بعد عتمةٍ طالت أكثر مما يجب، وبعد صمتٍ أنهك كل الطرق، ها هي شمس جديدة تُشرق في حياة جان، لا على هيئة ضوء فقط، بل على شكل خطواتٍ وقرارات ووجوه آمنت به. للمرة الأولى منذ زمن، لم يكن الهروب هو خياره، بل المواجهة. وللمرة الأولى… لم يُغلق الباب خلفه، بل فتحه نحو فرصةٍ تستحق أن يُقاتل من أجلها.
في هذا الفصل، تبدأ الأرض تحت قدميه بالثبات شيئاً فشيئاً ، بينما يخطو بثقة إلى العالم الحقيقي، لا كظلٍ لأحد، بل كاسمه… كصوته… كذاته.
نيويورك – مانهاتن – مطبخ المطعم الزمن: صباح اليوم التالي
دخل أوزان إلى المطبخ بخطى ثابتة، يحمل على وجهه ملامح هدوء غير معتاد. كان الشيف دانييل واقفاً قرب الطاولة الرئيسية، يقطع بعض الخضار بدقة مهنية. رفع نظره إليه بسرعة، وعيناه تضيئهما لمحة تساؤل.
أوزان (يبتسم بخفة وهو يضع حقيبته جانباً ): “كلا، الأمر ليس كذلك… لقد تلقى عرضاً مهماً وذهب لحضور اجتماع.”
توقّف الشيف عن التقطيع لثانية، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة نادرة، دافئة وغامضة في آن.
الشيف دانييل (بهدوء مغاير لصرامته المعتادة): “أحسنت، أوزان… لقد فعلت ما لم أستطع فعله سابقاً مع أخي.”
تجمّد أوزان للحظة، يحدّق في الشيف بدهشة، وكأن الكلمات قد اخترقت شيئاً بداخله.
أوزان (بصوت خافت، يتقدّم خطوتين): “شيف دانييل…!”
لكن الشيف أدار ظهره بهدوء، وعاد إلى تقطيعه وهو يقول بنبرة جادة:
“لنبدأ التحضيرات قبل أن يأتي بقية الطاقم… لدينا يوم طويل.”
نظر أوزان إليه بصمت، ثم تنفس بعمق، وأخرج مئزره وارتداه، مستعداً ليوم جديد… ولكن داخله لم يكن كما كان قبل لحظة.
»»»»»»»»»»»»»»»»
نيويورك – مقر شركة الإنتاج – قاعة الاجتماعات الكبرى – الساعة العاشرة صباحاً
كان الضوء الخافت ينساب من النوافذ العالية، يضفي على القاعة مسحة رسمية لا تخلو من الجدية. دخل جان بخطى واثقة، أنيقة، غير متكلّفة. جلس إلى الطاولة المستطيلة، وعلى وجهه ملامح هدوءٍ كأنما صقلته العواصف لا السكينة.
ألقى نظرة سريعة على المجتمعين أمامه: مدير التسويق، مسؤولة العلاقات العامة، ومنسق الإنتاج. جميعهم بدَوا مترقّبين، يحملون ملفات وعروضاً.
فتح مدير الشركة حديثه بنبرة ودية: “جان… أو كما اعتدت أن تُخفي اسمك، نحن سعداء جداً بالعمل معك. الموسيقى التي قدمتها تركت أثراً لا يُمحى. هذا الألبوم قد يكون انطلاقة فريدة.”
جان اكتفى بابتسامة خفيفة، ثم قال بهدوء قاطع: “أقدر ذلك… لكني أكرر ما قلته سابقاً ،لا أريد أن يُعرف وجهي، ولا اسمي الحقيقي. الموسيقى تتحدث عني بما يكفي. دعوها تفعل دون قناع الشهرة.”
ساد الصمت لوهلة، تبادل خلالها الحاضرون النظرات، قبل أن تجيب المسؤولة بابتسامة احترافية: “نفهمك تماماً. نعمل حالياً على تصميم هوية فنية كاملة لا تحتوي على أي دلالة لشخصك الحقيقي. فقط رمز… وصوتك.”
