كنتُ جاثيةً على الأرض، فوضعتُ شفتيّ برقةٍ على ظهر يده وهمست:
“أنا أحبّك، يا سمو الأمير. حتى لو لم أكن أميرةً في حياتي السابقة، كنتُ سأحبّك أيضًا.”
“…”
“سأبقى هنا حتى تستيقظ، لذا أرجوك، حاول أن تغفو قليلًا.”
“همم… آسف…”
أجاب رينوس بصوتٍ خافت بالكاد يُسمع، ثم أغمض عينيه. وسرعان ما امتلأت الغرفة بأنفاسه المنتظمة والهادئة.
✧✧✧
بخطأ من الحاكم، وُجد التنانين كجنسٍ مثاليٍّ في كلّ شيء. لقد بلغوا من الكمال مبلغًا جعلهم لا يشعرون بأيّ حاجة للاختلاط بغيرهم.
لم يكونوا يتواصلون حتى فيما بينهم، وإذا ما تسلّل إليهم الضجر، كانوا يتحوّلون إلى هيئةٍ بشرية ليعيشوا بين البشر لفترة، لكن سرعان ما يعود إليهم الملل، فينهون حياتهم بأيديهم دون تردّد.
وكان آبشوليكتار، آخر تنينٍ باقٍ في هذا العالم، قد بدأ هو الآخر يشعر بالضجر من العيش.
في تلك الفترة، لم تكن “إلدورادو” قد بزغ نجمها بعد كمملكةٍ سحرية.
كان ملوك إلدورادو يقدّسونه كـ”التنين المقدّس” الحامي للمملكة، ويقدّمون له الهدايا سنويًا: توابل نادرة جُلبت من أراضٍ بعيدة، حرير فخم، وجواهر لم يرها حتى النبلاء طوال حياتهم، جميعها جُمعت بعناية وقدّمت بأقصى درجات الاحترام.
لكن آبشوليكتار لم يُلقِ لها بالًا. كانت نظرته لهم لا تتعدى كونهم نملًا يتحرك في مجموعات.
حتى جاء يومٌ اقترب فيه بشريٌّ من عرينه.
كانت فتاة صغيرة.
ترتدي فستانًا باليًا، كما لو أنها التقطته من القمامة، وجسدها مغطى بالجراح، وكأنها تدحرجت من على حافة جرف.
كانت تقبض بيدها الصغيرة على غصنٍ تتدلى منه حبات توتٍ حمراء، ويبدو أنها سقطت أثناء محاولتها قطفها.
أي بشريٍّ كان ليرقّ لحالها، لكن آبشوليكتار لم يشعر بشيء.
رغم علمه بأنها ستقع فريسة لوحش قريب إن تُركت، إلا أنه استدار ببساطة وعاد إلى عرينه دون أن يُبدي اهتمامًا.
عاد إلى هيئته الأصلية كتنين، وأغمض عينيه من جديد، يعيد التفكير في فكرة الموت بجدية. ثم بدأ المطر يهطل بغزارة.
كان صوت المطر البارد والمنعش مريحًا له عادةً، لكنه في ذلك اليوم بدا مزعجًا بشكلٍ غريب.
لم يُرد أن يموت في طقسٍ كئيبٍ كهذا، ففتح عينيه ببطء وحدّق بلا مبالاة إلى الخارج…
“…آه…”
رأى الفتاة تزحف بصعوبةٍ باتجاه العرين، تحاول أن تحتمي من المطر.
وما إن وصلت مدخل العرين حتى فقدت وعيها وانهارت أرضًا.
حدّق آبشوليكتار بها مطوّلًا.
فكّر أن ينفخ عليها نَفَسه ليُبعدها، لكنه شعر بانزعاجٍ غير مألوف.
أن يرى مخلوقًا ضعيفًا، عمره بالكاد يلامس المئة عام، يزحف بكل ما فيه من عزيمة نحو الحياة، بينما هو يخطط للموت… لم يُعجبه هذا الشعور.
ولأسبابٍ يجهلها، خالف طبيعته وعالج جراحها.
وحين توقف المطر، دفعها بهدوءٍ بذيله إلى خارج العرين.
كان يظن أن الأمر انتهى عند هذا الحد…
“مرحبًا! هل تعيش هنا؟”
لكن بعد فترة، عادت الفتاة تبحث عنه من جديد، وفي يديها غصنان مليئان بالتوت الأحمر الصغير.
رمش آبشوليكتار ببطء، مذهولًا من نبرة حديثها العادية.
ربما بسبب هيئته الصغيرة الناتجة عن لعبته الأخيرة في تقمّص دور “العائلة”، بدا وكأنه في سنّها، فخاطبته دون تكلف.
تجوّلت في عرينه دون تردّد، وكأنها تبحث عن أحد.
“ألم ترَ السيد التنين؟ غريب، أنا متأكدة أنه كان هنا…”
“…ولماذا تبحثين عنه؟”
لم يكن البشر يأتون إليه إلا لسببين:
إما أولئك الذين يأتون كـ”صيادي تنانين” ويحلمون بقتله… أو الذين يقدّسونه كتنينٍ مقدّسٍ ويُغرقونه في التمجيد.
وكلاهما كان مزعجًا بنفس القدر.
آخر مرة خرج فيها للهو، كُشف أمره بسبب طبعه الحاد، فتحوّل إلى موضوع تقديس… وكان يتوقع أن يعيد التاريخ نفسه الآن.
لذا، ما إن فتحت الطفلة فمها، كان قد هيّأ يده ليقتلها على الفور، أيًّا يكن جوابها.
لكن كلماتها كانت غير متوقعة تمامًا.
“هناك قنفذٌ مصاب هناك. جئت أطلب منه أن يعالجه. حتى أحضرت أجرة العلاج أيضًا. أين السيد التنين؟ أيها التنين؟ ألن تظهر؟”
كانت تتفقد أرجاء العرين كما لو أنها ممرضة تُسلّم مريضًا للطبيب، وسلوكها الوقح جعله يشعر بالذهول.
وقبل أن يدرك، خفض يده وردّ بجفاء:
“دعيه يموت.”
“ماذا؟!”
تجاهل صرختها وتوجّه إلى داخل العرين. لكنها لحقت به وهي لا تتوقف عن الثرثرة:
“ليس لديك أصدقاء، أليس كذلك؟ لهذا تقول أشياء سيئة مثل هذا؟ ألا تشعر بالشفقة على القنفذ؟”
“ولمَ ينبغي أن أشعر بالشفقة؟”
“هل تعيش هنا؟ إذا أعطيتك هذا، هل تنادي السيد التنين من أجلي؟ لقد عالجني أنا أيضًا، لذا أنا واثقة أنه سيساعد القنفذ أيضًا.”
“اغربي عن وجهي.”
“مرة واحدة فقط، أعدكِ أنني لن أزعجك بعدها مجددًا. نعم؟ أرجوكِ؟ أرجوووكِ؟”
نظر آبشوليكتار إلى الطفلة التي كانت تخبط الأرض بقدميها وتتوسّل إليه بيأس.
ثم، بدافع نزوةٍ غريبة، قرّر تصديق وعدها بألا تزعجه مرةً أخرى، فقام بعلاج القنفذ الجريح القريب منهما على الفور باستخدام السحر.
ثم خاطبها بجفاء:
“لقد عالجته، اذهبي الآن.”
“كاذب!”
“اذهبي وتحقّقي بنفسكِ. وسآخذ هذا معي.”
انتزع الأغصان التي كانت الطفلة تصرّ على أنها أجر العلاج.
وبينما كانت ترفرف بعينيها الحمراوين اللتين تشبهان التوت بدهشة، خرجت مسرعةً من العرين.
“ابقَ مكانك! سأعود بعد أن أتأكّد!”
وبعد وقتٍ قصير، عادت وهي تحمل القنفذ المُعافى على كتفها، وصرخت من خارج العرين:
“شكرًا! واحدٌ من تلك الأغصان كان أجر علاجي، فتأكد من أن تعطيه للسيد التنين!”
ثم أسرعت راكضةً إلى داخل الغابة.
… وعلى الرغم من أن تصرّفها كان وقحًا، فإن فيه صدقًا بريئًا لم يكن مزعجًا.
أخذ آبشوليكتار يعبث بالغصن بلا مبالاة.
لكن ذلك لا يعني أنها يجب أن تعود إليه كلّما أُصيب حيوانٌ بري.
“اليوم، أُصيب أرنب.”
“هناك غزالٌ جريح هناك…”
“السنجاب يتألم.”
“طائرٌ صغير أُصيب، هل يمكنك أن تنظر في أمره؟”
أصبحت الطفلة تزوره كلّ ثلاثة أيامٍ تقريبًا، لتزعجه بقصصٍ جديدة.
وكانت دائمًا تترك غصنًا يحمل بعض الثمار، وتدّعي أنه أجر العلاج.
وبما أنها كانت تكفّ عن الإزعاج إن لبّى طلباتها، فقد كان آبشوليكتار يُنفّذ ما تريد في كلّ مرة.
لكن ظهرت مشكلة واحدة.
ففي كلّ زيارة، كانت تأتي وهي تحمل الحيوانات التي سبق أن عالجها، وبهذا تحوّل عرينه شيئًا فشيئًا إلى مملكةٍ صغيرةٍ للحيوانات.
في البداية، ظن آبشوليكتار أن الأمر سينتهي مع الوقت، فتركها وشأنها.
لكن حين لاحظ أن عرينه بدأ يتحوّل إلى فوضى عارمة، قرّر أن يكفّ عن السكوت، فطرد جميع الحيوانات دفعةً واحدة.
ثم رمق الطفلة بنظرةٍ حادّة، كانت في تلك اللحظة تجلس على الأرض الطينية الناعمة، ترسم شيئًا غريبًا وسط الحيوانات التي تحيط بها وتضحك بسعادة.
“هل تظنين أنني طبيبٌ بيطري؟!”
“ألست كذلك؟”
“كلا!”
“آه، آسفة. ظننتُ أنك تعيش هنا لأنك تحبّ الحيوانات.”
ثم محَت رسمتها بقدمها وخفّضت رأسها. ورؤية هذه الطفلة التي اعتاد أن يراها مفعمة بالحيوية تبدو بهذا الخمول، بهذا الشكل، جعلته يشعر بعدم ارتياحٍ غريب.
ولكي يوقظها من حالتها، نقر جبهتها بخفّة. فعبست الطفلة وهي تفرك موضع الضربة، ثم قالت بنبرةٍ حادّة:
“إذا لم تكن طبيبًا بيطريًا، فلماذا تعيش هنا؟ بمفردك؟ أين أمك وأبوك؟ وماذا تأكل لتعيش؟”
“سريعًا ما بدأتِ بالأسئلة.”
شعر آبشوليكتار بوخزة انزعاج من كونها لم تهتمّ به إلا بسبب سحره الشفائي، فردّ عليها بحدّة:
“لستُ مُلزَمًا بأن أشرح لكِ.”
“هل تريد أن تُجرّب هذا؟”
في تلك اللحظة، التقطت الفتاة توتةً حمراء مغطاة بالتراب، ووضعتها في فمها بسرعة، مما أربكه وجعله يعبس من التّقزّز.
حتى تلك اللحظة، لم يكن قد لمس أيًّا من الأغصان المثمرة التي كانت تحضرها، بل كان يجفّفها دون اهتمام، لذا لم يكن يعلم—
أن تلك الثمار الصغيرة بحجم الإبهام كانت حامضة، ومُرّة، ولها مذاقٌ زنخٌ لاذع.
ومع ذلك، كانت الطفلة تمضغها بسهولة، بل وبدأت تلقي عليه موعظة:
“هذا الجبل يخصّ السيد التنين. ولا يُفترض بالبشر أن يعيشوا هنا.”
“لم أسمع قطّ أن البشر لا يمكنهم القدوم إلى هنا.”
“لكنّك تعيش هنا.”
“أنا حالة خاصّة، أما أنتِ، فلا يجب أن تدخلي.”
“لـماذااا؟”
مطّت الكلمة كما لو كانت لا تفهم حقًّا، ثم التقطت توتةً أخرى وحاولت إدخالها في فم آبشوليكتار.
أصابته القشعريرة من فكرة أن تُدخل هذه القمامة إلى فمه، فابتعد عن يدها.
لكن الطفلة، دون أن تُظهر أي انزعاج، وضعت التوتة في فمها بدلًا منه، وسألت مجددًا:
“لِمَ لا؟”
“لأنكِ بشرية.”
“أنتَ بشريٌّ أيضًا.”
“أنا…”
كان آبشوليكتار على وشك أن يردّ بأنه ليس بشريًّا، لكنه آثر الصمت. أجل، أن تظنّه بشريًّا أهون من الإزعاج الذي قد يسبّبه انكشاف كونه تنينًا.
تنهد بهدوء.
“حسنًا، افعلي ما تشائين. لكن، لماذا تستمرين في أكل هذا الشيء؟”
تحوّل نظره إلى الغصن في يد الفتاة. كان في البداية مليئًا بالتوت، أما الآن فلم يتبقَّ سوى القليل.
كان مذاقه فظيعًا. لولا أنه رآها تأكل التوت بنفسها، لظنّ أنها تحاول تسميمه.
…تأكل هذا القمامة لأنها جائعة؟ حينها فقط ألقى آبشوليكتار نظرةً فاحصةً عليها.
المكان الذي يقع فيه عرينه يُصنّف كجبلٍ مقدّس، ويخضع لقيود ملكيّة صارمة لا تسمح لأيّ كان بالدخول إليه.
لذلك كان يُفترض أن الطفلة التي تتجوّل بحرية هنا تنتمي إلى العائلة المالكة.
لكن من أول لقاء وحتى الآن، هي لا تبدو على الإطلاق كأميرة. ملابسها الرثّة بدت وكأنها التقطتها من القمامة: فستان لا يناسب حجمها، زينة شعرٍ ممزّقة، وحذاءٌ مهترئ. جسدها هزيل أشبه بهيكلٍ عظمي.
عندها تفوّه بما كان يُفكّر فيه:
“هل أنتِ خادمة؟”
“أنا أميرة، على فكرة!”
صاحت الطفلة بحدّة.
“أنا إل لاتِيانا، ابنة السيدة ليديان، المحظية السابعة والثلاثين لجلالة الملك!”
عند سماعه كلماتها، نقر آبشوليكتار لسانه ساخرًا في داخله.
(لاتِيانا) تعني “أميرة”، أي أن اسمها بالكامل يعني “إل الأميرة”، وهذا كلّ شيء. ويبدو أن “إل” أُخذ من اسم “إلدورادو”.
المحظية السابعة والثلاثون؟ كم عدد الأطفال الذين أنجبهم الملك إلى الآن؟
أخيرًا، فهم السبب الذي يجعل أميرةً تتسكّع حول عرينه بمظهر متسوّلة.
وكذلك فهم سرّ حملها الدائم لتلك الأغصان المحمّلة بالتوت.
فأخذ الغصن منها فورًا وأحرقه، ثم مسح يديها المغبرّتين، والتفت نحو إل ذات العينين الواسعتين وقال بفظاظة:
“توقّفي عن أكل هذا القرف.”
ثم استدعى بالسحر مائدةً ممتلئة بأشهى الأطعمة النادرة والثمينة.
أعدّ لها كرسيًّا، وجلست عليه بدهشةٍ لم تستطع إخفاءها، ثم وضع المنديل على فخذيها بنفسه، وهو يتذمّر:
“كلي هذا بدلًا منه.”
“…”
لكن إل لم تمدّ يدها إلى الطعام، وظلّت تنظر إليه بعينين واسعتين مذهولتين.
فتذمّر آبشوليكتار بانزعاج:
“ما بكِ؟ لا تعرفين كيف تأكلين؟”
“… أمي قالت لي ألا آكل أشياء لذيذة.”
“لماذا؟”
“لأنك إذا أكلتَ شيئًا لذيذًا، فلن تستطيع التوقّف عن التفكير في مذاقه. وإذا اعتدتَ عليه، لن تتحمّل العيش بدونه. قالت لي إن عليّ أن أترك الأشياء الجيّدة لأخي… هل يمكنني أن أستدعيه؟”
عند ذلك، فقد آبشوليكتار القدرة على الرد.
لو أن الملك أعطاها فقط نصف ما يُقدّمه له كجزيةٍ كلّ عام — لا، حتى ربع ذلك — لكانت قد أكلت أفضل من هذا بأضعاف.
أمسك بيد الطفلة وأجبرها بلطف على الإمساك بأدوات المائدة.
“كلي.”
“لا أريد. أمي قالت ألا أعتاد على هذه الأشياء.”
“لا بأس أن تعتادي. سأحضّر لكِ مثل هذا الطعام كلّ يوم.”
“حقًا؟”
نظرت إليه إل بعينين تتلألآن.
أن تتألق عيناها بهذا الشكل لمجرّد طعام، لا من أجل ذهبٍ أو سلطةٍ أو حلمٍ بالسيطرة على العالم… هذا النوع من البشر لم يصادفه من قبل، فشعر بوخزٍ غريبٍ في قلبه، مما جعله يُحوّل نظره عنها تلقائيًا.
“فقط… كلي بسرعة.”
“شكرًا لك
! سأأكل جيدًا!”
ردّت إل بحماسة، وأخذت ملعقةً من الحساء تنفخ عليها لتبردها، ثم توقّفت فجأةً وكأنها تذكّرت شيئًا، والتفتت إليه.
“بالمناسبة، ما اسمك؟ وكيف تستخدم السحر؟”
“…أنتِ حقًّا لم تكن لديكِ أيّ نيّةٍ للتعرّف إليّ، أليس كذلك؟”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 161"