“يا إلهي!”
ما زالت فريا تخشى الرعد والبرق رغم بلوغها سنّ الرشد.
وبينما كانت تعضّ على شفتيها، تسلّلت يدها لتقبض على أطراف أصابع لوكيوس.
‘إنّه مريضٌ بشدّة الآن، فلن يمانع إن أمسكتُ يده قليلًا.’
لقد مرّت سنوات طويلة منذ أن شاركت أحدًا ليلة كهذه.
‘ألم تقل فريا إنّها لا تخاف حتى من الأشباح، فكيف تخاف من مجرّد عاصفة؟’
فجأة تذكّرت لوس بعد غياب طويل.
في يومٍ مماثل، كانت السماء تمطر بغزارة حين بقيت في دار الأيتام الخالية.
آنذاك، أمسك لوس الأشقر الذي كان يمازحها دومًا بيدها.
‘لماذا يداك باردتان إلى هذا الحد؟’
اليد التي قبضت عليها الآن كانت يد لوكيوس، وكانت كالجليد.
فريا راحت تفركها بحرارة.
الجدة التي كانت مسؤولة عن مطبخ الدار أخبرتها أنّ فرك اليدين بهذا الشكل يساعد كثيرًا في تنشيط الدورة الدموية.
“لماذا أشعر بالنعاس هكذا.”
لقد قضت اليوم بأكمله وهي تحمل الأمتعة الثقيلة وتتنقّل في الحقول، ثم بذلت جهدها لتسند لوكيوس، لذا كان من الطبيعي أن ينهكها التعب.
“عليّ أن أبقى مستيقظة …”
لكن ذلك بقي مجرّد كلمات.
سرعان ما غلبها النعاس، وأخذ رأسها يتمايل للأمام والخلف.
خطر ببالها أنّ ثيابها المبتلّة لم تُجفّف بعد، لكن لم يبقَ في جسدها ما يكفي من طاقة لمدّ إصبعٍ واحد.
“… برد.”
وقعت فريا أرضًا، وبغريزتها راحت تبحث عن مصدرٍ للدفء.
وما إن شعرت بالحرارة حتى اندفعت إليها والتصقت بها.
سرعان ما تلاشى بردها، واستسلمت لنومٍ عميق.
بينما كانت الأمطار تقصف الغابة بعنف، والسماء توشك على الانهيار، إلا أنّ هذا الدفء جعلها لا تشعر بالخوف.
***
حين توقّف المطر، علت أصوات العصافير خارج الكهف.
“هاااه.”
تثاءبت فريا وهي ممدّدة على أرض الكهف، ثم مدّت جسدها بتكاسل.
هي معتادة على النوم في أيّ مكان، لكنّ المبيت في العراء كان جديدًا عليها، فجسدها كله يئنّ من الألم.
“آه …!”
ما إن فتحت عينيها حتّى اكتشفت أنّها غفت في مكانٍ لم يكن ينبغي لها أن تغفو فيه.
و ساد شعورٌ بالذعر حين أدركت أنّ وسادتها لم تكن سوى ذراع لوكيوس، وأنّها قضت الليل كلّه في حضنه.
قفزت بعيدًا بصمت، وزحفت بسرعة نحو زاوية الكهف.
‘يا إلهي! مهما كان البرد قارسًا، كيف أفعل شيئًا كهذا؟’
وفوق ذلك، فإنّه المريض الذي عليها أن تعتني به!
ارتجف قلبها قلقًا عليه.
‘بما أنّ جسده دافئ، فلا بد أنّه بخير، أليس كذلك؟’
لكنّ فكرة مرعبة خطرت لها: ماذا لو كان ذلك الدفء عائدًا إليها، بينما قضى لوكيوس ليلته ميّتًا؟
تسلّلت عائدة، ووضعت يدها تحت أنفه، لتتأكّد أنّ أنفاسه ما زالت تخرج ولو ضعيفة.
‘جيد.’
تنفّست الصعداء، ثم جمعت ثيابه المبعثرة التي كانت قد نزعتها في عجل البارحة.
“الآن يفترض أن يظهر أحدهم لإنقاذنا …”
خرجت من الكهف، بينما الشمس تسطع سطوعًا أرهق عينيها.
مدّت عنقها ونظرت بحذر بين الشجيرات.
وفجأة دوّى صوت امرأة رقيق: “أين أنت يا صاحب السمو الأمير لوكيوس؟!”
آه، إنّها الآنسة سيلينا.
غمرها الفرح إذ أيقنت أنّها نجت.
اخترقت الشجيرات وهي تلوّح بكلتا يديها.
“هنا! نحن هنا!”
ومع وصول فرقة الإنقاذ التي خرجت فجرًا، تيسّرت الأمور كلّها.
وُضع الأمير على نقّالة ونُقل بأمان إلى العربة.
“لقد نجا.”
تمتمت فريا وهي تراقب العربة تبتعد عبر الطريق الموحل.
الآن سيعتني هيرو أو أحد الأطباء المهرة به، وسيكون بخير بلا شك.
“لكن ما زال المشي صعبًا …”
كانت جروحها تلسعها في كلّ موضع: ظهرها، كتفاها، وكاحلاها.
ومع ذلك، لم تستطع التوقّف، إذ كان قلبها مستعجلًا.
أرادت أن تطمئن على الجنود المصابين أيضًا، وأن تعرف عن حالة الأمير في العربة.
على أيّة حال، أنا خادمته الرسمية، وعليّ أن أكون إلى جانبه سريعًا.
وإلا فسيلقي الأمير عليها لوائم بلا نهاية، متّهمًا إيّاها بالتقصير وأخذ الذهب دون عمل.
التقطت عصًا طويلة من الأرض، واستندت إليها وهي تجرّ قدميها المتعبتين.
لكن الألم شديد فعلًا.
رفعت يدها تتحسّس جرحًا في جبينها يوجعها مع كلّ خطوة، وهمست بمرارة: “هذه ليست المرّة الأولى التي أتحمّل فيها الألم وحدي.”
أخذت تتحرّك بخطًى مثقلة، تصدر منها أنينٌ كلّ حين.
وبينما تقطر قطرات الماء من أوراق الأشجار التي غمرها المطر، بلّلت جبينها المتعب مرارًا.
***
“صاحب السمو، لقد استيقظت.”
فتح لوكيوس عينيه، فأصابته الدهشة من المكان الغريب.
رمق ما حوله بنظراتٍ حادّة، ليجد الكونت إيديليون وابنته واقفين بقلق شديد إلى جواره.
“ما الذي جرى؟”
اقترب هيرو وبدأ يشرح سريعًا: “شكرًا لسلامتك. يبدو أنّ خبر خروجك للصيد قد تسرّب، فتعرّضنا لهجوم مباغت.”
“أوه …”
حاول النهوض، لكن ذراعه بالكاد تتحرّك.
“سموّك، لا يجوز لكم الحركة الآن. الطبيب أوصى بالراحة التامّة.”
اقتربت سيلينا ووضعت يدها على ذراعه بلطف قائلة: “دع الأمر لي.”
لكنّه أدار جسده بعنف ليدفع يدها بعيدًا، فبدت على وجهها علامات الحرج.
ساد صمت ثقيل، فبادر هيرو ليغيّر الجو: “آنسة سيلينا كانت تلازمك في العناية منذ الصباح.”
غير أنّ لوكيوس تجاهل كلامه وسأل بصوتٍ أجش كحدّ الحديد: “أعطوني تقريرًا.”
أجابه هيرو بجدّية: “لقد استُخدم سهمٌ سامّ شديد، يشلّ الأطراف تمامًا. كذلك السيّد جيميني أُصيب بتسمّمٍ خطير ويخضع للعلاج.”
“أتعرفون نوع السمّ؟”
“سنكشفه قريبًا.”
انحنى هيرو بوجهٍ متجهّم ثم انسحب.
تقدّمت سيلينا مجددًا، وقالت بصوتٍ متعمّد العذوبة: “سموّك ، لا تقلق على شيء، فأنا بجانبك.”
غطّته ببطانية قائلة: “حين رأيتك مطروحًا في الغابة بالأمس، انقبض قلبي ألمًا.”
عقّب الكونت مبتسمًا: “سيلينا أصرت أن تخرج وسط المطر لتبحث عنك، سموّك. هاها.”
كاد رأس لوكيوس ينفجر من أصواتهم وضحكاتهم.
كلّ ما كان يريده هو العزلة.
“…أشكرك.”
التفت على جانبه، فإذا بقماش قميصٍ جديد بين أصابعه.
لم يكن ذلك القميص الذي ارتداه حين خرج للصيد.
إذن، أحدهم غيّر ثيابه.
‘مستحيل أن أكون قد سمحت للكونت بفعل شيء كهذا.’
لقد عانى طويلًا من محاولات الاغتيال، وبحكم طبيعته الحذرة لم يكن يسمح لأحد بلمس جسده.
وفجأة وقعت عيناه على خصلة شعرٍ سوداء طويلة علقت بالقماش.
‘إذًا لم يكن حلمًا …’
شعورٌ غريب اجتاحه.
استعاد ومضاتٍ قصيرة من ليلةٍ مظلمة باردة، وصوت المطر المنهمر، ورائحة أزهارٍ باهتة.
كان يئنّ من الحمى، فرأى شخصًا. لم يستطع تذكّر ملامحه، لكن عينيه ظلّتا محفورتين في ذاكرته.
‘عينانٍ أثارتا رغبتي في الاقتراب والامتلاك.’
غلبه الاندفاع آنذاك، فاستسلم لشفاهٍ غامضة، وقبّلها بجنون.
‘كأنّني عرفتها منذ زمن بعيد.’
قد يصفه الناس بالمجنون إن علموا.
لكنّه لم يستطع أن يمحو تلك الذكرى بسهولة: صوت المطر، نفحة الزهر، والإحساس الخشن الدافئ لشفاهٍ التحمت بشفتيه المحمومتين.
***
في تلك الأثناء، كانت فريا تسير فوق الحقول المبتلّة.
“لماذا لا ينتهي هذه الطريق أبدًا.”
كان ظهرها مبلّلًا بالعرق، وعيناها تحترقان من التعب.
وقفت قليلًا تلتقط أنفاسها، بينما أثقل الطين العالق بسروالها خطواتها.
“آه، ما هذا المنظر.”
أسندت نفسها إلى العصا، ونفضت الطين عن سروالها، لكن يديها التصقت بالوحل اللزج.
مسحته على طرف قميصها بغير اكتراث، ثم اعتدلت.
“كان عليّ أن أطلب مكانًا في آخر العربة.”
في خضمّ القلق على الأمير، لم يخطر لها هذا الأمر.
ربّما كانت الآنسة سيلينا ستمنحها ذلك الكرم.
فهي ملاك الجمال.
شعرت بالوحدة حين تذكّرت العربة التي غادرت.
“لماذا أفكّر هكذا؟! كان من الجيد أن يُنقذ الأمير.”
أرجعت ذلك إلى آلام جسدها، فهي التي تجعل عقلها يتيه.
“الأفضل أن أستمرّ بالعودة.”
هزّت رأسها ونفضت الأفكار جانبًا، وتابعت سيرها مستندة إلى عصاها.
ومع أنّ خطواتها بطيئة، فقد لاح لها علمٌ يرفرف من بعيد، ما دلّ على قرب المعسكر.
قليلٌ من الصبر بعد.
طوال الطريق، لم يبرح ذهنها القلق على لوكيوس.
“كان وجهه شاحبًا للغاية صباحًا.”
بشرته البيضاء خلت تمامًا من الدماء، حتى خُيّل لها أنّه يحتضر، فكاد قلبها يسقط.
“لكن … ما هذه الرائحة الطيّبة؟”
رغم أنّها لم تغتسل منذ الأمس وثيابها ملأى بالقاذورات، إلا أنّ جسدها يفوح منه عطرٌ ناعم.
تلفّتت، لكن الحقول كانت جرداء.
“آه …”
عندها أدركت الحقيقة، فاحمرّ وجهها بشدّة.
إنّه العطر الذي يعبق قرب الأمير.
“يا للهول، عليّ أن أغسل هذه الثياب فورًا.”
ارتجف ظهرها من مجرّد الفكرة: أن يحمل جسدها عبير الأمير!
التعليقات