الفصل 2 :
هل تبقّى ما يُقارب عشرة أشهر؟
جلستُ على الأريكة متراخيةَ الجسد، أحدّق في السّقف، وأنا أقدّر الوقت المُتبقّي حتّى حفلة الدّبيوتان.
‘ربّما من الأفضل أن تكون رواية ظهوري الأولى أيضًا في نوع الرومانسيّة.’
في حياتي السّابقة، لم أكن ألتزم بجنسٍ أدبيٍّ معيّن، بل كتبتُ في شتّى الأنواع، واشتهرت بالإنتاج الغزير.
لكن سبب بدايتي ككاتبة كان فوزي بالجائزة الكبرى في مسابقة روايات، وكانت روايةً رومانسية.
وحكايات الحبّ تلقى رواجًا في كلّ مكان.
كما أنّها النّوع الّذي يحمل أقلّ نسبة فشل، وأكبر احتمال للنجاح.
طَرق طَرق—
“آنسة كاترينا، هل لي بالدّخول للحظة؟”
“تفضّل.”
حين فُتح الباب، اتّجه بصري تلقائيًّا إلى ذاك الاتّجاه.
‘سريعٌ فقط في مثل هذه الأمور.’
راقبتُ كيف وضع الخادم الآلة الكاتبة بحذر على المكتب.
مع أنّي طلبتُ ذلك مساء البارحة فقط، إلّا أنَّ المكتب الجديد والآلة الكاتبة قد ظهرا بالفعل في زاوية الغرفة.
بيئة الكتابة تهيّأت في لمح البصر.
“آنستي، سأغادر الآن.”
اختفى الخادم بعد أن أتمّ مهمّته.
لم يبقَ في الغرفة سوى الخادمة كلوي وأنا.
ساد صمتٌ مألوف، وعدتُ إلى تفكيري السّابق.
“أريد كتابة شيءٍ جديد… لكن لا شيء ملائم يخطر في بالي.”
أتذكّر تقريبًا ما كتبتُه في حياتي السّابقة، لكن لإعادة كتابته هنا عليّ أن أعيد صياغة المفاهيم من الأساس وأكيّفها.
ولم يكن ذلك خيارًا يشدّني، فاستغرقتُ في التّحديق في الفراغ.
“هذه كعكاتٌ خَبَزناها هذا الصّباح، جَرّبيها من فضلكِ.”
قدّمت لي كلوي كعكةً محشوّة بمربّى التّفاح، وكانت لذيذةً للغاية.
قضمتُها بصوتٍ خفيف، واختفت حالًا في معدتي.
“لكن آنستي، أليس الوقت ضيّقًا جدًّا قبل حفلة الدّبيوتان؟”
“لا يزال أمامنا تبدّل ثلاثة فصول على الأقل، ما زال الوقت طويلًا.”
كما أنَّ الأنظار الآن كلّها تتّجه إلى اختبار قبول كالاد، لذا لن يهتمّ بي أحدٌ بدأتُ للتوّ.
أجبتُ بلا مبالاة وأنا أُزيل فتات الكعك عن شفتيّ.
لكن كلوي، الّتي كانت تنظر إليّ بعينٍ قلقة، تابعت حديثها:
“يجب أن تبدئي التّحضير لحفلة الدّبيوتان قبل نصف عام على الأقل. ستحتاجين إلى جولات فساتين، وتدريبات رقص، والمشاركة في حفلات الشّاي الأخرى أيضًا…”
وبينما كنتُ أستمع إليها، تلاشى أيُّ أثرٍ للابتسامة عن وجهي.
‘كلُّ هذا لمجرّد حفلة دّبيوتان واحدة؟’
كرهتُ الفكرة فورًا، خاصّةً حين قالت إنَّ حضور اللقاءات والحفلات سيتضاعف كما حدث عندما التقيتُ كونت ليونارد.
وكلوي لا تزال تُفاجئني بمعلوماتٍ لم أفكّر بها من قبل:
“يقولون إنَّ أصعب ما في الأمر هو حفظ أسماء النّبلاء. في قاعة الرّقص يكون عدد النّاس كبيرًا، ويجب الحذر كي لا تُخطئي.”
وأنا أنظر إليها بوجهٍ جامد، بدأتُ أتخيّل المستقبل، ثم علِقتُ فجأة عند نقطة معيّنة:
قاعة الرقص.
حفظ أسماء النّبلاء.
‘هل عليّ فعلًا حفظ كلّ أسماء النّبلاء؟’
خطرت في ذهني فكرة حفلةٍ تنكّرية يُخفي فيها الجميع هويّتهم ويرقصون وهم يضعون الأقنعة.
لكن حين سألتُ كلوي عنها، بدا أنّها لم تسمع بشيءٍ كهذا.
“شكرًا لأنّكِ أخبرتِني، كلوي.”
على أيِّ حال، مادامت الرواية ترتكز على الخيال، فلا بأس إن لم تكن هناك حفلات تنكّريّةٌ فعلًا.
‘بل هذا أفضل.’
نظرتُ إلى كلوي، الّتي ضفرت شعرها البنّيّ بلُطفٍ إلى جانبٍ واحد، وبملامحها الهادئة، ثم جلستُ إلى المكتب أمام الآلة الكاتبة.
حين بدأتُ بتنظيم أفكاري حول الحفلة التنكّرية، شعرتُ بأنَّ قلبي قد خفّ.
لبثت كلوي تراقبني لبعض الوقت، وحين لاحظت توقّفي الصّغير، بادرت بالكلام:
“هل لي أن أعرف ما نوع القصّة الّتي ستكتبينها؟”
وبما أنّها خادمتي المرافقة في كلّ شيء، لم يكن هناك ما يستدعي الكتمان.
أدرتُ معصمي قليلًا، وحدّقتُ في الورقة، ثم همستُ لها:
“سأكتب رواية رومانسيّة.”
روايةٌ لم تشهدها هذا الإمبراطوريّة من قبل.
***
كنتُ أظنّ أنّني ما إن أُقرّر نوع القصّة، سأُنهيها بسرعة. لكنّ الأمر لم يكن كذلك.
رغم انطلاقي الواثقة، فقد مرّ أسبوع ولم أُحرز تقدّمًا يُذكر.
نسيتُ كم يلزم من وقتٍ وجهدٍ وتجارب فاشلة لإنشاء عملٍ إبداعيّ واحد.
“البارونة لورنس ترغب بدعوتكِ لحفل الشّاي، أفرغي وقتكِ غدًا.”
“…ألا يمكنني عدم الذّهاب؟”
“أعتقد أنَّ فساتينك بدأت تنقص، فاستغلي الخروج ومرّي على محلّ الملابس أيضًا.”
كما لو أنَّ الهموم تتراكم، فقد أصبح روتيني، الّذي كان أشبه بحياة الكسالى، أكثر ازدحامًا بعد مجيئي إلى العاصمة.
ومهما أظهرتُ من كُرهٍ للخروج، لم أستطع أبدًا هزيمة نظرات مارسيلا الباردة وابتسامتها الهادئة.
‘ما معنى الحفاظ على الهيبة أساسًا؟’
كلّ مرّة أخرجُ فيها، أعود كأنَّ روحي قد سُحبت منّي.
حين كنتُ في مقاطعة الكونت، لم أكن أخرج كثيرًا أصلًا.
لقاءاتي المتكرّرة مع النّبلاء استنزفت طاقتي الذّهنيّة.
‘لياقتي في الحضيض.’
وحين أُكمل الكتابة حتى وقتٍ متأخّر من اللّيل، أستيقظ في اليوم التالي بمظهرٍ شاحب وأتلقّى توبيخًا.
وما زلتُ بالكاد كتبتُ عن شخصيّةٍ واحدة فقط من بين ثلاثة أبطال ذكور.
“كلوي، هل سأصبح أكثر انشغالًا حين أبدأ التّحضير الدّبيوتان؟”
“بالتّأكيد. البارونة قالت منذ يومين إنّها تبحث لكِ عن مدرّبة رقص.”
على عكسي تمامًا، كانت كلوي تتابع جميع أخبار القصر.
تخيّلتُ نفسي أتمرّن على الرقص وأنا أئنّ من آلام العضلات.
‘لا يمكنني الاستمرار على هذا النحو.’
وإن ازداد سواد تحت عينيّ، فإنَّ أمّي لن تتهاون معي.
“…هل أهرب للحظة؟”
أُنجز روايتي فقط، ثم أعودُ بعد أن أُحقّق النّجاح.
كانت مجرّد فكرةٍ طائشة لفظتُها بنبرةٍ خاوية.
لكنّي أدركتُ سريعًا أنَّ العالم لا يسمح لمثل هذه الأمور.
“آنسة كاترينا.”
“…هممم؟”
نادَتني كلوي باسمي، وذلك أمرٌ نادر.
رفعتُ رأسي إليها، فإذا بها تنظر إليّ بوجهٍ جادّ.
“لا يجب أبدًا أن تفكّري بأمورٍ خطيرة كهذه. العالم بالخارج قاسٍ، وستسقطين فورًا إن دفعكِ أحدهم في الطّريق!”
إذًا هذه هي الصّورة الّتي تملكينها عنّي.
نظرتُ إليها بدهشة، ثمّ أجبتها بالكلمات الّتي تريد سماعها.
فأنا لم أكن جادّة حقًّا في فكرة الهروب.
“مجرد مزحة. أنا أيضًا لا أجيد الحياة في الأدغال.”
“الأدغال؟”
“آه، شيءٌ من هذا القبيل. لا تقلقي، لن أهرب.”
فقط حينها هدأت، لكنها ما زالت تنظر إليّ بارتياب.
لم أفكّر فعليًّا بتنفيذ تلك الفكرة.
أعلم تمامًا أنَّ العالم هنا يُعلي شأن النّسب والقوّة، والأمن ضعيف.
‘ثمّ إنّه من الصّعب أن أعيش بهدوءٍ بوجهي هذا.’
أنا مدركةٌ لنفسي تمامًا. حتّى الخروج من غرفتي لا أرغب به.
“حان وقت التّحضير للخروج.”
“آه، الآن؟”
لماذا عليّ التّحضير قبل ثلاث ساعات؟
أظهرتُ بوضوحٍ أنّي لا أرغب بذلك، لكنّ كلوي، بخبرتها، قادتني لتجهيز بشرتي وارتداء فستان الخروج.
حفلة شاي البارونة لورنس، الّذي لم تكفّ أمّي عن التّأكيد عليه منذ الأمس.
كانت تجربةً أخرى لا تختلف عن سابقاتها من ثقافة المجالس الأرستقراطيّة، وجعلتني أُدرك بمرارة أنَّ هذا العالم لا يُناسبني.
‘لا يمكنني الاستمرار هكذا.’
عدتُ إلى القصر مرهقة، أترنّح، ثم زحفتُ إلى السّرير.
إن لم أتمكّن من الهرب، فربّما يمكنني الإضراب عن الطّعام على الأقل.
قرّرتُ أن أقطع صلتي بالمجتمع كي أُركّز على التّحدّي.
“لن أتناول الطّعام.”
فجأةً، ساد التوتّر على مائدة العشاء الهادئة.
***
كاترينا حُرّة الآن.
كنتُ أُخطّط للإضراب عن الطّعام ليومين، لكنّي حصلتُ على ما أُريد في اليوم الأوّل.
‘سوف تنهارين إن واصلتِ ذلك.’
كالاد، الّذي كان دائمًا ينتقد أسلوبي في الأكل، ساعدني هذه المرّة.
رغم النّظرات الحادّة لأمّي، تمكّن والدي من التّدخّل، ممّا أتاح لي التّركيز على الكتابة وحدها.
“آنستي، لقد سخّنتُ ماء الحمّام.”
منذ ذلك الحين، لم أغادر غرفتي سوى لتخطّي العشاء.
وكادت حياتي تصبح نمطًا فوضويًّا لولا كلوي الّتي أنقذتني.
طَق—
حين نهضتُ بجسدي المُتخشّب، صدر صوتٌ من مفاصلي.
“سأُحضِر لكِ شاي اللّيمون حين تدخلين الحمّام.”
باتت كلوي جزءًا لا يُستغنى عنه من حياتي.
بقينا طوال اليوم معًا، ممّا أظهر لي مدى أهمّيّتها.
‘لكن، هل أستطيع حقًّا؟’
حين أُراجع كتابتي وحدي طوال اليوم، بدأتُ أفقد ثقتي بنفسي.
فهذا العالم لا يعرف سوى كتب التّربية، حتّى نوع الرّومانسيّة يبدو غريبًا هنا.
حين عادت كلوي، نظرتُ إليها وقلتُ بتلقائيّة:
“هل تريدين قراءة ما كتبتُه؟”
في النّهاية، سأُريه للآخرين، فلم لا أبدأ بها؟
ثم أراقب ردود فعلها وأعدّل ما يلزم.
وتوقّعتُ أن لا تمانع كلوي.
“…نعم! أنا حقًّا أرغب بقراءة ما كتبتِه، آنستي.”
في تلك اللّحظة، تغيّرت نظراتها فجأة، وكأنَّ الجوّ تبدّل، أو ربّما كان ذلك مجرّد وهم.
لكنّني لم أُعِر الأمر أهمّيّة.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 2"