الفصل 3 :
“مستحيل، أتقصدين أنَّه ينتهي هنا؟”
انطفأت نظرة كلوِي، الّتي كانت تلمع حماسةً حين استلمت المخطوط لأوّل مرّة.
فقد قرأت بسرعة الجزء التمهيديّ الّذي كنتُ قد أنهيته بعد تعديلاتٍ متكرّرة.
“أجل، لم أكتب سوى ذلك حتّى الآن.”
أجبتُ بتظاهُرٍ بعدم الاكتراث، بينما كنت أراقب ردّ فعلها عن كثب.
بدت وكأنّها كانت تتابع بتركيز كبير.
وللحصول على رأيٍ دقيق، قرّرت أن أسألها مباشرةً دون لفّ أو دوران.
“ما رأيُك؟”
كنت مستعدّة لتعديل أيِّ جزء ناقص أو غير جيّد على الفور.
“……هذه القصة، أهي من تأليفكِ حقًّا يا آنستي؟ يا للعجب، لم أكن أعلم أنّكِ تملكين مثل هذه الموهبة الرائعة.”
لكنّها بدلًا من النقد، أبدت ردّ فعلٍ عاطفيًّا في الاتّجاه المعاكس.
انهالت عليّ بسلسلة لا تنتهي من المدح، أو بالأحرى الإطراء، وحين بدأت أفقد تركيزي وسط تلك الكلمات، جاء أخيرًا رأيها الحقيقيّ ممزوجًا بنبرة انبهار.
لم تكن هذه الكلمات ما كنتُ أرغب بسماعه.
مددتُ يدي أعبث بأطراف أذني المحمرّتين خجلًا.
“ومن هو الرّجل الّذي قابلته روز؟”
“همم، هذا سرّ.”
“……ولماذا؟”
فـ الافساد ممنوعٌ تمامًا.
تجاهلتُ نظرة كلوِي الّتي بدا وكأنَّ العالم قد انهار فوقها.
‘لقد مضى وقتٌ طويل على هذا الشعور المثير.’
بدأ الإحساس الّذي كان ينتابني في حياتي السابقة حين كنت أتابع أرقام المبيعات أو نسب المشاهدة وآراء النّاس، يعود إليّ شيئًا فَشيئًا.
“حين أنهيه، سأريه لكِ.”
“……لا بدّ من ذلك، لقد وعدتِني!”
أومأتُ برأسي أمام وجهها القَلِق، وكانت لهجتها تفيض بإلحاحٍ جعل الابتسامة تتسرّب منّي بلا إرادة.
لم أكن أنوي أن أوقف القراءة في لحظةٍ مشوّقة، لكن لم يكن لديّ الكثير أصلًا.
“……أن أُوقِف القصة في المنتصف؟”
فجأةً، خطرت لي فكرة.
عادت إلى ذهني طريقة كنت قد نسيتُها، فأصبحت جادّة.
‘ليس من الضّروريّ أن أكتب القصة كاملة وأصدرها دفعةً واحدة، أليس كذلك؟’
تذكّرتُ قرّائي في الماضي، أولئك الّذين كانوا يتلهّفون للجزء التالي من أعمالي، فارتسمت على وجهي ابتسامةٌ لم تكن في أيِّ وقتٍ أوسع من الآن.
وبما أنَّ هناك ثلاثة أبطال ذكور، سيكون من المناسب إصدار ثلاثة مجلّدات.
***
“الآن، حتّى لو متُّ، لن أندم. لقد حفظتُ الحوارات كلّها! فقط، أرجوكِ، أخبريني بما سيحدث لاحقًا……!”
للأسف، كنت أنوي إصدار المجلّد الثاني فقط بعد تقييم ردود الأفعال على الأوّل.
لم أخبر كلوِي بذلك، لكنّ المجلّد الأوّل اكتمل بسرعةٍ غير متوقّعة، ربّما لأنَّ المطلوب كان ثلث القصّة فقط.
‘المحتوى الكلّي لن يتغيّر كثيرًا على أي حال.’
ونظرًا لإصرارها القويّ، لم أُمانع قراءتها المتكرّرة، فأنهَت قراءة المخطوط حوالي ستّ مرّات.
“يجب أن أبدأ بالبحث عن دار نشر، فهل أذهب إليهم مباشرة؟”
كان قلقي في محلّه لأنّي لم أكن أملك أيَّ معلوماتٍ في هذا المجال، غير أنَّ كلوِي، بعد أن سمعتْ كلامي، أمالت رأسها باستغراب.
“يمكنكِ فقط استدعاؤهم، لِمَ تذهبين إليهم بنفسك؟”
كانت نظرتها عاديّة، كأنّها تقول أمرًا بديهيًّا.
“……أستدعيهم؟ إلى هنا؟”
“نعم، إن طلبتِ من السيّد، فسيبحث عن دور نشرٍ مناسبة ويستدعيهم إلى هنا.”
بقيتُ أحدّق بها مندهشة.
التحدّث مع والدي لم يكن بالأمر الصعب.
وكلوِي، الّتي كانت قد دخلت في أزمة تساؤلات حول ما إذا كان زواجي يعني توقّف القصة، كانت تقف تمامًا في صفي.
أصبح لديّ، من غير قصد، قارئةٌ مخلصة، أو بالأحرى، حليفةٌ يمكن الوثوق بها.
“ثمّ إنّكِ جلستِ طويلًا، استلقي قليلًا لترتاحي.”
“……هممم، شكرًا لكِ.”
وإذا بي، بشكل طبيعي، أستلقي على السرير بينما كانت كلوِي تدلّك كتفيّ.
وخلال العشاء، حيث تجتمع العائلة بأكملها، طرحتُ الموضوع بنبرة غير مباشرة:
“لأتمكّن من إصدار الكتاب، أعتقد أنّي بحاجة إلى دار نشر. هل يمكنكَ مساعدتي في البحث عن واحدة؟”
“سأتواصل مع نقابة المعلومات في الأمر.”
ردّ الكونت أليكسيس بالموافقة فورًا، فتبدّد قلقي.
بل وعرفتُ لأوّل مرّة بوجود ما يسمّى بـ”نقابة المعلومات”، وبدأتْ الأفكار تدور في رأسي حول كيفيّة الاستفادة منها لاحقًا.
على عكس كوريا الجنوبيّة، تلك الدولة الديمقراطيّة، كان هذا العالم قائمًا على نظامٍ طبقيّ صارم.
أدركتُ أنَّ أسلوب التّعاقد الّذي كنت أظنّه أمرًا بديهيًّا لا ينطبق هنا.
فبما أنَّ عائلة بلاين من النبلاء، فمن الطبيعيّ أن تأتي دور النشر -التي يعمل فيها عامّة النّاس- إليهم.
وبعد ثلاثة أيّام من طلبي، زار المنزل شخصان غريبان.
“هاه…….”
لكن يبدو أنَّ خطئي كان توقّع الكثير.
***
تُقال دائمًا جملة: “الانطباع الأوّل يحدّد النتيجة”، ويبدو أنّها صحيحة بالفعل.
فمجرّد أن دخلتُ غرفة الضيوف ورأيتُ الرجلين يقفان لتحيّتي، شعرتُ بشيءٍ مريب وظهر أمامي أوّل تعبيرٍ مصطنع.
“يا لها من سعادة بلقاء زهرة عائلة بلاين المتألّقة. أنا هيستن من دار نشر بريين.”
حاولتُ أن أتجاهل تلك الإشارات الطفيفة وأتابع الحديث.
“أنا والتر من دار ريو. لقد كان لي الشرف بلقائكِ بفضل هذه الفرصة الكريمة.”
الرجل الّذي كرّر اسم ريو عدّة مرّات، كان يرمقني بنظراتٍ متكرّرة ومزعجة.
‘يبدو أصغر سنًّا قليلًا.’
بينما كان يتبادل النظرات مع هيستن، الضخم الّذي يرتدي بدلةً بنّيّة.
“كتب ريو يفضّلها النبلاء الشابّات غالبًا.”
هاه.
انتشر ضحكهم المصطنع في الأرجاء، وانتهت بذلك كلمات التعارف السطحيّة.
كنت أعلم أنّه لا بدّ من محادثةٍ خفيفة قبل الدخول في جوهر النقاش، لكن……
“في الآونة الأخيرة، كتب السيد فالتر تحظى بشعبيّةٍ كبيرة في العاصمة، هل قرأتها يا آنسة؟”
لم أتوقّع أن يستمرّ ذلك الحديث الفارغ لأكثر من ساعة.
