ترقرقت الدموع في عيني الكونت العجوز عند سماع كلمات لوكيوس.
الكونت ديبيرتو كان يُصغي بكلّ اهتمام إلى قصص فريا التي لم يعرفها من قبل.
وبينما كانا يتبادلان أطراف الحديث بهدوء، تناول الكونت عصاه وهمَّ بالرحيل، ثم قال كلماته الأخيرة: “إلى أن تعود ابنتي، فأسرة ديبيرتو هي رهن إشارتك يا صاحب الجلالة.”
كانت تلك عبارة غريبة نوعًا ما.
فكأنّها تُلمّح إلى أنّ عودة فريا قد تغيّر مجرى الأمور.
أما إن لم تعد، فهل يظلّ ولاؤه قائمًا؟
‘رأسي يؤلمني …’
لم يكن يعلم حتى ما الذي يدور في قلب فريا الآن، فازدادت أفكاره اضطرابًا حتى شعر وكأنّ رأسه سينفجر.
تمدّد على السرير محاولًا التحرك، لكنّ ألمه ازداد في جنبه وصدره.
‘هيرو، اللعين …’
قال إن الجرح زائف، ومع ذلك كان الألم حقيقيًّا تمامًا.
‘حتى لو بدا تصرفي جبانًا، لا حيلة لي.’
حين نزل لوكيوس إلى القرية النائية حيث كانت فريا تعيش، تظاهر بأنه عابر سبيل، وراح أيّامًا يمرّ قرب منزلها.
كان يراقبها خفيةً متسائلًا عن الطريقة المناسبة للاقتراب منها.
‘لماذا تعمل في الخارج في هذا البرد؟’
كانت تنشر الخشب وتنشر الألواح بجدٍّ حتى كاد يخشى أن تؤذي نفسها.
كانت تجلس القرفصاء لساعاتٍ تختار الحجارة واحدة تلو الأخرى.
‘أكاد أذهب إليها وأطلب منها أن تتوقف …’
لكنّ شفتيها المضمومتين ونظراتها الجافة ذكّرتاه بما كانت عليه سابقًا.
أدرك أنّه إن استمر في الدوران حولها هكذا فلن يتغير شيء.
لطالما دعاها إلى عالمه، أما الآن فقد حان دوره ليدخل عالمها.
‘يجب أن أبدأ من الصفر.’
قرر أن يُعيد تمثيل ما حدث حين عُثر عليه مغمًى عليه في دار الأيتام.
وما إن شرب الجرعة التي أعطاها له هيرو، حتى اجتاحه ألم مروّع، كأنّ أحدهم يمزّق جسده بسيف.
غاب عن الوعي، وحين فتح عينيه وجد فريا تعتني به.
كان هذا ما أراده، لكنّ نظراتها كانت باردة على نحوٍ غريب.
‘هل كرهتني؟’
سؤالٌ لم يجرؤ على نطقه، فدفنه في صدره وادّعى النوم.
حتى لو تجاهلته، فلن يتراجع عن نيّته.
‘حتى لو طردتِني مئة مرة، سأعود إليك مئة مرة أخرى.’
صدر صوتُ صريرٍ من الباب، وشعر بدخول فريا إلى الغرفة الصغيرة.
كانت الغرفة ضيقةً يمكن رؤيتها كلها بخطواتٍ معدودة، و أرضيتها القديمة تصدر أصواتًا مع كلّ حركة.
‘تشبه علّيتنا القديمة كثيرًا …’
لأنّ السرير الوحيد كان مشغولًا به، كانت فريا تضطر إلى النوم على الأرض متكوّرةً أمام الموقد.
‘بهذا الشكل لا يختلف الأمر عمّا كنت أفعله وأنا أراقبها من بعيد …’
بل إنه يُرهقها أكثر.
“فـ … فريا.”
تأوّه لوكيوس بصوتٍ عالٍ ممسكًا ببطنه.
ارتفع صوت حفيفٍ خفيف ثم اقتربت منه.
“لوس! أين يؤلمك؟”
“بطني … وكلّ جسمي يؤلمني.”
“أين كان القائد وهيرو إذًا؟”
لم تستطع أن تفهم كيف يمكن لرجلٍ يملك أتباعًا أقوياء كهؤلاء أن ينتهي به الحال هكذا.
جلست على الكرسي الصغير بجوار السرير، ورفعت الغطاء لتتفقد جراحه.
“سأنظر قليلًا، لا تتحرك.”
لم يكن لديه ثيابٌ نظيفة، فظلّ مرتديًا قميصًا متّسخًا بالدم والعرق.
فتحت القميص برفقٍ لتتفقد الجرح، فسال القيح من مكانٍ لم يلتئم بعد.
“يجب أن يراك الطبيب فورًا.”
“فريا، لا أستطيع الآن.”
“ماذا تعني؟”
“أنتِ الوحيدة التي أثق بها الآن.”
ارتعشت نظراتها بشدّة أمام كلماته تلك.
“أرجوكِ …”
أمسك بمعصمها بحرارةٍ وهو يئنّ من الحُمّى.
“لا تفعل هذا.”
تأملت معصمها الممسوك بعينيها المرتجفتين.
“تكلّم بوضوح.”
“هناك أمر يجعلني أختبئ مؤقتً ا… لذلك لا أستطيع أن أتصل بأيّ أحد، ولا حتى بالطبيب.”
أُصيبت فريا بالدهشة وفقدت الكلام لحظةً.
‘هل هناك شائعات عن ذلك؟’
لطالما كانت بعيدة عن شؤون العالم.
كانت ترى أن من سيعتلي العرش شأنُ الأغنياء وحدهم.
لكن في الآونة الأخيرة، كانت تُصغي في السوق لكلّ كلمةٍ تُقال عن لوكيوس.
‘علّني أسمع عنه شيئًا …’
حتى الآن لا تصدّق أنّ الإمبراطور يعيش في هذا البيت البائس.
أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تردّ ببرود: “إن كنت تحاول خداعي، فلن أتركك وشأنك.”
“لا، إنها مشكلة بسيطة، وهيرو وجيميني يعالجان الأمر الآن.”
عرفت أنه لا يمكنها تكذيبه تمامًا، فهي تعلم كم هي حياته محفوفة بالمخاطر.
كان عليه أن يحذر من السموم في طعامه، ولا ينام قرب أحد خشية أن يُطعَن ليلًا.
حسنًا، كلّ هذا مفهوم، لكن لماذا جاء إلى هنا تحديدًا؟
“ولماذا أنا بالذات؟”
“ومن غيركِ لدي؟”
تجاهلت إجابته كأنها لم تسمعها.
كانت تعلم أنه لا عائلة له، لكن هذا لم يكن شأنها.
“هل يمكنني البقاء حتى أتعافى؟ أرجوك؟”
“اهدأ قليلًا، يجب أن أغيّر الضماد.”
دفعت ذراعه عنها بلطفٍ وهي تشعر بشيءٍ غريب، كأنها تتعامل مع طفلٍ مدلّل، أو كأن طاقته اللاهبة تشدّها إليه.
حين حاولت فكّ الضماد المتسخ، لم تستطع الوصول إلى موضع العقدة عند خاصرته.
التعليقات لهذا الفصل " 92"