في قلب مدينة نيويورك الصاخبة، وعلى ارتفاع شاهق في أحد الأبنية الفخمة، كانت شقة تعكس حياة مختلفة، حياة بين الفخامة والهدوء.
جدرانها تحمل صمتاً ناعماً، وأثاثها يعكس ذوقاً رفيعاً، لكن بين كل تلك الأناقة، كانت هناك حالة من الترقب… انتظار لحظة تملأ المكان بدفء إنساني نقي.
.
نيويورك – الشقة – الساعة 11:30 مساءً
كانت الشقة هادئة بشكل غريب، كأنها تستعد للترحيب بشيء طال انتظاره.
أبقى جان الباب موارباً، وجلس على حافة الأريكة، يحاول التركيز في شاشة هاتفه… دون جدوى. كل دقيقة تمرّ كانت ثقيلة، وكل صوت من الخارج يجعل قلبه يقفز.
ثم سمعه.
خطوات ثقيلة تجرّ شيئاً عبر الممر، تبعتها طرقة خفيفة على الباب كنوع من المجاملة، ثم دُفع الباب ببطء.
ظهر أوزان.
متعب، شعره مبعثر قليلاً من السفر، في إحدى يديه حقيبة السفر، وفي الأخرى كيس ورقي بني عليه شعار مطعم للوجبات السريعة.
رفع أوزان الكيس مبتسماً ابتسامة باهتة.
أوزان:
“أحضرت لك برغر.”
تجمّد جان لثانية، رفع رأسه ببطء، وارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة، صادقة، لا تشبه تلك التي يوزّعها في الاستوديو أو أمام الكاميرات… بل تلك التي لا تظهر إلا أمام شخص واحد فقط.
تقدم خطوة نحو أوزان، ورفع يديه ببطء نحوه.
جان (بهمس):
“أوزان…”
ترك أوزان الحقيبة على الأرض، ووضع الكيس على الطاولة بهدوء، ثم مد ذراعيه، فاقترب جان أكثر واحتضنه.
ظلّا متعانقين لوهلة، وكلاهما مستمتع بالدفء الذي لطالما افتقداه.
بعدها جلسا على الأريكة جنباً إلى جنب.
تطلّع أوزان إلى جان بنظرة قلقة.
“كيف حالك… لقد قلقت عليك.”
أجاب جان بهدوء، وهو يربت على ذراعه برفق.
“أنا بخير… كانت مجرد لحظة عابرة.”
رن جرس الشقة فجأة، فأومأ أوزان برأسه باستغراب.
أوزان:
“هل تنتظر أحداً؟”
ابتسم جان بخفة، وهو يقف ويتجه نحو الباب.
“لقد طلبت العشاء لنا… سوشي.”
وقف أوزان يتابع جان بعينين مبتسمتين ، وسرعان ما استلم جان الطلب من عامل التوصيل، دفع له الحساب وأغلق الباب ..
أوزان(يضحك بخفة ):
“إذا… طلبت لي سوشي أخيراً .”
جان (وهو يفتح العلبة ويضعها على الطاولة):
“أردتُ شيئاً تُحبّه أنت، لا أنا.”
ثم نظر إليه بابتسامة جانبية تحمل شيئاً من الدفئ:
“وأنا أعلم أنك تحبّ السوشي أكثر مما تُقِرّ بذلك.”
أوزان (وهو يخلع سترته ويجلس):
“صحيح… كنت واثقاً أنك ستطلبه.”
يمدّ جان يده ويضع عيدان الطعام أمامه، ثم يفتح كيس البرغر، ينظر إليه بلطف ويقول:
جان (بأمتنان):
“شكراً على البرغر.”
ابتسم أوزان وأعاد النظر إليه، وبدأت أجواء الشقة تمتلئ بدفء اللقاء وروح الصداقة التي تجمعهما.
»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»
أسطنبول – الحديقة الخلفية لمنزل عائلة آصلان- عصر ناعم دافئ
جلس مارت على العشب الأخضر الناعم، ذراعاه مفتوحتان كالأجنحة، وابتسامة دافئة ترتسم على شفتيه. نسيم خفيف يلامس وجهه، وصوت الطيور يملأ المكان بسلام.
رفع مارت ماهر ببطء في الهواء، دار به في حركة دائرية ناعمة، والطفل يصرخ بفرح ويصفق بيديه الصغيرتين.
هبط به بلطف على العشب، ورسم ابتسامة وهو يقول:
“استعد، سنلعب مباراة كرة قدم حامية!”
ابتسم ماهر بحماس وجلس على العشب أمام والده، بينما أخرج مارت من خلف ضهره كرة قدم صغيرة ذات لون أبيض وأسود.
توجه مارت بنظرة إلى إيليف التي كانت تقترب منهما.
مارت: “ستذهبين الآن لرؤية صديقتك، أليس كذلك؟”
إيليف: “نعم… سأعود عند التاسعة مساءً.”
ابتسم مارت برفق وقال:
“استمتعي بوقتك.”
ثم نهض، ورمى الكرة برفق نحو ماهر، الذي حاول ركلها بقدمه الصغيرة، تعثر قليلاً لكنه استعاد توازنه بسرعة.
ركض ماهر خلف الكرة، وضربها مرة أخرى بقدمه الصغيرة، ضاحكاً ومتحمساً.
ابتسم مارت وهو يراقب ابنه بحنان، وقال بصوت دافئ:
“أنت لاعب موهوب، بطل صغير في الملعب.”
»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»
نيويورك – كافيه صغير هادئ – مساء
كان المطر يتساقط بخفة، يرسم قطرات متناثرة على زجاج النوافذ الكبيرة للكافيه، بينما غطّى المكان دفء خافت من أضواء صفراء ناعمة.
جلس جان وأوزان إلى طاولة خشبية قرب النافذة، أمامهما كوبان من القهوة تنبعث منهما رائحة مريحة، وصوت الجاز الخفيف ينساب في الخلفية.
دخل الشيف دانييل وجيمس، يخلعان معاطف المطر المبللة، وتعلو وجهيهما ابتسامة دافئة حين أبصراهما.
نهض أوزان على الفور، وتقدّم يعانقهما بحرارة، وكأن غيابه لم يكن سوى لحظة.
الشيف دانييل (وهو يربت على ظهره):
“أوزان… المطعم افتقدك، وأنا كذلك.”
جيمس (ضاحكًا بخفة):
“بدونك، صرتُ أُحرق الصوص كل يومين.”
ضحكوا جميعاً، ثم جلسا إلى الطاولة، وضاقت الدائرة بهم في دفءٍ وديٍّ.
أوزان (بصوت منخفض صادق):
“أنا ممتن لكم… هذا المكان كان بيتي، وأنتم كنتم عائلتي حين احتجت واحدة.”
التفت الشيف دانييل نحو جان، نظراته تحمل مزيجاً من الدهشة والاحترام، لكن بصمت حكيم.
الشيف دانييل:
“ولم أتوقع أن يستمر جان بالتواصل معنا… اعتقدتُ أن أخباره ستنقطع بسفرك ،لكنه فاجئني بزياراته المتكررة.”
جان (بتأنٍ، وعيناه إلى فنجانه قبل أن يرفع نظره إليه): “كنتم أول من منحني فرصة حين كنت غريباً… أنا لا أنسى هذا.”
ساد صمت لحظة، لكنه كان صمتاً دافئاً، مليئًا بالتقدير.
جيمس (ينظر إليهما متأملاً):
“أتعلمون؟ حتى في أكثر الأيام أنشغالاً… كان حديثكم في المطبخ يعيد الروح للجو. افتقدنا هذا.”
ابتسم أوزان بخجل، بينما مال جان بخفة إلى الوراء، وألقى نظرة جانبية على أوزان، كأن في عينيه امتناناً لا يحتاج إلى كلمات.
جان (بنبرة مرحة وهو ينظر إليهم):
“ما رأيكم بطبق الحلوى الذي كنت أكرهه؟ أظنني مستعد لتجربته مجدداً .”
دانييل (يضحك ضحكة صافية):
“هذا تطور كبير! سأعتبره إنجازاً مهنياً .”
ارتفعت الضحكات بينهم، بينما عادت الحياة لتنسج خيوطها القديمة في تفاصيل جديدة… تفاصيل تشبه العائلة.
»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»
أسطنبول – منزل عائلة آصلان- غرفة مارت و إيليف – ليل متأخر
ضوء خافت يتسلل من مصباح صغير في الزاوية، يرسم ظلالاً ناعمة على الجدران.
إيليف نائمة على السرير، تحتضن “ماهر” الصغير، الذي ينام بعشوائية، إحدى قدميه خارج الغطاء، وذراعه ممدودة على وجهه، وشعره فوضويٌّ بلطافة.
في الزاوية، على الكنبة، يرقد مارت في صمت. جسده متيبّس، جفناه يتحركان بسرعة، أنفاسه متسارعة، وكأن شيئاً ما يطارده في الحلم.
فجأة…
صرخة مكتومة تشقّ سكون الليل:
مارت (ينهض بفزع، يلهث ومتعرقاً):
“لاااا…!”
تستيقظ إيليف على الفور، تحدق نحوه بذعر، ثم تنهض مسرعة من السرير.
إيليف (بقلق وهي تقترب منه):
“مارت… هل أنت بخير؟”
يجلس مارت على حافة الكنبة، ينزل قدميه إلى الأرض الباردة، يمرّر كفيه المرتجفتين على وجهه، يحاول السيطرة على أنفاسه.
مارت (بصوت منهك، شبه هامس):
“لم أعد أحتمل هذه الكوابيس…”
تجلس إيليف قربه على طرف الكنبة، تحيطه بنظرة حزينة، صامتة لحظة.
إيليف (برقة يائسة):
“أنت ترفض الذهاب إلى طبيب نفسي…”
مارت (نظره ثابت في الأرض، نبرته فارغة):
“وماذا أقول له؟
أني أرى نفسي أقتل أخي في كل مرة أغمض عيني؟
ليست كوابيس يا إيليف…
إنها الحقيقة.”
لحظة صمت.
تمدّ إيليف يدها وتضعها فوق يده، تضغط بلطف:
إيليف (بصوت متهدج):
“كفّ عن لوم نفسك… أرجوك، مارت.”
مارت (يشيح بوجهه، صوته مختنق):
“يفترض بكِ أن تلوميني، لا أن تسامحيني.”
إيليف (بنظرة حاسمة وهادئة):
“هل لمتَ جان على موتهم؟
لا…
…الأمر نفسه مارت …أذا كنت قد سامحت جان …فسامح نفسك “
مارت (يهمس، بالكاد يُسمع):
“ليتني أستطيع… مسامحة نفسي.”
ساد صمتٌ ثقيل، لم يُقاطع سوى صوت أنفاس ماهر المنتظمة من السرير، كأن العالم كله توقف في تلك اللحظة.
إيليف لم تُجب، فقط شدّت يدها فوق يده، تبقى معه في الظلمة، بصمت…
وفي عينيها، كانت هناك دعوة للصبر… لا إجابة، بل بقاء.
»»»»»»»»»»»»»»»»»»»
نيويورك – شقة جان – المساء
في غرفة المعيشة، انعكس ضوء شاشة التلفاز على وجهي جان وأوزان وهما يجلسان أرضاً، متجاورين، وكلٌّ منهما يُمسك بجهاز التحكّم وكأنهما يخوضان معركة مصيرية.
جان (بحماس وهو يضغط الأزرار):
“هذه المرة سأُسجّل هدفاً يجعلك تعتزل اللعب نهائياً !”
أوزان (ضاحكاً بثقة):
“تحلم! حتى أيام المدرسة، لم تكن تعرف كيف تُحرّك لاعبك بشكل صحيح.”
دوى صوت حماسي من اللعبة، تلاه تصفيق إلكتروني، فرفع جان ذراعيه عالياً منتشياً :
“هاه! هدف! ألم أقل لك؟!”
أوزان (ساخراً وهو يُلقي بجهاز التحكّم جانباً ):
“الحظ دائماً يحالفك… لكن الجولة القادمة ستكون لي، لا تقلق.”
ضحك الاثنان، ثم مال جان برأسه إلى الخلف مستنداً إلى الأريكة، تنفّس بعمق كأنّ شيئاً في داخله استقرّ أخيراً.
بعد لحظة صمت، حدّق أوزان بجان وقال بنبرة مترددة:
“جان… أردت أن أسألك عن ليلى، هل هي مرتبطة؟”
ارتبك جان قليلاً، ثم قال بابتسامة خفيفة:
“لماذا؟ هل وقعتَ في حبها؟”
أوزان:
“ليس إلى هذا الحد… لكن شخصيتها تعجبني.”
(يصمت للحظة ثم يبتسم بمكر)
“وقوامها أيضاً.”
سكت جان ولم يجب.
لاحظ أوزان صمته، فمال نحوه قليلاً وقال بقلق:
“… ما الأمر؟ هل أنتما…؟”
ضحك جان بسخرية مريرة:
“تتحدث وكأنك لا تعرفني.”
أوزان (بجدية):
“بل أعرفك جيداً …ولذلك ارتباكك لم يخفَ عليّ.”
تنهد جان ببطء، ثم قال بصوت منخفض:
“أوزان… لا أعلم إن كان من حقي إخبارك بهذا، لكن…”
(ينظر إلى عينيه مباشرة، ثم يكمل)
“ليلى اعترفت لي بأنها تحبني.”
اتسعت عينا أوزان بدهشة:
“و…؟”
قاطع جان السؤال قبل أن يكتمل:
“رفضتها.”
ساد صمت قصير، ثم قال أوزان بهدوء:
“ربما كان عليك أن تُجرّب.”
نهض جان وتقدم نحو النافذة الكبيرة، ونظر إلى أضواء مانهاتن المتلألئة في البعيد، وقال دون أن يلتفت:
“لا أريد.”
أوزان (بهدوء):
“عليك أن تنساها، جان.”
وضع جان قبضته على الزجاج برفق، وضربه ضربة خفيفة بالكاد تُسمع، ثم همس:
“ليتني أستطيع.”
أوزان (وقد اعترته نبرة قلق):
“جان… هل…؟”
قاطعه جان بصوت واضح لكنه خافت:
“لا تقلق… أنا بخير، صدقني. تعلّمت كيف أتعايش مع الأمر. لكن لن أكذب عليك…”
(ينظر إليه بنظرة ممتلئة بالصدق)
“قلبي… لا يزال ينبض باسم إيليف.”
أوزان لم يقل شيئاً لبرهة، ثم تمتم بصوت أشبه بالرجاء:
“ستنساها… يوماً ما.”
»»»»»»»»»»»»»»»
نيويورك – شقة جان – صباح اليوم التالي
كانت الغرفة تغمرها إضاءة دافئة خافتة، تنعكس على الجدران بلونٍ برتقاليّ هادئ. جلس أوزان على الأرض قرب الأريكة، يطوي قميصاً ويضعه في حقيبته المفتوحة أمامه.
دخل جان من المطبخ وهو يحمل كوبين من الشاي، واقترب بهدوء وقدّم أحدهما لصديقه.
جان (بابتسامة):
“ها هو شايك، بدون سكّر، كما تحبّه.”
أوزان (يأخذ الكوب وينظر إليه بمكر):
“مذهل… لقد أصبحت تعرف كيف تُعد الشاي! معجزة.”
جان (يضحك وهو يجلس بجواره):
“مضطر لذلك… بعد أن تركتني وحدي، كان عليّ أن أتعلّم شيئاً على الأقل.”
“وأنا سأشتاق لوجوهكم هنا… لكن لا تقلق، الرحيل لا يعني النهاية.”
ساد صمتٌ خفيف بينهما، لكنه لم يكن صمت وداع بقدر ما كان امتلاءً بما لم يُقال…
»»»»»»»»»»»
نيويورك – مطار جون إف كينيدي – بعد ساعة
كان الجو في الخارج لا يزال محمّلاً برذاذ الصباح البارد، حين توقفت السيارة أمام بوابة المغادرين. ترجل أوزان من المقعد الأمامي، بينما تبعه جان من الجهة الأخرى، يساعده في إنزال الحقيبة من صندوق السيارة.
جان (بابتسامة خفيفة، وهو يناوله الحقيبة):
“أمتعتك أصبحت أخفّ ممّا كانت حين وصلت… هل قررت التخلّي عن شيء هنا؟”
أوزان (ضاحكاً وهو يأخذ الحقيبة):
” ربما… لكنّي لم أترك سوى بعض الثقل الذي كان على قلبي.”
تبادل الاثنان نظرات قصيرة، صامتة، لكنّها كانت تحوي ما يكفي من الامتنان والعشرة الطويلة.
جان (بصوتٍ منخفض):
“شكراً لأنك أتيت، وشكراً أكثر… لأنك بقيت كل هذه الأيام.”
أوزان (وقد وضع يده على كتف جان):
“وهل كنت سأدعك تمر بكل هذا وحدك؟”
(يصمت لثوانٍ ثم يتابع بمزاح خفيف)
” لكن لا تعتدّ كثيراً على هذه الرفقة… لقد أعددتُ الشاي أكثر مما ينبغي هذا الأسبوع!”
جان (يضحك):
” وأنا بدأت أتقنه… لكن طعمه لا يشبه الشاي الذي تعدّه.”
أومأ أوزان، ثم خطا خطوة نحو بوابة الدخول، قبل أن يتوقف فجأة ويلتفت إليه:
أوزان (بصوتٍ أخف):
” جان… اعتنِ بنفسك، حسناً؟”
جان (بابتسامة ثابتة):
” أعدك.”
لوّح له أوزان بيده، قبل أن يختفي بين الزحام المتدفق نحو بوابات المغادرة. أما جان، فظل واقفاً مكانه للحظة، يتابع بابتسامة خفيفة الطائرات التي ترتفع تباعاً في السماء الرمادية… وكأنّها تحمل جزءاً آخر من فصله المؤلم بعيداً.
نيويورك – استوديو التسجيل – بعد قليل من وداع أوزان
دخل جان الاستوديو بخطى ثابتة، لا تزال آثار وداع أوزان عالقة في عينيه، لكنه بدا أكثر صمتاً من المعتاد. ألقى حقيبته الصغيرة إلى جانب الأريكة، وألقى بجسده فوقها متنهّداً.
ظهر مديره، رجل في أواخر الأربعينات، يحمل أوراقاً ويبدو منشغلاً كعادته، لكنه ما إن رأى جان حتى اقترب منه.
المدير (بابتسامة خفيفة):
“أخيراً وصلت… عندي لك مفاجأة.”
جان (يرفع رأسه بتعب):
“مفاجأة؟ في هذا الوقت من الصباح؟”
المدير (يناوله ورقة):
“ستقيم حفلاً مباشراً… في إسطنبول.”
سكت جان، وراح يحدّق في الورقة بذهول. لم ينطق، فقط مرت لحظة كأن الزمن توقّف فيها.
جان (بصوت خافت):
“إسطنبول؟”
المدير (بهدوء):
“نعم. كل شيء تمّ الاتفاق عليه. الجمهور بانتظارك هناك.”
رفع جان نظره إليه، وصمتٌ ثقيل ساد بينهما، يحمل في طياته مزيجاً من المفاجأة، والرهبة، وربما شيء لم يُقال بعد.
»»»»»»»»»»»»»»»»»»
نيويورك – الاستوديو الموسيقي – مساء
المكان يضجّ بالحياة، نغمات البيانو تتداخل مع صوت الغيتار والطبول. على المسرح الداخلي، كان الفريق بكامله يتدرّب بحماسةٍ على الأغنية الختامية، بينما يقف “جان” أمام الميكروفون، يراقب الجميع بعينين متألقتين.
ليلى (وهي تضع السماعات جانباً ):
“حسناً، أعتقد أننا نقترب من الوداع الرسمي… نيويورك ستصبح فجأة فارغة.”
إيريك (مازحاً وهو يمسح العرق عن جبينه):
“لا تبالغوا. لوس أنجلوس لليلى، إسطنبول لجان… وأنا وراف سنتجه إلى شيكاغو. على الأقل سنبقى على نفس القارة!”
راف (يربت على كتف جان):
“لكن العرض في إسطنبول… هذا ضخم، جان. لقد وصلتَ فعلاً.”
ابتسم جان بخفوت، وهزّ رأسه دون أن ينطق.
ليلى (تبتسم له وهي تشد على يده):
“أردتُ أن أكون هناك لأراك، لكن العرض في لوس أنجلوس بنفس التوقيت تقريباً. سنشاهد بعضنا من بعيد… عبر الشاشات.”
ضحك الجميع بخفة، لكن الصمت تسلل سريعاً بعدها، كأن كلّ واحد منهم بدأ يدرك كم اقتربت لحظة التفرّق.
بينما انشغل الآخرون بتوضيب المعدات مؤقتاً، جلس جان على حافة المسرح، يحدّق في إحدى الأضواء المسلّطة التي بدأت تخفت مع انتهاء التدريب.
جان ( بصوتٍ داخلي هادئ وهو يضغط على أصابعه ):
“لن أخبر أوزان… لو عرف، سيقلق… سيحاول منعي… أنا بحاجة لخوض هذه الخطوة وحدي، مهما كان الثمن.”
شعر بشخص يجلس بجواره ، التفت ليرى ليلى تنضر له بأبتسامة هادئة
التقت عينيهما لثوان، للمرة الأولى يلاحظ انهما تشبها عيني إيليف
تمتم جان بسره :
“هل بدأت أتخيل ام أنني لم أكلف نفسي حتى بالنظر الى ليلى من قبل”
لاحظت ليلى شروده فبدأت تحرك كفها امام وجهه :
” هل أنت هنا؟ …أين شردت “
جان ابتلع ريقه، وعاد ببطء إلى الواقع، عينيه تتبعان حركة يدها أمام وجهه.
جان (بصوت خافت، مبتسماً بخجل):
“آه… نعم، كنت… مجرد التفكير… أشياء كثيرة في رأسي.”
ليلى (تضحك بخفة، لكنها لا تزال تراقبه بعينين حنونة):
“حسناً، لكن لا يمكن أن أتركك تهرب إلى عالمك الخاص هكذا… أنا هنا، جان. ركّز معي.”
“يبدو أننا سنفترق مدة طويلة… وربما لن نلتقِ مجدداً.”
بقيت ليلى تراقب حركاته بتفهم، ثم أردفت بصوت هادئ:
“لا تقلق… أنا احترمت صراحتك تلك الليلة. لذا، كل محاولاتي للتحدث معك الآن هي بصفة صداقة وزمالة… لا أكثر.”
أغلق جان عينيه بحرج، متلعثماً:
“آسف… لم أقصد هذا.”
نظر لها مجدداً، وعاد صوته أكثر صدقاً:
“كيف تجاوزتِ الأمر بسرعة؟؟ أنا أحاول منذ سنين…”
اتسعت عينا ليلى، متفاجئة بكلامه، فهذه كانت المرة الأولى التي يتحدث فيها مع أحدهم عن شيء خارج إطار العمل والتدريبات.
صمتت للحظة، محاولة أن توازن بين الصدمة والدفء الذي شعرت به في كلمات جان، بينما بدا هو وكأن جزءاً صغيراً من قلبه قد انفتح أخيراً.
أزاحت ليلى خصلة شعر سقطت لتضعها خلف أذنها بحرج، بينما ابتسم جان بمرارة وهو يتذكر حركات إيليف، وتمتم:
“اللعنة…”
نظرت له ليلى بصدمة أكبر، مرتابة:
“ماذا…؟”
بقي جان ينظر لها لثوان قبل أن ينطق أخيراً:
“أما أنني جننت… أو أنك… تشبهينها.”
ليلى، وقد احتبست دمعة صغيرة بمقلتيها، همست بهدوء:
“فهمت… لهذا السبب أنت مختلف الآن… تتحدث معي عن أشياء خاصة.”
شعر جان بالندم على صراحته المفرطة معها في هذه اللحظات، وتنهد بحسرة:
“معك حق… ربما لهذا السبب لم أكن أريد أن أقترب من أحد منكم أكثر من اللازم… لأني بطريقة أو بأخرى سأجرح من حولي.”
ثم نهض ببطء، ومد يده نحوها ليصافحها، صوته هادئ لكنه مثقل بالعاطفة:
“وداعاً… أتمنى لك التوفيق.”
ليلى مدت يدها لتبادله المصافحة وقالت:
“أنهيت الحديث قبل أن أرد حتى.”
جان، وهو يسحب يده ببطء، أجاب:
“لأن النقاش في أمر منتهي… لن يجلب سوى المزيد من الألم.”
ليلى ابتسمت بحزن، همست:
“معك حق… وداعاً.”
ثم غادرت المكان، تاركة إياه واقفاً وحيداً، يستعيد صمت الاستوديو وذكرياته التي تركتها خلفها.
جلس جان على حافة المسرح بعد رحيل ليلى، والصمت يثقل المكان، لكنه بدا وكأنه يصدح في داخله أكثر من أي صوت آخر.
تسللت إليه أفكار الرحلة القادمة… إسطنبول. مسقط رأسه، المدينة التي غادرها محطماً شبه ميت، المدينة التي شهدت كل آلامه وخيباته. فكرة العودة كانت كجرس تنبيه، تذكيره بكل ما حاول نسيانه: عائلته، ماضيه، وحبيبته إيليف… كل وجوههم تتجمع في ذهنه، وكأنهم ينتظرونه ليحاسبوه على اختياراته.
تنهد، واضعاً كفيه على وجهه:
“كيف سأواجههم؟ كيف سأقف على المسرح هناك، في مدينتي، أمام عائلتي، أمامها… بعد كل ما حصل؟”
كل خطوة نحو إسطنبول تبدو له كقمة جبل شاهقة، مليئة بالخوف والتردد، لكنه يعلم أنه لا خيار أمامه سوى الصعود. ليس فقط لإكمال حلمه الفني، بل لمواجهة ماضيه، لمصالحة نفسه مع كل الألم الذي تراكم داخله.
أغمض عينيه للحظة، مستحضراً كل لحظة ألم وحنين، ثم تمتم:
“هذه المرة… لن أهرب. سأقف هناك… سأواجه كل شيء… مهما كان الثمن.”
وببطء، بدأ يقف، يشعر بثقل الماضي يثقل كاهله، لكن عزمه يشتعل من الداخل. إسطنبول تنتظره، ومعها كل أشباح الماضي، وكل حنين دفين، وكل تحدٍ جديد سيختبر قوته الحقيقية.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات