا
أيضًا أي أصدقاء غيره.
وحين أخبرته أنه صديقي الوحيد، غضب مجددًا، وسأل كيف يمكن لأميرة أن لا يكون لها أصدقاء.
ليتّي يبدو سريع الغضب جدًا. في كل مرة أقول شيئًا، ينفجر.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 175"