“جلالتك، هل قضيت الليل بسلام؟”
ما إن رفعت ستارة الخيمة ودخلت، حتى وجدت فريا نفسها عاجزة عن الكلام أمام طلعة لوكيوس البهيّة.
كان المشهد مختلفًا قليلًا عن كلّ مرة رأته مرتديًا درعه المعتاد.
ارتدى بنطالًا أسود وقميصًا ضيّقًا على جسده، وفوقهما عباءة قرمزيّة تصل حتى خصره، وعلى صدره تدلّت شارة طويلة مصنوعة من الذهب.
‘شعره الأشقر يلمع وكأنّه يزداد بريقًا مرّتين.’
وبينما كانت فريا تحدّق به بذهول، بدا على وجه لوكيوس امتعاض واضح.
“… لقد تأخرتِ.”
“لكنّني جئتُ في الوقت المعتاد.”
حين التقت نظراته الحادّة بعينيها، أسرعت تخفض رأسها وتمثّل الانشغال بعملٍ ما.
أخذت تنفض الغبار من زاويةٍ بلا سبب، عندها ناداها لوكيوس.
“تعالي ورتّبي شعري.”
“… أنا؟”
أليس هذا من عمل الخادم الذي ساعده في ارتداء ثيابه؟
“أكنتِ تنوين إذن قبض الأجر دون أن تفعلي شيئًا؟”
“لا، أبدًا.”
تناولت فريا المشط واقتربت من لوكيوس الجالس على الكرسي، ثم وقفت خلفه.
بعد أن تردّدت قليلًا وسعلت، رفعت يدها وبدأت تمشّط شعر وليّ العهد.
‘أيُعقل أن يكون شعر رجل بهذا النعومة؟’
قارنت بينه وبين شعرها هي الذي كانت قد صففته بيدها على عجل صباحًا، فبدا الفرق شاسعًا.
“ما هذه الهيئة التي ترتدينها؟ أتنوي أن تكوني رجلًا؟”
“…….”
لمّا صمتت فريا، استدعى لوكيوس الخيّاط وأعطاه أمرًا.
“لا تجعلها ترتدي هذه الأسمال كأنها كيس بالٍ، بل جهّز لها ثيابًا لائقة.”
مجرّد الفكرة جعلت جسد فريا يقشعرّ من الحرج.
‘ربّما كنتُ متحيّزة ضدّ جلالته.’
التفتت بارتباك وقالت بخجل: “أنا لا بأس بي هكذا.”
“أفعل ذلك من أجل سمعتي.”
كلمة باردة واحدة جعلت وجنتيها اللتين اشتعلتا حمرةً قبل قليل، تبردان فجأة.
‘طبعًا، لم يكن الأمر من أجلي!’
فاشتدّت قبضتها على المشط من شدّة الغضب.
“أتنوين نزع كلّ شعري؟”
“آسفة! آسفة جدًّا.”
وما إن أنهت فريا ترتيب شعره، حتى نهض لوكيوس واقفًا وسار أمامها.
أسرعت تلحق به، لكن عند مدخل الخيمة، دخل موكب غريب لم تره من قبل.
وفجأة تناثر غبار الأزهار من السماء، ودوّى صوت طبلة صغيرة من الخلف.
“جلالتك لوكيوس، بركة ديانا ترافقك!”
ترجّل رجل بدين بعض الشيء ذو شارب طويل، مرتديًا ثوبًا مزركشًا بالزهور الملوّنة، في مشهد صاخب للغاية.
‘واو! هكذا يبدو النبلاء الحقيقيون إذن.’
حدّقت فريا بعينيها متسعتين من الدهشة، تحاول أن تحافظ على وقارها.
وعندها فقط أدركت السبب وراء مظهر لوكيوس المختلف منذ الصباح.
‘إذن كان بانتظار ضيوف.’
“مرحبًا بك يا كونت إيديليون.”
فتح لوكيوس ذراعيه مرحّبًا، وسرعان ما انتقل الاثنان إلى الخيمة الكبرى المعدّة لاستقبال الضيوف.
“بما أنّنا ما زلنا في مواجهة مع العدو، لم أستطع دعوتك إلى القصر، فأرجو تفهّم ذلك.”
“لا تقُل مثل هذا يا جلالتك.”
كان الكونت يتكلّم بحركات مبالغٍ فيها وصوتٍ عالٍ.
“مولاي، هذه السيّدة سيلينا من آل إيديليون.”
دخلت شابة ذات شعرٍ أحمر متألّق بخطواتٍ وئيدة عبر الخيمة.
“واو…”
لم ترَ فريا في حياتها جمالًا كاملًا بهذا الشكل.
عينان سوداوان واسعتان كالكريستال، شفتان رطبتان ساحرتان.
كان شعرها مرفوعًا يعلوه تاج من اللؤلؤ، وفستانها الأبيض البراق يصدر خشخشة رقيقة كلّما تحرّكت.
‘كأنّها الملاك الذي حلمتُ به في طفولتي.’
قدّمت ابنة الكونت، سيلينا، تحيّةً أنيقة أمام لوكيوس ثم رفعت رأسها ببطء.
“جلالتك لوكيوس، افتقدتك كثيرًا.”
في تحيّتها الممزوجة بالحياء، شعرت فريا بأنّ قلبها يخفق معها.
‘هل تكون هذه خطيبة جلالته؟’
فريا التي طالما رأت لوكيوس زاهدًا في النساء، لا يهتمّ إلّا بتدريبات السيف وتحليل الخطط مع جيميني وهيرو.
كان مختلفًا عن سائر الرجال الذين يقضون لياليهم بالشراب والنساء.
‘إذن، كان يخفي مثل هذه الجميلة، ولهذا بدا غير مكترث!’
وأيقنت أنّه لا توجد امرأة تقارن بسيلينا إيديليون، حتى ولو كانت من أجمل النساء.
‘يبدو أنّ وليّ العهد الجافّ يخفي في داخله بعض الرومانسيّة.’
بينما احمرّت وجنتا فريا وهي واقفة خلف كرسيه، كان الكونت وابنته يراقبانها باهتمام.
“سيدي، هل تغيّر ذوقكم قليلًا في غيابنا؟”
كانت مجرّد مزحة عابرة.
لكن لوكيوس، وقد أدرك أنّه يقصد فريا بملابسها الرجاليّة، رفع يده ليلمس ذقنه.
فلعين غريبة قد تبدو فريا أشبه بمراهق وسيم أكثر منها خادمة.
“تعرفتُ على هذا الأمر هنا.”
‘ما الذي يقصده؟’
لم تستوعب فريا المقصود، لكن جوًّا غريبًا دار بينه وبين الكونت.
وما هي إلا لحظة، حتى مدّ لوكيوس يده فلامسها.
“آه …”
جذبها بقوّة ليجلسها على فخذه.
ارتبكت بشدّة وهمّت بالقيام، لكن قبضته على معصمها منعتها.
“ساعديني قليلًا فقط.”
كان طلبه غير المعتاد كافيًا لتشلّ حركتها.
غطّت وجهها بخجل، بينما الكونت أبدى دهشة حمراء على وجهه.
“يا للعجب!”
لم يكن من اللائق له ولابنته أن يشهدا موقفًا كهذا.
فأطبق عينيه وضاق بهما، ثم همس في نفسه: ‘ما الذي تفكّر فيه يا جلالتك لوكيوس؟’
لكنه أعاد لملامحه هدوءها وألقى تحيّةً أخيرة.
“مولاي، لنلتقي مجددًا على العشاء.”
أسرع آخذًا ابنته المذعورة وغادر الخيمة.
***
ظلّت فريا جالسة على ركبتيه حتى غادر الضيوف، تتصرّف كجروٍ صغير.
وكان لوكيوس يمسح على رأسها ويبتسم لها ابتسامة غريبة عنه تمامًا.
هذا التصرّف المناقض لطبعه المتجهم جعلها تشعر بالغثيان.
‘ما الأمر؟ هل دسّ أحدهم السمّ في خبزه؟’
لا يمكن تفسيره بغير الجنون.
وما إن غادر الكونت، حتى دفعها بعيدًا عنه.
يطلب المساعدة، ثم ينبذها بلا كلمة.
دخل الخيمة مجددًا ثم توقّف واقفًا.
“فريا، أشعر بالتعب.”
‘تفو!’
شتمت في سرّها و أسرعت تنزع ثيابه بغلظة.
‘كم يمكن أن يكون وقحًا!’
صحيح أنّها ليست سوى خادمة مأجورة، وهو وليّ العهد الرفيع …
لكنها رغبت بشدّة أن تمسك ياقة قميصه وتخنقه وهي تفك خيوط عباءته المذهّبة.
“ألا تستطيعين الإسراع قليلًا؟”
دون اعتذار، أغلق عينيه وأمرها أن تعجّل.
‘تماسكي. الصابرون ينالون الذهب والوسامة.’
كادت تلطمه، لكنها كبحت نفسها.
أخذت تفك شريط الوشاح على قميصه، ثم رباط العنق الضيّق.
‘أيّ تعب هذا الذي يزعم؟’
يلبس ثيابه بمساعدة الآخرين، يأكل طعامًا معدًّا له، والآن أنا أنزع ملابسه.
“لكن جلالتك …”
“ماذا.”
فتح عينيه الزرقاوين وركز نظراته عليها.
“لماذا فعلت ذلك قبل قليل؟”
رغم أنّها أرادت مواجهته، خرج صوتها خافتًا.
“أيّ فعل تقصدين…؟”
بدا في عينيه بريق ناعم كسطح الثلج الأبيض، حتى شعرت بأنّ السؤال غريب من أصلِه.
“أمسكت معصمي و أجلستني على فخذك.”
“ولِمَ؟ هل أزعجكِ الأمر؟”
تظاهر بعدم الفهم، فأسرعت تنكر.
“لا!”
لو اعترفت بتأثّرها، لكانت أضحوكة.
ابتسمت عيناه بذكاء وقال: “إذن لا داعي للحديث فيه.”
“بل هناك داعٍ. فقد كانت السيّدة سيلينا حاضرة!”
“هـم؟ ومن تكون؟”
شهقت فريا وهي تفك الحزام عن خصره.
‘كيف يعقل ألّا يتذكر تلك الجميلة؟’
تأمّلها لوكيوس قليلًا ثم تنهد.
“آه، تعنين ابنة الكونت إيديليون.”
“ألستما مخطوبين؟”
“و من قال ذلك؟”
فجأة تحوّلت عيناه التي بدت أحيانًا أهدأ، إلى برودة مخيفة وهو يحدّق بعنقها.
أترى هكذا يشعر المرء حين يواجه وحشًا في الغابة؟
شهقت وتراجعت واضعة يديها على عنقها.
“هل أمركِ الكونت أن تنطقي بمثل هذا؟”
“ما الذي تعنيه؟”
تراجع جسدها المرتعش فوق المنصّة كأنها ستسقط.
“سيدي ، ما الذي يحدث بحق السماء؟”
في تلك اللحظة، دخل هيرو و جيميني الخيمة، وفقدت توازنها.
دوّى صوت ارتطام حين انقلبت المنصّة تحت قدميها.
ارتفعت في الهواء وأغمضت عينيها بخوف، متأكّدة أنّ عظامها ستتكسر.
“… آه.”
مدّت يدها تتحسّس جراحها، لكن إحساسًا غريبًا اجتاحها.
لا أشعر بالألم كما توقّعت.
رفعت رأسها فرأت وجوه هيرو وجيميني متجمّدة عند مدخل الخيمة، وعينَي لوكيوس اللامعتين على مقربة منها.
حينها أدركت أنّها سقطت فوق جسد لوكيوس نفسه!!!
التعليقات