حتى حين حاولت التلميح إلى الحديث عن العمل، لم أجد أيَّ استجابة.
فقدتُ نيّتي في إطلاعهم على المخطوط، وحين لم أعد أحتمل، بادرتُ بالقول:
“أودّ مناقشة تفاصيل شروط التعاقد الآن.”
“كم هو مذهل أن تمتلك الآنسة بلاين هذا الجمال المتوهّج والعقل الراجح في آنٍ واحد!”
هل تظنّ هذا مديحًا؟
يبدو أنّهم يظنّون أنَّ الإعجاب وحده يكفي.
حدّقتُ بالرجل من ريو بوجهٍ فاتر، لكن الآخر لم يكن أفضل حالًا.
كأنّي لم أكن أمام موظّفين بل أمام……
“إنّكِ كزهرة وردةٍ فريدة. لم أرَ بين كلّ النبلاء من تضاهي الآنسة بلاين في الجمال والذكاء.”
مُتزلّفَين اثنين.
كلّما طال الوقت، فقدتُ بريق عينيّ.
أردتُ فقط معرفة إلى أين سيصلان بكلامهما، فتمسّكتُ بالصّبر وحدّقتُ في الفراغ.
وأخيرًا، أظهرا موقفهما من التعاقد.
“إن حقّق الكتاب أرباحًا، فسنمنح الآنسة كلّ الأرباح!”
‘وكأنَّ كتابكُم سيُباع أصلًا؟’
“لو احتوى الكتاب على صورة الآنسة بلاين، فسيشتريه كلّ شبّان العاصمة.”
‘ربّما لو بعنا وجهي، سيتضاعف المبيع.’
لم أتمكّن من كتم ضحكٍ ساخر، وقد تحطّمت ما تبقّى من إرادتي.
‘لم يفكّرا بي ككاتبة أصلًا.’
كان ذلك واضحًا من إقحامهما الدائم لمديح المظهر في كلّ حديث، وكأنّهما يتعاملان مع فتاةٍ أرستقراطيّة مدلّلة، مع إخفاء واضح لاستخفافهما بي.
رغبةٌ يائسة في التقرّب منّي مع إظهار الاستعلاء الخفيّ.
“أشعر أنَّ حالتي الصحيّة ساءت فجأة، لذا سأغادر.”
سخيف.
نزلت زوايا فمي بعد أن كنت أجبر نفسي على الابتسام، وتغيّرت ملامحي فجأة.
حاول ممثّل ريو إنقاذ الموقف حين شعر ببرودة الأجواء.
“مؤخرًا، هناك إكسسواراتٌ جديدة رائجة بين نبلاء العاصمة من الشابّات…….”
لكن حتّى النهاية، لم يحصل أيُّ تغيّر.
تجاهلتُ هراءه، وقفتُ من مكاني، ونظرتُ إليهما من علٍ:
“أتمنّى لكما طريقًا آمنًا في العودة.”
فما كنت لأبذل جهدًا في تصحيح نظرتيهما المسبقة.
سمعتُ صوتهما يلاحقني وكأنّهما يريدان منعي، لكنّي خرجتُ من غرفة الضيوف بقوّة.
‘ربّما الأفضل أن أؤسّس دار نشرٍ بنفسي.’
سيأخذ الأمر وقتًا لو بدأت من الصفر، لكن لو اشتريتُ دارًا قائمة بالفعل، قد أتمكّن من إدارتها كما أريد.
بعد ما رأيتُه من هذه الدور، لم يتبقّ لي شيء من الأمل.
في الواقع، سقطتُ بالفعل في الهاوية.
ومن دون أيّ تردّد، وجدتُ نفسي أمام مكتب والدي.
نظرتُ إلى الحارس أمام الباب، وقلتُ بهدوء:
“أريد التحدّث مع أبي لبعض الوقت.”
لقد اتّخذتُ قراري.
لن أضع طفلي الأدبيّ بين أيدي أمثال هؤلاء.
‘حسنًا، حتّى لو تخلّيتُ عن كلّ شيء، يكفيني أن أنشر الكتاب فقط.’
لو استخدمتُ خبرتي من حياتي السابقة في التسويق والترويج، فلن يكون فشلي حتميًّا.
“الكونت يدعوكِ للدخول، آنستي.”
دخلتُ المكتب ووجهي أكثر تصميمًا من ذي قبل، وقد عقدتُ العزم.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 3"