هزّ جان رأسه بالموافقة، ثم أضاف بهدوء: “لا أبحث عن تصفيق… أبحث عن صدق. فلتكن هذه هي البداية.”
»»»»»»»»»»»»»»»»»
نيويورك – مطبخ المطعم – المساء بعد انتهاء الذروة
كان المطبخ يغرق في حالة من الهدوء الجزئي، كأن كل شيء فيه قد عاد إلى تنفّسه الطبيعي بعد نوبة ركضٍ طويلة. صوت معدّات التنظيف الخافت، وصفير خفيف من غلاية الشاي، ورائحة زبدة ذائبة في إحدى المقالي… كلّها مؤشرات على انتهاء ذروة الطلبات.
دفع جان باب المطبخ بخطى ثابتة. كانت ملامحه هادئة على نحو نادر، عينيه ساكنتين لكن بداخلهما ضوءٌ خافت يشبه أول شعاع شمس بعد ليالٍ عاصفة.
جلس بهدوء قبالة طاولة التحضير، تماماً أمام أوزان الذي كان منشغلاً بتنظيف لوح التقطيع. رفع أوزان نظره بترقّب، قرأ شيئاً ما في وجه جان جعله يُبطئ يده.
ابتسم جان، تلك الابتسامة التي تخفي تحتها ألف كلمة.
جان (بهدوء): “وقّعت العقد.”
توقفت يد أوزان في منتصف الحركة، ظل يحدق فيه، كأنه يحاول التأكد إن كان ما سمعه حقيقياً .
أوزان (بتنهيدة قصيرة وابتسامة نصف مصدومة): “حقاً؟”
أومأ جان، ثم أردف دون أن يغيب عن نبرة صوته الحذر:
” وافقوا على شرطي… لا وجه، ولا اسم.”
ساد لحظة صمت قصيرة، ثم ارتسمت على وجه أوزان ابتسامة حقيقية، عميقة… كابتسامة من يرى أخيراً الزهرة التي زرعها تنمو بعد طول صبر.
أوزان (بفخر دافئ): “وأخيراً… أشرقت شمسك .”
أوزان (موجهًا كلامه للشيف دانييل بصوت مرتفع دون ان يبعد نضره عن جان ): “شيف دانييل… يبدو أنك خسرتَ عامل تنظيف الصحون!”
ابتسم الشيف دانييل بنظرة دافئة ثم نظر إلى جان وسأله:
“جان… هل وقّعت العقد؟”
أومأ جان مبتسماً بحذر.
ابتسم الشيف دانييل وقال بحماس:
“مباركٌ لك يا رجل! إذاً الليلة، الاحتفال للجميع… وعلى حسابي!”
سمع الجميع هذا الإعلان، فتقدم جيمس نحو جان وهو يربت على كتفه قائلاً: “مبروك يا جان! هذا النجاح تستحقه عن جدارة.”
بدأت الابتسامات تعم وجوه العاملين، وتحولت أجواء المطبخ من هدوء إلى فرح وحماس. تبادل الجميع التهاني، وتسلل صوت ضحكاتهم وتبادل الكلمات المليئة بالتشجيع بين أرجاء المكان. وبينما المطبخ امتلأ بالضحكات والأصوات المهنّئة، ظلّ هناك صمتٌ خفيّ لا يسمعه سواهما. كان أوزان يتأمل جان بعينين مطمئنتين، كمن يضع عن كتفيه أثقال السنين ويستسلم أخيراً لسلامٍ انتظره طويلاً. أما جان، فقد ردّ النظرات بابتسامة خجولة وامتنانٍ عميق، كأن كل ما مرّ به من انكسارات وليلٍ دامس لم يكن ليُحتمل لولا اليد التي انتشلته. في تلك اللحظة، لم تعد الضوضاء من حولهما تعني شيئاً… فقد اختصر تواصلهما البصري رحلة طويلة من الألم والصبر، وأكد أن صداقتهما وُلدت لتبقى، أقوى من كل العواصف.
»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»»
بعد عدة أيام إسطنبول – جامعة بوغازيتشي – مبنى واشبورن هال – كافتيريا الطابق الأرضي – بعد الضهر
كان المكان يعجّ بالحياة: طلاب يتحركون، كراسي تصطكّ ببعضها، أحاديث جانبية، وضحكات عابرة لا تخص أحداً. وقفت شاغلا أمام طاولة الطلبات ، تنقر بأصابعها على سطح المنضدة، كأنها تحاول استعجال الزمن أو تبديد القلق من صدرها.
اقترب مارت بهدوء، بدا صوته كمن يقف عند باب مغلق منذ زمن:
“قهوة الآنسة… على حسابي.”
توقفت لحظة، ثم التفتت نحوه ببطء. لم تقل شيئاً، لم تبتسم، لم تُظهر مفاجأة. فقط نظرت إليه مطولاً، بعينين ساكنتين، ثم أخذت كوبها بصمت، وغادرت نحو طاولة في الزاوية.
جلست، وضعت حقيبتها بجانبها، وبدأت تقلب القهوة بملعقة صغيرة، رغم أنها لم تكن تضيف شيئاً.
بعد لحظات، جلس مارت قبالتها، دون استئذان. كان يحمل قهوته، لكنها بدت ثقيلة عليه.
رفعت عينيها إليه. صوتها خرج هادئاً، لكنه مشدود كوتر:
“ماذا تفعل؟”
“أريد أن أتكلم معك.” قالها بنبرة خافتة، كما لو كان يعتذر دون اعتذار.
“مارت… دعني وشأني.” ردّت دون أن تنظر إليه.
سكت. عيناه على الكوب في يده، يتجنب عينيها، كما لو أنه يختبئ داخله.
“هل تريد أن تنتشر إشاعة جديدة؟” تابعت بمرارة. “شاغلا تحب رجلاً متزوجاً؟”
أدار مارت وجهه، وكأنه لم يتحمل الحقيقة التي قذفتها بوجهه.
“لن يحدث… كنا أصدقاء، ولا زلنا. أليس كذلك؟” قالها وهو يتجنب النظر إليها.
ابتسمت، لكن ابتسامتها لم تكن سوى انكسار:
“حتى أنت لا تصدّق كذبتك… لو كانت حقيقية، قلها. قلها دون أن تهرب بنظراتك.”
عندها فقط، رفع مارت عينيه. كانت نظرته مثقلة، كما لو أنه يعترف لنفسه للمرة الأولى:
“معكِ حق… أنا كنت، ولا أزال، أحبك.” “لكني أناني… تركتكِ، ولا أستطيع تقبّل الأمر. لا أستطيع تحمّل بعدك. وفكرة أن تكوني لغيري… تقتلني.”
ارتجفت نظرة شاغلا، واغرورقت عيناها بالدموع. لكن صوتها ظل ثابتاً، حازماً، يتشبث بالكرامة الأخيرة:
“ماذا تريد يا مارت؟ أن تستمتع بعذابي؟ أرجوك… ابتعد، كي أستطيع نسيانك.”
ثم نهضت.
أمسكت حقيبتها، استدارت، وغادرت.
تركته هناك، جالساً بكوب بارد… وقلب أشد برودة.
رنّ هاتف مارت فجأة، قاطعاً الصمت الذي أحاطه. نظر إلى الشاشة فرأى اسم “إيليف” يتوهّج.
ردّ بسرعة والقلق قد أرتسم على ملامحه : ” إيليف؟” إيليف (صوتها مرتجف): “مارت… ماهر حرارته مرتفعة جداً… لا أعرف ما به… هل يمكنك المجيء؟”
نهض مارت فوراً دون تردد، بينما أجابها:
” مسافة الطريق وأكون عندك … فقط ضعي له كمادات باردة وحاولي تهدئته.”
أغلق الهاتف وهو يلتقط مفاتيحه، لكن شيئاً ثقيلاً استقرّ في صدره. راح يلوم نفسه بصوت خافت، كأن صوته لا يُوجّه لأحد سواه(يحدث نفسه): “ألم تتخذ قرارك؟ ألم تحسم أمرك بأن تختم هذه القصة مع إيليف وماهر؟ إذاً كيف تسمح لنفسك بالعودة للحديث مع شاغلا؟ كيف تضعف؟ كيف تنسى من احتاجك حقاً؟”
شدّ معطفه على كتفيه وخرج مسرعاً من الباب، لكن نظراته كانت غارقة بالذنب، كأن قلبه خُذل من ذاته.
»»»»»»»»»»»»»»»»»»»
وصل مارت إلى المنزل، فتح الباب بعجلة، وخطا إلى الداخل وكأن الأرض تحته تحترق. كانت خطواته سريعة، متوترة، كأنه يسابق الزمن أو يخشى أن يفوته شيء لا يُعوّض.
دون أن يخلع معطفه حتى، اندفع نحو الغرفة، فتح الباب بقوة، لتقع عيناه فوراً على إيليف الجالسة أرضاً، تضم الصغير إلى صدرها بذراعين مرتعشتين، والقلق يرتسم على ملامحها.
لم يتردد، مدّ ذراعيه وحمل الطفل من بين يديها برفقٍ، ثم قال بحزم:
“لنأخذه إلى المستشفى… أعطني بطانية بسرعة.”
أومأت إيليف برأسها، ونهضت مسرعة لتلبي طلبه، بينما ظل هو واقفاً هناك، يحمل الطفل ويحدّق في ملامحه الشاحبة، وقلبه يضطرب بين الخوف والرجاء.
»»»»»»»»»»»»»»»
نيويورك – حي كوينز – شقة جان وأوزان -صباح باكر
جلس جان بمفرده على كرسي قرب النافذة، يحمل بيديه كوب قهوة كبير لا يكاد يدفئ قلبه . الضوء الخافت يتسلل عبر الستائر، يرسم ظلالاً ناعمة على وجهه .
وضع يده على صدره، كأنه يحاول تهدئة نبضات قلبه المتسارعة. همس لنفسه، صوته خافت وممتلئ بالحسرة:
“لم يعد الألم كما في السابق… لكنه لم ينتهِ بعد.”
أغمض عينيه ببطء، مسترجعاً صورة قديمة تحترق في ذاكرته.
“مارت… أشتاق إليك.”
لكن الذكرى لم تقف هناك، إذ تلوح في ذهنه صورة أخرى، أكثر إيلاماً … اسم يتسلل إلى وعيه كطعنة مباغتة. فتح عينيه بسرعة، وصدره يثقل :
“إيليف… حتى التفكير بك خيانة لأخي. لكن تلك الليلة… لماذا قبلتِني؟ لماذا سمحتِ لي أن ألمسك؟ هل كنتِ تعلمين أنني لن أكون قادراً على التوقف؟ لماذا دفعتِني إليكِ… وأنتِ كنتِ تنوين الزواج به؟”
تنهد، محاولاً دفع الأفكار بعيداً.
“فقط اخرجي من رأسي… من قلبي.”
ظل جان صامتاً، كوب القهوة يبرد بين يديه، لكنه لم يحركه.
بعد دقائق تحرّك أخيراً. وضع كوب القهوة جانباً ونهض ببطء. فتح النافذة قليلاً، فاندفعت نسمات الصباح الباردة نحو وجهه. أغمض عينيه للحظة، تنشّق الهواء كما لو أنه يُحاول إعادة ترتيب نفسه من الداخل.
في المطبخ، سمع صوت الغلّاية الكهربائية يبدأ بالغليان، نسي أنه شغّلها. ابتسم بضعف، ابتسامة قصيرة، لكنها حقيقية… “ذاكرتي تعاندني حتى في تفاصيل بسيطة.”
ملأ كوباً جديداً من الشاي، جلس على الطاولة الصغيرة في الزاوية. فتح دفتر ملاحظاته، قلّب صفحاته، ثم كتب بخطٍ بطيء:
“بعض الجروح لا تُشفى… لكنها تكفّ عن النزيف. أنا أتعلم كيف أعيش معها… لا ضدها.”
رفع عينيه إلى النافذة، حيث انعكاس الضوء بدأ يملأ المكان شيئاً فشيئاً. تنفّس بعمق… ثم نهض، ارتدى معطفه، وأخذ مفاتيحه.
كان مستعداً ليبدأ يومه. لا لأنه نسي، بل لأنه اختار ألا يتوقّف عند الذكرى.
»»»»»»»»»»»»»»»»
اسطنبول – المستشفى – غرفة الأطفال
في غرفة خافتة الإضاءة، تفوح منها رائحة المطهّرات، جلس مارت على كرسي بلاستيكي بجوار سرير الطفل. عيناه معلّقتان بوجهه الصغير الشاحب، يتأمل تنفّسه البطيء، المتقطّع أحياناً، كأنه يحسب كل شهيق وزفير بقلقٍ غريزي.
كان الطفل نائماً أخيراً، بعد أن انخفضت حرارته بفعل العلاج. جهاز بسيط يلتف حول معصمه، يراقب وضعه، دون أن يثقل الغرفة بأي ضجيج أو ضوء مزعج.
على الكنبة القريبة من النافذة، كانت إيليف قد غفت أخيراً، مرهقة. بطانية خفيفة تغطي نصف جسدها، ووجهها لا يزال مشدوداً كأنها تحلم بالقلق ذاته الذي غمرها حين كانت مستيقظة.
مارت مدّ يده بلطف، أمسك بكف الطفل الصغير بين كفّيه، ثم انحنى وطبع قبلة رقيقة عليه، وهمس بصوت مخنوق:
مارت (بهمس): “صغيري… لو كان الأمر بيدي، لأخذتُ هذا المرض عنك… لاحتملته أنا، كلّه، بدلاً منك.”
اقترب أكثر، طبع قبلة دافئة على جبينه، ثم أغلق عينيه، وتنهد بعمق، وكأنّه يصلي دون كلمات.
بعد لحظة صمت، رفع رأسه، نظر إلى الفراغ في الزاوية المقابلة، وعيناه تلمعان بدمعة مترددة لم تجد طريقها للسقوط. صوته خرج أقرب إلى الهمس، هشاً، وكأنّه يخاطب غائباً يقف هناك، في الظل:
“جان… اشتقت إليك… ليتك كنت هنا… لم يعد لديّ قوّة.”
ظلّ مارت قابضاً على يد الطفل الصغيرة، يحرك إبهامه فوقها برقة، كأنّه يتشبث ببصيص حياة يبعده عن الغرق. رفع عينيه نحو السقف، تنفّس ببطء، ثم أغلق عينيه واستند برأسه إلى حافة السرير، هامساً بصوت بالكاد يُسمع:
بعد عدة أيام نيويورك – مانهاتن – الباب الخلفي للمطعم – بعد الظهر
كان جان واقفاً عند الباب الخلفي للمطعم، مستنداً إلى دراجته في هدوءٍ مريح. الجو دافئ، وصخب المدينة ينبض بالحياة بعد انقضاء ساعات العمل، كأنها تلتقط أنفاسها بتروٍ. كان يرمق ساعته بين حين وآخر، ينتظر أوزان بصبر ممزوج بشيء من الترقب.
وبعد دقائق، خرج أوزان من باب المطعم، وبدت على وجهه علامات التعب، لكنّ ابتسامة واسعة ارتسمت عليه فور أن وقعت عيناه على جان. اقترب منه، ووقف إلى جانبه متأملاً ملامحه التي تخفي شيئاً غير معتاد.
قال جان بابتسامة خفيفة، امتزج فيها الحماس بشيء من الحذر: “أخيراً… ها أنت ذا. لديّ خبر أريد أن أشاركك به.”
قال أوزان بفضول صادق: “ما الأمر؟”
أخرج جان هاتفه، وأرسل له عنواناً، ثم رفع عينيه إليه قائلاً : “الشركة خصصت لي شقة جديدة… شقة فاخرة. وسأذهب لاستلامها اليوم.”
اتسعت ملامح أوزان بالدهشة، وغمر الفرح وجهه وهو يقول: “شقة؟! هذا أمر رائع، جان! مبارك لك من القلب.”
ابتسم جان، ثم مدّ إليه الخوذة قائلاً بنبرة دافئة: “لنذهب معاً… لا أريد أن أستلمها بدونك.”
»»»»»»»»»»»»»»
نيويورك -مانهاتن – الشقة الجديدة – بعد قليل
ارتفع المصعد بصمتٍ أنيق نحو الطابق السابع والعشرين، حيث تنتظرهما بداية جديدة… لا تشبه ما سبق.
وما إن فُتح الباب الزجاجي حتى بدا كل شيء وكأنه مشهد من حلمٍ لم يُكتمل بعد.
شقة فخمة بأرضيات خشبية بلون الجوز الداكن، تمتد بانسيابٍ دافئ نحو نوافذ زجاجية عملاقة تلامس السقف حتى الأرض، كأنها تحتضن ضوء المدينة وتحبسه للأبد.
على الجانب الآخر، كانت مانهاتن تتلألأ كقلادة ذهبية على جيد السماء، أبراجها تنعكس على الزجاج في مشهد يخطف الأنفاس.
المكان مفتوح، أنيق، تنبع منه رائحة الخشب الجديد والمستقبل.
صالة واسعة بأريكة كريمية ضخمة، ومطبخ أمريكي حديث بسطح رخامي أنيق يلمع تحت إضاءة خافتة.
بينهما، كان الصمت هو أول من دخل الشقة.
ثم دخل جان، بخطوات مترددة، كمن يخشى أن يدوس على لحظة لا تتكرر. يتبعه أوزان.
خطا جان أول خطوة إلى الداخل، ثم التفت إلى أوزان قائلاً: “أظنني… سأعتاد هذا المكان.”
ابتسم أوزان وهو يدخل خلفه: “وهذا المكان… سيعتادك أيضاً.”
ظلّا واقفين للحظات في منتصف الصالة، يتأملان الشقة الفارغة التي بدا فيها الصمت وكأنه يرحّب بهما.
قال جان وهو يمرر يده على حافة الطاولة الزجاجية: “هذه أول مرة أمتلك فيها بيتاً… بمالي الخاص.”
اقترب أوزان من النافذة، فتحها قليلاً لتدخل نسمة خفيفة، وقال ممازحاً: “أنسيت؟ كنت تشاركني إيجار شقتنا القديمة.”
ضحك جان بخفة، ثم قال وهو يهز رأسه: “كفّ عن مجاملتي… لوقتٍ طويل كنتَ أنت مَن يدفع كل شيء. وحتى حين بدأت العمل… راتبي لم يكن يُقارن براتبك.”
أوزان (بصوت دافئ): ” لا تفكّر بهذه الطريقة … أنا مدين لك بالكثير، منذ كنا أطفالاً وأنت دائماً تساندني .”
جان (بابتسامة خفيفة، ثم يهمس): ” إذاً… متى سننتقل؟”
يصمت أوزان، ينظر إلى الأرض للحظة، كأن الكلمات تأبى الخروج من فمه.
جان (بقلقٍ خافت، يرفع عينيه نحوه): ” لن تتركني وحدي، أليس كذلك يا أوزان؟”
أوزان (بصوت دافئ): “لن أتركك، جان… لا الآن، ولا لاحقاً.”
ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة، وقال بنبرة مرحة: “لكن عليك أن تدعوني إلى عشاء فاخر… طعام حقيقي هذه المرة، لا وجبات سريعة!”
جان (ضاحكاً وهو يهزّ رأسه): “كل همّك في الطعام! حسناً، موافق… تستحق وليمة كاملة. لكن بشرط… أنت من سينقل الأغراض إلى الشقة!”
راقب جان أوزان بنظرة ممتنة، وابتسم بخفة، ثم خفت صوته شيئاً فشيئاً: “شكراً… لأنك لم تيأس مني.”
توقف أوزان عند الباب، وابتسم نصف ابتسامة، وقال بنبرة جادة: “ولمَ أتيأس؟ رأيتك تسقط، نعم… لكنني كنت واثقاً دائماً أنك ستنهض، حتى لو استغرق الأمر وقتاً طويلاً.”
هزّ جان رأسه بتأمل، كأنه يعاهد نفسه أكثر من غيره: “هذه المرّة… لن أعود للسقوط.”
تلاقى نظراهما للحظة، صامتة وصادقة، تنطق بما تعجز عنه الكلمات. ثم خرج أوزان من الشقة، تاركاً الباب موارباً خلفه… وجان واقفٌ أمام النافذة الكبيرة، ينظر إلى معالم المدينة تحت غروب الشمس، يتنفس هواء البداية الجديدة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات