11
قالت الإمبراطورة أنيشا ذلك وهي ترفع يدها قليلاً في إشارةٍ خفيفة. تقدم خادم كان يقف عند الباب ووضع أمامها صندوقًا بحجم كتاب، ثم انسحب بهدوء.
كان الصندوق يبدو، حتى من مجرد النظر إليه، وكأنه يحتوي على شيءٍ غير عادي، شيءٍ يفوق التوقعات.
“لقد أعددته لأجلك، لكن الهدية الحقيقية هي أن تمنح الشخص ما يرغب فيه فعلاً. يا آنسة مويتون، إن كان هناك شيءٌ تطمحين إليه، فأخبريني به.”
وجهت عيني نحو الصندوق، ودون أن أشعر ابتلعت ريقي. لا شك أن ما بداخله ثمينٌ للغاية، شيءٌ نادرٌ باهظ القيمة. وبعيدًا عن قيمته المادية، فإن فرصة نيل شرف تلقي عطيةٍ من الإمبراطورة لن تتكرر مرةً أخرى في حياتي.
نظرتُ إلى ستين، الواقف خلف الإمبراطورة أنيشا، فأومأ برأسه برفق كمن يحثني على اغتنام هذا الشرف.
ابتلعت ريقي مرةً أخرى ومددت يدي نحو الصندوق، لكنني أغمضت عيني بقوة وسحبت يدي سريعًا. شعرت أنني إن رأيت ما بداخله، قد أفقد قدرتي على ضبط نفسي.
هززت رأسي لأطرد الفوضى التي اجتاحت أفكاري، ثم فتحت فمي. لا شيء أخسره إن حاولت.
“أشعر بالخجل الشديد، يا جلالتك، لكن إن أمكن، هناك شيءٌ أود طلبه.”
“أوه، حقًا؟ تحدثي إذن.”
“أرغب… أن أصبح طبيبة القصر الإمبراطوري.”
“طبيبة القصر؟”
“نعم، يا جلالتك. إنه حلمٌ راودني منذ أيام الأكاديمية. إن أتيحت لي فرصة الانضمام إلى المعهد الطبي الإمبراطوري، سأعمل بجدٍ أكبر مما فعلت حتى الآن.”
انتهت كلماتي، ولم ينبس أحد ببنت شفة. لقد تجرأت وطلبت مقعدًا في المعهد الطبي الإمبراطوري، الذي يختار أطباءه بعنايةٍ فائقة بعد اختباراتٍ صارمة. هل سيعاقبنني لجرأتي؟
هل سيغضبون لأن شخصًا لا يستحق يطمع في منصبٍ يفوق قدراته؟
ظللت منحنيةً برأسي في قلقٍ بالغ، حتى سمعت همهمةً خافتة من أنيشا – “همم”- فرفعت رأسي.
كانت شفتاها الحمراء ترتسمان قوسًا أعمق مما كانا عليه قبل قليل، لكن تعابير وجهها بدت أبعد ما تكون عن الابتسامة.
“لقد أخطأت.” فكرتُ أن طلبي لأن أصبح طبيبة القصر كان تجاوزًا لا يغتفر. بدأت أقلق أن أفقد حتى الهدية التي كانت ستُمنح لي، فنظرت إلى الصندوق. في تلك اللحظة، سألت الإمبراطورة ستين:
“ستاين، ألم تقل أن هناك مقعدًا شاغرًا في القصر؟”
“نعم، يا جلالتك. لقد أصبح هناك منصبٌ شاغر مؤخرًا، لكن الآنسة مويتون يجب أن تمر بمرحلة التدريب أولاً.”
“إن كانت تملك المهارة، فستتجاوز ذلك أيضًا. خذها إلى بينتوس.”
“حاضر، يا جلالتك.”
بينتوس؟ إنه اسم أعلى طبيب في القصر الإمبراطوري، المسؤول حاليًا عن صحة الإمبراطورة.
هل نجحت؟ بهذه السهولة؟ كنت أتوقع فرصةً لخوض اختبار استثنائي على الأكثر، لكن أن ألتقي بأعلى طبيب في القصر وأصبح طبيبةً متدربة مباشرة؟ بينما كنت أقف مذهولةً من هذا التطور المفاجئ، قالت أنيشا:
“أثق بأنك ستؤدين واجب طبيبة القصر بامتياز.”
“نعم، سأبذل قصارى جهدي. شكرًا لكم، يا جلالتك.”
انحنيتُ بسرعة، وفي تلك اللحظة، التقطتُ لمحةً من وجه أنيشا وهي تقوم من مقعدها. شعرتُ أنها ابتسمت، لكن ذلك كان غالبًا وهمًا مني.
غادرت أنيشا غرفة الاستقبال، تاركةً وراءها أنا وستين وحدنا. استندتُ بجسدي المرهق إلى ظهر الكرسي، وأطلقتُ تنهيدةً عميقة كنت أكبتها. قال ستين بنظرةٍ غريبة:
“سأرافقك إلى المعهد الطبي الإمبراطوري.”
“السيد ستاين، هل سأصبح طبيبة القصر حقًا؟ إذا ذهبت الآن، هل سأكون طبيبةً متدربة في المعهد الطبي؟”
“بأمر جلالتها، هكذا سيكون الأمر. لكن الحصول على لقب طبيبة القصر يعتمد على قدرتك أنتِ، يا آنسة ناز.”
“يا إلهي، أليس هذا حلمًا؟”
“ليس حلمًا، لكن طلبك المفاجئ أدهشني.”
“أنا أيضًا مندهشة. لم أتوقع أن تُستجاب رغبتي.”
أمسكتُ وجنتيّ بكلتا يديّ وقمتُ من مقعدي. خرجتُ من القصر الرئيسي متجهةً نحو القصر الخارجي حيث يقع المعهد الطبي، ولم تهدأ ثورة الحماس بداخلي.
تبعتُ ستاين الذي يتقدم أمامي، وحاولتُ أن أستوعب ما يحدث لي بقرص يدي، لكن يدي وعقلي ظلا في حالة ذهول.
هذا الصباح، بينما كنت أثرثر مع جيبريل، لم أكن لأتخيل حدوث شيءٍ كهذا. بل حتى هذا الصباح؟ لم أحلم يومًا بمثل هذا الخيال.
ان أدخل المعهد الطبي الإمبراطوري بدعم الإمبراطورة نفسها؟ هل هذا معقول؟
كنت أظن أن منصب طبيبة القصر سيكون بعيد المنال ما دام ديكينز، الطبيب السابق في الأكاديمية، متمسكًا بموقعه، وكل ما كنت أتمناه هو تقاعده السريع.
لكن أن يحدث هذا؟ لا أعتقد أنه سيجرؤ على معارضة أمر الإمبراطورة ويرفض تعييني.
تخيلتُ وجه ديكينز، الذي كان يقول لي “لا تحلمي بطبيبة القصر ما دمتُ هنا”، وهو يتجعد من الغيظ، فزاد ذلك من ابتهاجي.
أعلم جيدًا أن هذا ليس أمرًا للفرح المطلق. طبيبة تدخل المعهد الطبي الإمبراطوري، حيث يجتمع أفضل أطباء إمبراطورية لينتون، بأمر الإمبراطورة دون اختبار؟ سينظر إليّ أطباء القصر ذوو الكبرياء بعين الازدراء، وربما يتعمد ديكينز مضايقتي علنًا.
لكنني أعلم أيضًا أن الأمر يستحق كل هذا العناء. سأعمل بجدٍ أكبر من أي شخصٍ آخر، وسأثبت كفاءتي بمهارتي. عاهدتُ نفسي بذلك بقوة، ودخلتُ مع ستين إلى مكتب بينتوس، أعلى طبيب في القصر.
نظر إليّ بينتوس، بعد أن تلقى أمر الإمبراطورة من ستين، بنظرةٍ متعجبة. كان الطبيب العجوز ذو اللحية البيضاء الكثيفة يمتلك عينين حادتين، لكن نظرته وهو يتفحصني لم تحمل رفضًا أو استياءً.
“ناز مويتون، منصب طبيبة القصر ليس شيئًا يُنال بسهولة. أتدركين ذلك؟”
“نعم، سيد بينتوس.”
“كثيرون يظلون متدربين طوال حياتهم ثم يُطردون. حتى بأمر جلالتها، لا يمكن لمن لا مهارة له أن يُدعى طبيبًا في القصر.”
“أعرف ذلك.”
أجبتُ بثقةٍ وجرأة. كنتُ مستعدةً لسنوات التدريب منذ اللحظة التي قررتُ فيها السعي لأكون طبيبة القصر. ديكينز، الأستاذ السابق في الأكاديمية، حصل على منصبه كتعيينٍ استثنائي بفضل إنجازاته الأكاديمية، لكنني أبدأ من نقطةٍ مختلفة عنه.
من بين عشرات الأطباء في المعهد الطبي الإمبراطوري، لا يتجاوز عدد من يُطلق عليهم “طبيب القصر” عشرةً، والباقون متدربون يكتسبون الخبرة تحت إشرافهم.
شرحتُ لبينتوس باختصار ما تعلمته في الأكاديمية، وما قمتُ به خلال أربع سنوات كمحققة.
ضحك بصوتٍ خافت وقال إن طبيبةً بمثل هذا السجل الفريد قد انضمت إليهم، وأخبرني أنه سيختار لي معلمًا، وعليّ أن أبدأ العمل الأسبوع المقبل
. لم أعرف من سيكون معلمي من أطباء القصر، لكنني تمنيتُ ألا يكون ديكينز، وغادرتُ مكتبه.
بينما كنت أكبح ابتسامتي المتصاعدة وأستمع إلى ستين يشرح أنهم سيرسلون بطاقة هويتي قبل نهاية الأسبوع، سألني:
“هل أنتِ سعيدة إلى هذا الحد؟”
“نعم، بصراحة أشعر أنني سأطير. كان هذا حلمي منذ زمن.”
“أوه، حقًا؟”
“لن أدع هذه الفرصة الثمينة التي منحتني إياها جلالتها تذهب سدى. سأصبح طبيبة القصر مهما كلف الأمر.”
“إن كان هذا حلمكِ يا آنسة ناز، فانظري إليه واركضي نحوه.”
“سأفعل!”
رفعتُ قبضتيّ بحماسٍ ردًا على ما اعتبرته تشجيعًا، لكن وجه ستين لم يكن مشرقًا. سار إلى جانبي بتعبيرٍ متصلب، وعندما وصلنا إلى مدخل القصر، قال بصوتٍ جامد كوجهه:
“القصر مكانٌ مخيفٌ لا يسمح بتشتت الانتباه.”
“ماذا؟”
“إلى اللقاء.”
سألته عن معنى كلامه الغامض، لكنه استعاد تعابيره المعتادة بسرعة، واكتفى بإيماءةٍ وداعية قبل أن يغادر دون رد. حدقتُ في ظهره وهو يبتعد، أعيد في ذهني كلماته.
“القصر مكانٌ مخيف”؟ هل يقصد الصراعات والمؤامرات التي تُروى عنه في الشائعات؟
مكانٌ قد يقتل فيه العاشق السابق للإمبراطورة خليلها الحالي؟ لم يكن كلامه خاطئًا، لكن كل ما أطمح إليه هو أن أصبح أفضل طبيبة في الإمبراطورية، لا أكثر.
لا نية لدي للتورط مع العائلة الإمبراطورية التي لا أستطيع فهم أفكارها مهما طال تأملي فيها. آه، لكن إن أصبحت أعلى طبيبة في القصر، قد أعالج الإمبراطورة يومًا ما. لكن المعالجة بعيدةٌ عن المؤامرات، أليس كذلك؟
ضحكتُ بصوتٍ خافت بعد تفكيرٍ طويل. أنا، التي حصلت للتو على منصب متدربة، أفكر في معالجة الإمبراطورة؟ لقد ذهبتُ بعيدًا جدًا.
عدتُ إلى إدارة الأمن بخطواتٍ خفيفة، وهرعتُ إلى فيرنو لأخبره عن المكافأة التي تلقيتها من الإمبراطورة. اتفقنا أن أنهي تقارير القضايا التي كنت أعمل عليها وأسلمها بحلول الجمعة، لأختتم بذلك أربع سنوات من عملي كمحققة.
وعدني فيرنو بحفل وداعٍ ، فشكرته وتوجهتُ إلى غابريال. كان ينتظر بفضولٍ شديد ليعرف مكافأتي، وعندما سمع قصتي، صرخ مصدوما:
“ماذا؟ طبيبة القصر؟!”
“متدربة فقط حتى الآن، لكنني سأبدأ العمل في المعهد الطبي الأسبوع القادم.”
“كنت أتساءل عما ستعطيك إياه جلالتها، فما هذا الخبر المفاجئ يا سيدتي؟ ماذا سأفعل إن تركتِ إدارة الأمن؟ آه، لكنكِ قلتِ منذ البداية إن حلمكِ طبيبة القصر. تهانيّ، تهانيّ، لكنني حزين جدًا، ماذا أفعل؟ لا، لا يفترض بي أن أحزن، صحيح؟”
“لا بأس، غابريال. أنا أيضًا حزينة. لم أتوقع أن أنتقل بهذه السرعة.”
احتضنني غابريال وهو يتذمر بحزن. أصرت أن نشرب معًا الليلة، فجرتني بعد انتهاء العمل إلى حانةٍ قرب إدارة الأمن.
أراد أن يكافئني على تعبي، فطلب كميةً من الأطعمة الحارة التي أحبها. وبينما هو الذي لا يطيق الطعام الحار، تمسك بكأس الخمر، شرب وهو يبكي ويففرغ حزنه حتى أنهكته الدموع.
مرت ليلة الشرب الذي قضيته مع زملاء المحققين حتى الفجر بسلام، وودعتُ إدارة الأمن التي عملت فيها يوميًا لأربع سنوات.
بطاقة الهوية التي أرسلها القصر أثارت فيّ الحماس، والشرب المتواصل أورثني صداعًا، فأمضيتُ عطلة نهاية الأسبوع أهدئ جسدي وعقلي. كتبتُ رسالةً لأخي الأكبر أخبره أنني أصبحت طبيبة القصر أخيرًا، وخبزتُ كميةً من الكعك لأقدمها مع تحيتي الأولى لزملائي الجدد.
ثم حلّ صباح يوم الإثنين، أول يوم عملٍ لي في القصر.
—
يقع المعهد الطبي الإمبراطوري في القصر الخارجي الثاني، أحد المبنيين الكبيرين اللذين يظهران فور عبور بوابة القصر الرئيسية، والمعروفين باسم القصر الخارجي الأول والثاني.
أظهرتُ بطاقة هويتي، التي كُتب عليها “طبيبة متدربة” بوضوح، للحراس الذين اعترضوا طريقي، ودخلتُ المبنى بثقةٍ متجهةً إلى مكتب بينتوس. كان هناك، إلى جانبه، رجلٌ نحيف في منتصف العمر.
“المتدربة ناز مويتون.”
“نعم، سيد بينتوس.”
“هذا السير كورنيليوس دربيل، الذي سيرشدك.”
ابتهجتُ داخليًا. لم أتجنب ديكينز فحسب، بل حصلتُ على فرصة التعلم تحت إشراف كورنيليوس، الذي يُقال إنه ينافس بينتوس في علاج الإصابات. انحنيتُ بسرعة وقلت بحماس:
“أنا ناز مويتون، سيد كورنيليوس! سأتعلم بجد!”
“حسنًا، لا أعرف كم ستتحملين.”
بدَا أن كورنيليوس غير متحمسٍ لمتدربةٍ وصلت بأمر الإمبراطورة فجأة، لكنني لم أتوقع ترحيبًا حارًا منذ البداية. عزمتُ على ملاحقته بعزيمةٍ قوية لأتعلم، وابتسمتُ ابتسامةً عريضة رغم الجو المتوتر.
نظر إليّ كورنيليوس، وبدا أنه سيقول شيئًا لبينتوس، لكنه اكتفى بتنهيدةٍ عميقة وقال لي:
“اتبعينني.”
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 11"