عاد أوزان من العمل متعباً، خطواته بطيئة وهو يصعد الدرجات، يحمل بيده حقيبة طعام تفوح منها رائحة دافئة. فتح باب الشقة بهدوء، كأنّه يخشى إيقاظ الصمت الساكن فيها.
ألقى التحية بصوت منخفض:
“مساء الخير… أحضرت العشاء معي.”
لم يأتِه رد.
جان كان جالساً على الأريكة، ساكناً كتمثال، عيناه معلّقتان في الفراغ. لم يلتفت حتى.
وضع أوزان الحقيبة على البار الفاصل بين المطبخ والصالة، ثم قال محاولاً الحفاظ على نبرة طبيعية:
“سآخذ حماماً سريعا، وبعدها نأكل معاً.”
أخذ ملابسه واختفى داخل الحمام.
ظل الماء ينساب هناك، بينما جان ينهض ببطء وكأنه يجر جسده جراً. توجه نحو المطبخ، وبدأ يفرغ الحقيبة بهدوء، يرتّب الصحون والعلب على البار بتركيز مبالغ فيه، وكأنه يحاول أن يهرب من شيء داخله.
خرج أوزان بعد دقائق، منشفة ملتفة حول رأسه، ما زال بخار الدش يلتصق بكتفيه.
ابتسم بخفة وهو يراه منهمكاً:
“جان… لا تتعب نفسك، سأحضر كل شيء.”
رد جان بصوت خافت، دون أن ينظر إليه:
“انتهيت.”
جلسا متقابلين على الكرسيين عند البار. بدآ الأكل بصمت.
صوت الملاعق يملأ الفراغ، والهدوء بينهما يزداد ثِقلاً.
أوزان، بتردد، قال:
“كيف كان يومك؟”
لم يرد جان، فقط حرّك رأسه قليلاً، كأنّ الكلمة ثقيلة جداً على شفتيه.
أوزان حاول مجدداً، بصوت أكثر هدوءاً:
“هل تريد أن تتحدث؟”
هذه المرة، رفع جان عينيه نحوه. نظر طويلاً، كأنّه يبحث في وجهه عن شيء مفقود. ثم خرج صوته متكسراً بعد صمتٍ طويل:
“أريدك أن تستلم يا أوزان… ستبدأ السنة الجديدة… عد للجامعة.”
تجمّد أوزان. المرة الأولى التي يتكلم فيها جان ويتحاور معه منذ أن غادرا إسطنبول. طوال الشهور الماضية، لم يكن جان سوى ظلٍ صامت، يمتثل لأوامره بكلمة حاضر.
ترك أوزان الملعقة بيده ببطء، وابتلع ريقه، ثم قال بجدية ممزوجة برجاء:
“إذا تحسن بسرعة… لنعد معاً. أو… لا نعود ابداً.”
ظل جان يحدق فيه للحظات، ثم أشاح بنظره بعيداً، كأنه لا يريد مواجهة صدقه أو وعوده.
تنهد أوزان ببطء، وألقى نظرة طويلة على جان، ثم مد يده بهدوء ووضعها على كتفه.
قال بصوت دافئ يحمل شيئاً من الرجاء:
“خذ وقتك… الجامعة لن تطير.
ما يهمني هو أن تكون بخير أولاً.”
عاد الصمت مرة أخرى، لكن هذه المرة كان مختلفاً . لم يكن فراغاً مطبقاً كما في السابق، بل كأنّه مساحة صغيرة للتنفس، صمت فيه شيء من الطمأنينة.
»»»»»»»
أسطنبول – منزل عائلة آصلان – المساء
الصالون الكبير
عاد مارت إلى المنزل بعد يوم طويل، وما إن تجاوز مدخل القصر حتى تناهت إلى مسامعه أصوات التهاني والضحكات المتقطعة.
توقّف لبرهة، ألقى نظرة على ساعة يده، ثم تابع سيره نحو الصالون، حيث كانت العائلة مجتمعة.
رآهم يجلسون في حلقة غير رسمية، وعلى وجوههم علامات الفرح.
كانت إيليف واقفة إلى جانب جدّه، وخجل خفيف يلوّن وجهها، بينما وضعت يديها برفق على بطنها.
الجد (بصوت مفعم بالسرور):
“خبرٌ يسرّ القلب، أول حفيد في طريقه إلينا… تستحقون التهاني.”
توالت المباركات من هنا وهناك، و تقدّمت إحدى الخادمات تحمل صينية حلوى، فيما اقترب مارت بهدوء، صافح بعض الأقارب، ثم وقف إلى جانب إيليف دون أن يتحدث.
من طرف القاعة، أشار ساردار له إشارة خفية، ثم انسحب نحو الشرفة الجانبية.
لحقه مارت دون أن يلفت الأنظار، حتى وقفا معاً في فسحة جانبية من المنزل، يلفها هدوء ثقيل.
ساردار (بصوت خافت لكن نبرته تنطوي على عتاب):
“مبارك يا مارت… صرتَ على وشك أن تصبح أباً.”
أومأ مارت برأسه بصمت.
تابع ساردار بنظرة مباشرة:
“أخبرني… هل من جديد عن جان؟ أم أنك تخلّيت عن البحث؟”
ظلّ مارت صامتاً لثوانٍ ، ثم أجاب بصوت منخفض:
“ما زلت أبحث… لكن لا أثر له.”
اقترب ساردار خطوة، وقال بنبرة أقرب إلى الاتهام:
“غريبٌ أمرك، مارت. أحياناً أراك تائهاً من دونه، وأحياناً… كأنّك نسيت أنه كان موجوداً اصلاً.”
نظر إليه مارت مطولاً، ثم رد :
“أنا لم أنسَ.
لكن لا أعلم من الذي فقدته… جان؟ أم نفسي وأنا أفتش عنه.”
تنهّد ساردار، وأشاح بنظره، تكلم :
“إنك تتغيّر يا ابن عمي… وكلما طال غياب جان، ازداد هذا التغيّر وضوحاً.”
وضع يده على كتف مارت للحظة، ثم استدار وغادر، تاركاً إيّاه واقفاً وحده في ظلال الشرفة، يراقب صدى كلماته وهو يرتدّ داخل صدره.
ظلّ مارت واقفاً مكانه، ينظر إلى الظلام الذي يخيّم على الحديقة الواسعة، عندما فُتح باب الشرفة بهدوء، وظهرت إيليف.
كانت خطواتها مترددة، وكأنها لا تعلم إن كان يرحّب بوجودها، لكنها ما لبثت أن اقتربت و تحدثت بصوت منخفض:
إيليف:
“هل هناك جديد عن جان؟”
هزّ مارت رأسه نفياً، دون أن يلتفت إليها.
فجلست على أحد الكراسي الخشبية القريبة، ووضعت يدها على بطنها كأنها تستمد منه بعض الشجاعة.
ظلّ الصمت بينهما للحظة، قبل أن يسألها مارت بصوت هادئ:
“هل أنتِ بخير؟”
أطرقت إيليف برأسها (بهمس):
“لستُ متأكدة… الكذبة التي بدأناها تكبر كل يوم، وأنا… خائفة يا مارت.”
رفع مارت نظره إليها، لكنها لم تلتقِ بعينيه، فقط تابعت:
إيليف:
“ماذا لو اكتشفوا أن زواجنا مجرد واجهة؟
وأن الطفل ليس منك؟
أتعلم ما الذي قد يحدث حينها؟
قد ينهار كل شيء….”
شحب وجه مارت قليلاً، لكنه لم يُظهر صدمته، بل بقي ساكناً، و كأنّه توقّع هذا السؤال منذ زمن.
مارت (بعد لحظة صمت):
“أعلم… وأنا أيضاً أفكر في هذا كل يوم.”
رفع عينيه نحوها، وصوته بدا أكثر هدوءاً مما توقعت:
“لكن لا يمكننا التراجع الآن.
نحن لم نختر الطريق الأسهل… لكننا اخترنا ما اعتقدناه أرحم من الحقيقة.”
نظرت إليه إيليف، بعينين ممتلئتين بالخوف والارتباك:
“أرحم لمن؟ لنا؟ أم لهم؟
أشعر أحياناً أني أتنفّس بالكذب.
أبتسم لوالدتي… وأسمعها تخطط لغرف الطفل وأنا… لا أجرؤ حتى أن ألمسه دون أن أشعر بالذنب.”
اقترب مارت بخطوة، ثم جلس على الكرسي المقابل لها، ونظر في عينيها مباشرة:
مارت:
“أنا لا أطلب منك أن تنسي جان… ولا أن تتظاهري بالسعادة.
لكن طالما اتخذنا هذا القرار، فعلينا أن نواجهه معاً.”
ثم أضاف بصوت أخفض:
“إن اكتشفوا الحقيقة، سيتحطم كل شيء… لكن على الأقل، لن أتركك وحدك.”
ارتجفت شفتا إيليف، لكنها لم تبكِ. فقط همست:
“أنا لا أريد أن أكون وحدي… لكني أيضاً لا أريد أن أكون السبب في ضياع كل شيء.”
نظر مارت إليها طويلاً ، ثم قال:
مارت:
“أنتِ لستِ السبب… ولا أنا.
السبب كان اللحظة التي فقدنا فيها جان.”
سادت لحظة صمت ثقيلة، قبل أن تنهض إيليف ببطء، تكلمت وهي تنظر إلى الحديقة:
“أحياناً أشعر أنه أقرب مما نتخيل…
وأحياناً أخرى، كأنه لم يكن هنا أبداً.”
غادرت الشرفة بهدوء، تاركة مارت وحده، يُحاول لملمة ما تبقّى من صدقٍ في حياةٍ تُبنى على كذبة.
»»»»»»»»»
نيويورك – حي مانهاتن
المطعم – صباحاً
الساعة تقترب من التاسعة، والمطبخ نابض بالحركة. الأواني تصطك، وأصوات الماء والتقطيع تتداخل مع رائحة الزبدة والثوم.
وقف جيمس، أحد الطهاة المساعدين، يقطع البصل بسرعة، لكنه لم يكفّ عن التذمّر.
جيمس (بغضب مكتوم وهو ينظر إلى ساعة الحائط):
“ثاني مرة هذا الأسبوع يتأخر نائب الشيف…
ومع ذلك، الكل يتصرف كأن الأمر طبيعي.”
أحد الزملاء حاول تهدئته، لكن جيمس أكمل بتجهّم :
“لو كنت مكانه، لطُردت في نفس اللحظة.”
في هذه اللحظة، دخل الشيف دانييل، رئيس المطبخ، بوقفته المعتادة وصمته المُهيب. التفت إليه جيمس فوراً.
الشيف دانييل (بصوت هادئ لكن حاسم):
“هل هناك مشكلة في التراتبية، جيمس؟”
بلع جيمس ريقه، ثم تراجع خطوة:
“لا، فقط… العمل يتراكم.”
الشيف دانييل:
“نائب الشيف يعرف عمله أكثر منك.
وإذا كان هناك تراكم، فلأن أحدهم يتذمّر أكثر مما يعمل.”
سكت جيمس، واحمرّ وجهه.
وفي تلك اللحظة، دخل أوزان من باب الطوارئ الجانبي، يحمل حقيبته، ملامحه مرهقة من قلة النوم، لكنه مستقيم الخطى.
أوزان (بصوته المعتاد):
“أعتذر على التأخير… لن يتكرر.”
الشيف دانييل:
“التحضيرات في انتظارك، أوزان.”
أوزان:
“على الفور، شيف.”
بدأ يربط مريوله ويتجه إلى محطة التحضير، بينما لاحظ نظرات جيمس الحادة تلاحقه بصمت.
لكنه لم يعره انتباهاً… ليس هذا الصباح.
»»»»»»»»»»»
نيويورك – العيادة النفسية – ظهيرة اليوم ذاته
الساعة تشير إلى الواحدة ظهراً، والضوء الخافت ينساب من بين الستائر نصف المغلقة.
داخل غرفة الجلسات، جلس جان على الأريكة الجلدية ذات اللون الرمادي الداكن، يديه متشابكتان في حضنه، وظهره مائل قليلاً إلى الأمام، كأنه لا يريد أن يستقر.
أمامه جلس الطبيب، رجل في منتصف الأربعين، يبدو هادئاً أكثر من اللازم.
دفتر صغير بين يديه، وقلم يتحرك بين أصابعه لا يكتب شيئاً.
مرّت خمس دقائق، ثم عشر.
ولا صوت سوى طقطقة الساعة المعلقة على الجدار.
الطبيب (بصوت رتيب، دون ضغط):
“أتعلم، هذه الجلسة الثالثة لنا…
وهذا يعني أنني سمعت منك حتى الآن: لا شيء.”
جان لم يرفع رأسه، عيناه مثبتتان على الأرض.
الطبيب:
“هذا ليس تهديداً… فقط توضيح.
إذا لم تتكلّم اليوم، قد يتم تحويلك إلى زميل آخر.
هكذا هو النظام… ونحن لا نكسر النظام، أليس كذلك؟”
جان لم يتفاعل. لم يهز رأسه، لم يغمض عينيه، لم ينطق.
الطبيب ( بتنهيدة قصيرة):
“هل تخشى الحديث؟
أم تعتقد أن الكلمات لم تعد تنقذك؟”
لا إجابة.
حكّ الطبيب ذقنه قليلاً، ثم دوّن شيئاً سريعاً في مفكرته.
الطبيب (بهدوء):
“سأعيد تقييم حالتك بعد هذه الجلسة…
أنت حرّ أن تبقى صامتاً، كما أنك حرّ أن تتكلم.
لكن تذكر، لا أحد يستطيع مساعدتك إذا كنت لا تسمح بذلك.”
انتهت الجلسة دون أن تُقال أي كلمة من جانب جان.
نهض ببطء، وأخذ معطفه، ومشى بخطى ثابتة نحو الباب.
الطبيب لم يوقفه.
فتح الباب، وخرج… تاركاً وراءه كرسياً فارغاً، و صمتاً أثقل من كل الكلمات التي لم تُنطق
كان أوزان واقفاً عند محطة التحضير، يدير المهام باحتراف، لكن شيئاً في ملامحه كان غائباً.
كل بضع دقائق، تنزلق نظراته نحو الهاتف الموضوع على رف جانبي قرب باب المخزن، لا إشعارات، لا اتصال، لكنه كان يحدّق به كأنه يحمل مصيراً.
توقف للحظة، سحب نفساً عميقاً ثم عاد للعمل، لكن أفكاره لم تهدأ.
تفكير أوزان (بصوت داخلي):
اليوم الجلسة الأخيرة… الطبيب قالها بوضوح:
إذا بقي جان على صمته، سينقله لطبيب آخر.
لا أريد أن أضعه في دائرة لا تنتهي…
لكن ماذا أفعل إن كان هو لا يريد الخروج منها؟
اقترب منه أحد الطهاة وهو يحمل صحناً لتقييمه، لكن أوزان لم ينتبه.
الطاهي (بلهجة خفيفة):
“أوزان؟ هذا جاهز للتقديم، هل تود مراجعته؟”
رمش أوزان، وعاد للواقع.
أخذ الصحن بيد ثابتة، تذوّق قليلاً ثم قال:
“خفف الليمون، وأضف لمسة ريحان. ثم قدّمه.”
أومأ الطاهي وغادر، بينما عاد أوزان ليقف خلف الطاولة، يراقب أدواته… لكنه لم يكن يراها.
عيناه ما زالتا هناك… نحو الهاتف
»»»»»»»»»»
إسطنبول -منزل آل أصلان
المساء – تمام الساعة الثامنة
دخل مارت إلى القصر بخطوات مرهقة. كانت الأضواء خافتة على غير العادة، لا ضجيج في الصالة ولا أثر لإيليف في أي ركن.
مرّ بجانب إحدى الخادمات وسألها دون مقدمات:
مارت:
“هل رأيتِ إيليف؟”
الخادمة (بهدوء):
“لا، سيدي. غادرت قبل نحو ساعة… لم تخبرنا إلى أين.”
قطّب مارت حاجبيه، وأسرع يصعد الدرج نحو جناحهما المشترك. طرق باب الغرفة أولاً، ثم فتحه بخفة. الغرفة مرتبة، فراشها مشدود، و خزانتها مغلقة… لكن معطفها المفضل وحقيبة يدها الصغيرة لم يكونا في مكانهما.
تأمّل المكان قليلاً، ثم أخرج هاتفه من جيبه، واتصل بها.
رنّ الهاتف لثوانٍ، قبل أن يأتي صوتها هادئاً ، لكنه متعب:
إيليف (من الهاتف):
“مرحباً، مارت.”
مارت:
“أين أنتِ؟ عدتُ للتو ولم أجدكِ. الجميع هنا لا يعرف أين ذهبتِ.”
إيليف (بتنهيدة):
“أنا بخير… فقط خرجتُ قليلاً، أحتاج لبعض الهواء.”
مارت (وقد بدأ صوته ينفذ فيه القلق):
“إيليف، لا تلعبي بالألغاز الآن. أين أنتِ؟”
إيليف (بهدوء متعمّد):
“في طريقي إلى البيت الجبلي. أردت الابتعاد عن التمثيل… عن نظراتهم… وعن نفسي قليلاً.”
ساد صمت قصير.
مارت (بصوت منخفض):
“هل أنتِ وحدك؟”
إيليف:
“نعم. لا تقلق، أخذت السيارة بنفسي وسأبقى لليلة أو اثنتين فقط.”
مارت:
“لماذا لم تخبريني؟”
إيليف (بصوت مهزوز):
“لأني لم أرد أن يمنعني أحد… حتى أنت.”
أغلق مارت الهاتف ببطء بعد أن ودّعها بكلمات مقتضبة، ثم بقي واقفاً في منتصف الغرفة، يحدّق في اللاشيء.
مارت (بهمس داخلي):
“كلّنا نتهالك… واحداً بعد الآخر.”
»»»»»»»»»
دفعت إيليف باب الكوخ الخشبي ببطء، ودلفت إلى الداخل. لم تشعل الضوء في البداية، تركت العتمة تملأ الفراغ كما هي… ربما لأن الصمت كان أوفى من أي كلمة.
لكن البرد دفعها لتتناول المصباح اليدوي من الرف، وتنير الغرفة بضوء خافت. نفس الرائحة… خشب قديم، وأثر رماد الموقد، وتلك الذكرى العالقة في الأركان.
وقفت لحظة تتأمل المكان، ثم اقتربت من الأريكة القماشية الطويلة عند الجدار، ذات النقوش المملة التي لم تتغير. مدّت يدها ولمست حافتها بلطف، ثم جلست على الأرض وأسندت ظهرها إليها.
الكنبة التي كان جان يغطّ في نومه بجانبها… نومٌ نادر بلا كوابيس، بلا صراخ، بلا نوبات بكاء. فقط أنفاسه الهادئة… تلك التي كانت تطمئنها بصمت.
أغمضت عينيها للحظة، كأنها تتفقد صوته في اللاوعي.
أراحت رأسها على طرف الأريكة، وهمست وكأنها تحدثه:
إيليف:
“كنتَ تنام هنا كأنك وجدت العالم أخيراً… وأنا؟ كنت أراقبك أخشى أن تستيقظ من دوني.”
سحبت البطانية القديمة الموضوعة بعناية على ذراع الأريكة، وضمتها إلى صدرها… ما زالت تحتفظ برائحة عتيقة… رائحة دخان الموقد، ورائحة بطاطا محترقة.
ضحكت بهدوء.
نظرت صوب المطبخ الصغير في الزاوية، وقالت بصوت يكاد يُسمع:
” أحرقتها مرتين… مرة لأنك نسيت أنك وضعتها، ومرة لأنك بدأت تشرح لي نظرية فلسفية ونسيت كل شيء.”
ثم أضافت:
“ومع هذا… أكلناها، وقلنا إن الطعم فيها ‘أصيل’.”
أسندت رأسها إلى الأريكة، وساد الصمت من جديد.
لم تكن تبكي.
لكن شيئاً في جلستها، في ملامحها، كان يوحي بأن قلبها كان يفعل ذلك بالنيابة عنها.
»»»»»»
نيويورك – حي مانهاتن – المطعم – بعد وقت الذروة
هدأ زخم العمل في المطبخ قليلاً، لكن الطلبات لم تتوقف تماماً. أصوات الأواني تخفت، والحركة تصبح أكثر انتظاماً.
تنهّد أوزان بهدوء وهو يزيل كفوفه المطاطية.
تمتم لنفسه بصوت خافت: “أخيراً…”
توجه نحو هاتفه الموضوع على رف صغير اخذه بيد مرتجفة قليلاً
اتصل بالطبيب المعالج لجان.
الصوت في الهاتف (طبيب جان): “مرحباً أوزان، أنا آسف… لكن جان لم يتكلم بعد في الجلسة الأخيرة. وفقًا للنظام، سيتم تحويله إلى طبيب آخر.”
تجمد أوزان لوهلة، عينيه تلمعان بوميض من القلق والإحباط. شعر بثقل لا يُطاق يغمر صدره.
فكر في جان، في صمته الذي لا ينكسر، في جدار الألم الذي يحاصره.
همس لنفسه، كأنه يحاول إقناع قلبه: “هل يستطيع أحد أن يكسر هذا الصمت؟ هل أنا وحدي من يحمل هذه المسؤولية؟”
أغلق الهاتف ببطء بعد أن شكر الطبيب وودعه ، وألقى نظرة حوله في المطبخ الذي كان يشتغل فيه.
كل شيء كان يعمل بانسجام، إلا قلبه الذي كان يئن تحت وطأة انتظار لا نهاية له.
تنهد مرة أخرى، ثم عاد ليرتدي قفازيه، عازماً على أن يواصل، رغم التعب.
»»»»»»»»»
نيويورك – نادي رياضي – بعد الظهر
دخل جان النادي الرياضي بخطوات متثاقلة، عيناه مركّزتان على الأرض تحته، وكأنه يحاول تخطي كل خطوة بألم أقل.
اقترب من جهاز المشي، رفع قدمه المصابة ببطء وحذر، مشي بضع خطوات ثم حاول الجري ولكن وخز الألم الحاد عاوده فوراً، فأعاد قدمه بحذر إلى الأرض.
جلس على مقعد قريب، ومدّ يده ليمسك قدمه، ملمسها بارد لكن الألم بدا كأنه يشتعل في الداخل.
حاول أن ينهض مجدداً، أخذ نفساً عميقاً، وعاد ليجري مجدداً ، لكن الثقل الذي يشعر به في عضلات ساقه ووجع المفصل أجبره على التوقف.
تملكه إحساس بالإحباط، نظر إلى قدميه وكأنهما غريبان لا ينتميان إليه، ثم نهض بصعوبة.
ببطء، خطا خطوة تلو الأخرى نحو باب الخروج، كل حركة تصاحبها أوجاع في قدمه وكأنه يتحدى الألم والصمت في داخله.
خرج من النادي، وأشعة الشمس المسائية لامست وجهه، لكنه لم يشعر بالراحة، فقد كانت كل خطوة تذكيراً بالمسافة الطويلة التي يجب أن يقطعها للتعافي.
»»»»»»»»»
نيويورك – حي كوينز – شقة أوزان وجان
عند الغروب
دخل جان إلى الشقة بخطوات بطيئة متثاقلة، وأغلق الباب خلفه دون أن يُصدر صوتاً.
لم يبدِ أيّ ردّة فعل تُجاه صوت التلفاز الخافت، ولا تجاه وجود أوزان الجالس عند الطاولة، يقلّب في دفتر ملاحظاته كما لو كان ينتظر أمراً ما.
رفع أوزان رأسه، و ابتسم ابتسامة خفيفة ، ثم قال بنبرة حذرة:
أوزان:
“أهلاً… عدت أخيراً .”
لم يُجبه جان. وضع حقيبته بجانب الأريكة، وجلس بصمت، رأسه منكّس كأنما يحمل على كتفيه أثقال العالم.
أغلق أوزان دفتره، ونهض بتردّد، ثم اقترب وجلس بجانبه.
أوزان (يحاول تلطيف الأجواء):
“اليوم الخميس، أليس كذلك؟ يوم البرغر.
اشتريت خبزاً طازجاً من المخبز الصغير الذي تحبّه…
ما رأيك أن نعدّ العشاء معاً، مثلما كنّا نفعل؟”
جان لم يتحرّك، ولم ينظر إليه. فقط شبك يديه في حجره، وضغط أصابعه بهدوء.
تنهد أوزان بصوت خافت، ثم قال:
أوزان:
” أتصل الطبيب. قال إنك لم تنطق بكلمة، لا اليوم ولا في الجلسات السابقة.”
(ثم تابع بصوت أكثر خفوتاً)
“قال أيضاً إن هذه كانت الجلسة الأخيرة معه… وسيحوّلك إلى طبيبٍ آخر.”
رفع جان نظره للحظة نحو الطاولة المقابلة، دون أن يعلو وجهه أيّ تعبير.
أوزان (بصوت منخفض لكنه صادق):
“أنا لا ألومك، جان…
لكنني أشعر بالعجز.
أقف هنا كلّ يوم، وأراك تبتعد أكثر فأكثر.
أراقبك تُغلق الأبواب واحدة تلو الأخرى… حتى عنّي.”
حدّق في وجه جان، ثم تابع:
أوزان (بصوت يرتجف):
“أتدري كم أخاف؟
أخاف أن أستيقظ يوماً… ولا أجدك.
أن ترحل بصمت، كما تفعل دائماً، لكن هذه المرّة… دون عودة.”
أدار جان وجهه نحو النافذة ببطء، دون أن ينطق بكلمة أو يبادله النظر.
خفض أوزان رأسه، وتمتم:
أوزان:
“أعلم أنّك لن تتحدث… لا اليوم، ولا غداً… وربّما أبداً.
لكنني سأبقى هنا… حتى وإن بقيتَ صامتاً.”
نهض بهدوء، واتّجه نحو المطبخ دون أن يلتفت، تاركاً جان جالساً على الأريكة، وحده.
ظلّ جان ساكناً، لا يُظهر أيّ ردّ فعل.
لكنّه بعد لحظات، رفع يده ببطء، ووضعها على ساقه المصابة، وضغط عليها بخفّة.
سكن كل شيء في الغرفة…
إلا صوت الماء وهو ينهمر من صنبور المطبخ، وأوزان يُحاول الانشغال، بينما قلبه معلّق بصوتٍ لم يصدر… وربما لن يصدر.
»»»»»»»
اسطنبول -البيت الجبلي – مساءاً
السماء رمادية، والضباب يتسلل بين الأشجار. فتح مارت الباب بهدوء، ودخل بخطوات متثاقلة، يحمل معطفه المبلل على ذراعه.
في الداخل، رائحة الخشب والهدوء تملأ المكان. كانت إيليف جالسة على الأريكة، ملتفة ببطانية، وعلبة حلوى مفتوحة أمامها… وقد اختفى نصف ما فيها تقريباً.
توقف مارت عند الباب، رفع حاجبه قليلاً، وقال بنبرة خفيفة:
مارت (نصف ضاحك):
“إيليف… هل جئتِ إلى المنزل الجبلي فقط لتشني هجوماً على الحلوى؟”
لم ترد، وفجأة بدأت دموعها تتساقط، بصوت لم تتعمد إخفاءه.
إيليف (بصوت مكسور):
“فقط… دعني وشأني، مارت.”
تجمّد في مكانه، مذهولاً من رد فعلها.
مارت (بتوتر وقلق):
“كنت أمزح… ما الذي حدث؟”
رفعت رأسها، عيناها محمرتان، ووجهها شاحب:
إيليف (تنهار بالكلمات):
“جان تركني… وحدي، وذهب.
وجدي… لا أعرف، لك
ني أشعر أنه يراقبني في كل لحظة.
أنا… أنا أزداد وزناً، لا أستطيع التوقف عن أكل هذه الحلوى… وكأنها الشيء الوحيد الذي لا يخذلني.”
اقترب منها ببطء، جلس بجانبها بصمت، مدّ يده نحو العلبة، أخذ قطعة حلوى، ثم مدّها نحوها وهو يبتسم ابتسامة صغيرة.
مارت (بهدوء):
“هيا… كلي. لن أقول شيئًا.”
نظرت إليه، وبالرغم من دموعها، ابتسمت بخجل. تناولت الحلوى من يده بصمت.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات