في يوم محاكمة شايلو، امتلأت قاعة المحكمة بحماس شديد.
فقضايا القصر الإمبراطوري كانت دائمًا ما تثير اهتمام الناس.
ونظرًا لأنّ المتهم كان نبيلًا ارتكب جريمة “خيانة ضدّ العائلة الإمبراطورية”، فقد غصّت المقاعد بالحضور المتلهّفين لرؤية وجهه.
جلس القضاة العشرة ومعهم القاضي الذي سيصدر الحكم، بينما وقف شايلو والمدّعي العام استعدادًا لبدء المحاكمة.
سأل المدّعي العام، ذو الملامح الحادّة، المتّهم بصوتٍ رسميّ: “من تكون أنت؟”
“أنا شايلو فيرول.”
أجاب شايلو رافعًا رأسه بفخرٍ مصطنع.
لقد قرّر اليوم أن يدافع عن نفسه ليُثبت براءته.
قدّم المدّعي العام ملفّ الاتهام إلى القاضي والقضاة ثمّ عدّل نظّارته.
“البارون فيرول، هل تعترف بتهمة اختلاس الأموال التي منحها لك القصر الإمبراطوري؟”
“هذا هراء! أقسم أنّني لم أبدّد ولو عملةً نحاسية واحدة! إنّ ولائي الكامل مكرّس لجلالة إمبراطور مورسياني! تلك الوثائق مزوّرة بالكامل، ولن أعترف بها أبدًا!”
صرخ وهو ينتفخ عروق عنقه مدافعًا عن براءته.
تنفّس المدّعي العام بعمق وسأله مجددًا: “إذًا، لا تنوي الاعتراف بذنبك؟”
“إنّها مجرّد أوراق! لا يوجد شاهد واحد يثبتها! أيُعقل أن أُعاقَب ظلمًا بسبب بعض الأوراق؟!”
ارتدّت كلماته عبر أرجاء القاعة بصوتٍ عالٍ.
كان شايلو فيرول رجلًا تسلّق سلالم النبلاء بفضل لسانه الماكر وفنّه في التلاعب.
من لصّ صغير في الأزقّة لا يعرف حتى وجه والديه، إلى بارونٍ ذي شأن — رحلة مليئة بالدهاء والخبث.
‘هل تظنّون أنّ شيئًا تافهًا كهذا سيُسقطني؟’
ارتفعت همهمة بين الحضور، وبعضهم بدأ يشكّ فعلًا في ضعف الأدلّة.
عندها أشار أحد الحاضرين برأسه للمدّعي العام، فرفع الأخير يده قائلاً: “يبدو أنّ الشاهد الذي كنتَ تريده قد وصل للتوّ.”
“شاهد؟!”
ضاقت عينا شايلو الصفراء وهو يتلفّت حوله بارتباك.
لم يكن، بحسب علمه، هناك من تبقّى ليشهد ضدّه — فقد تخلّص من جميع من قد يشكّل خطرًا عليه.
لذلك لم يظهر عليه الخوف، بل ثبّت قدميه المرتجفتين اللتين أصابهما الأذى أثناء القبض عليه.
‘بمجرّد أن تنتهي هذه القضيّة، سأجد ذلك السائق اللعين وأنتقم منه.’
كان يطحن أسنانه غيظًا بينما يخطّط لمستقبله الماليّ في ذهنه.
‘لا أحد أحمق كفاية ليخونني.’
لكن عندما دوّى صوت الخطوات واقتربت هيئة ما من المنصّة، شعر قلبه بانقباضٍ طفيف.
وما إن جلست تلك الشخصيّة في مقعد الشهود، حتى اختفى ابتسامته تمامًا.
“من تكونين؟”
كانت المرأة التي ظهرت ترتدي فستانًا أسود وتُخفي وجهها بوشاحٍ أسود.
وعندما رفعت الغطاء ببطء، انحبس نفس شايلو.
“اسمي صوفيا فيرول.”
“أنتِ؟! أنتِ الخائنة الحقيرة!”
صرخ شيلو وهو يقبض على قبضته بقوّة حتى برزت عظامها.
كلّ ما حدث كان بسببها!
لو سارت الأمور كما كان يُخطّط، لما انتهى به الأمر هنا أبدًا.
‘كانت تتحدّث بثقة شديدة …’
قالت صوفيا إنّها تستطيع ابتزاز الإمبراطورة ووليّ العهد للحصول على المال.
وبما أنّه كان يثق بها بعد سنواتٍ من التعاون، وافق على خطّتها الطائشة.
“لقد أنقذتُكِ من الشوارع الميتة، أيتها الوغدة، فكيف تتجرّئين؟!”
اقترب جنديان ووجّها رمحيهما نحو جانبيه.
“اصمت، وإلا سنطردك خارج القاعة!”
قال المدّعي العام بصرامة، فتنفّس شايلو بعنف محاولًا السيطرة على غضبه وهو يحدّق بها بنظرة قاتلة.
رغم خوف صوفيا من وجهه المشوّه، رفعت رأسها بشجاعة مصطنعة.
“سمعنا أنّ لديكِ ما تقولينه عن شايلو فيرول.”
“نعم، أملك الدفاتر التي تُثبت التهم الواردة في تلك الوثائق. أنا من كتبها بيدي.”
ظهور الشاهد والدفاتر معًا جعل براءة شايلو شبه مستحيلة.
قدّم المدّعي العام الدفاتر إلى القضاة بابتسامةٍ واثقة، ثمّ أُغلقت المحاكمة بسرعة.
كانت الأموال التي اختلسها شايلو من الخزينة الإمبراطورية تفوق كلّ التوقّعات.
“يُسحب لقب النبالة من شايلو فيرول، ويُقيّد في الساحة العامة لستّة أشهر.”
كان السجناء المقيّدون في الشوارع عرضةً للسخرية، و الإهانات، بل وللرشق بالحجارة من المارّة والسكارى.
صرخ شايلو بأعلى صوته وسط تلك الإهانة: “سأنتقم منكم جميعًا!”
وظلّ يلعن صوفيا، والقضاة، والمدّعي العام حتى اقتيد بعيدًا.
أما صوفيا، فأنزلت حجابها مجددًا وخرجت من المحكمة بخطواتٍ هادئة، وعلى شفتيها ابتسامة باهتة.
دائمًا هناك من هو أذكى من الأذكى.
كانت مرهقة من كثرة الهروب والاختباء.
وفجأة، قبل أيام، جاءها عرض غير متوقّع: ‘اشهدي ضدّ شايلو، وسنُسقط عنكِ المحاكمة.’
تردّدت قليلًا، لكنّها كانت قد قطعت صلتها به منذ فرارها من قصر فيرول.
ولم تكن قادرة على الاستمرار في الفرار من جنود الإمبراطورية وكونت ديبيرتو إلى الأبد.
الآن لم يتبقَّ سوى بداية جديدة.
خطّطت للهرب من مورسياني بمجرد أن تجمع ما يكفي من المال.
“يا لِهذا المكان البغيض.”
لم يمنحها وطنها لحظة سعادة واحدة منذ ولادتها، فلماذا تتمسّك به؟
لكن عندما تذكّرت نظرة كونت ديبيرتو الباردة التي التقت بها مؤخرًا، ارتعشت كتفيها بخوف.
وفجأة توقّفت أمامها عربة.
“سيدة فيرول، جئنا لاصطحابك.”
“من أرسلكم؟”
لمعت صورة في ذهنها، فصعدت إلى العربة دون تردّد.
كانت تعتقد أنّها تستحقّ بعض الراحة بعد شهادتها.
سارت العربة في طريقٍ مهجور، ثمّ توقّفت.
“كما توقّعت … أنتِ.”
كانت تنتظرها امرأة عند نزولها.
رفعت صوفيا يدها تمسح عرق جبينها، فقد كانت متعبة بسبب توعّكها.
“انتهى كلّ شيء الآن، أليس كذلك؟”
“نعم. وآمل ألّا نلتقي بعد اليوم.”
ابتسمت فريا بخفّة وهي ترتدي زيّ رجل.
ولو سُئلت أيّهما أشرّ، شايلو أم صوفيا، لما وجدت إجابة سهلة.
صوفيا هي من اختطفتها وضربتها، لكن شايلو هو من اشترى الأطفال من دار الأيتام وباعهم كالسلع.
كادت هي أو لوتي أن تقعا في يده آنذاك، وما زالت الذكرى تجعلها تشعر بالدوار.
“سأرحل الآن.”
“إلى اللقاء.”
استدارتا في اتجاهين مختلفين، لكن صوفيا توقّفت.
لم تكن تنوي إنهاء الأمر هكذا.
لقد عقدت العزم على أن تُنهي ما بدأته قبل أكثر من عشر سنوات، وأن تقتل تلك الفتاة المزعجة.
اندفعت نحو فريا، ودفعتها أرضًا بعنف.
“تذكّرينني بالماضي الجميل … أيامٍ كنتُ فيها سيدة الدار.”
قالت فريا وهي تزيل الغبار عن بنطالها وتعيد ترتيب شعرها المنكوش: “أترين الآن لماذا اضطررت إلى التنكّر؟”
“كفى هراءً! حياتكِ كانت بيدي منذ البداية، والآن سأُنهي ما لم أُكمله سابقًا!”
هاجت صوفيا كالوحش، وامتدّت يداها نحو عنق فريا.
لكنّ الأخيرة تفادتها بسهولة وركلت بطنها ركلةً قوية.
“آه … أنتِ!”
سقطت صوفيا على الأرض تتأوّه من الألم.
ابتسمت فريا بازدراء.
“يؤلمك؟ غريب، أليس كذلك؟ كنتِ تضربينني بلا سبب، فقط لأنّك كنتِ غاضبة.”
رفعت فريا شعرها لتُظهر الندبة على جبينها.
عندما رأتها صوفيا، عضّت شفتها غيظًا.
“نلتِ ما تستحقّين، لأنّك كنتِ تستحقّين الضرب. على أيّ حال، أنا من أنقذتك!”
“أنتِ لستِ إنسانة.”
تذكّرت فريا أنّ هذا الوحش هو من حرمها من حبّ والديها وأخيها، ومن حياةٍ طبيعية.
“لن أسمح لكِ أن تموتي بسهولة.”
قالت وهي تخرج خنجرها.
كان يمكنها أن تغرز السكين في صدرها وتنهي الأمر، لكنها لم ترد أن تموت بسرعة — بل أرادت أن تتعذّب قبل موتها.
“ها قد وصلوا في الوقت المناسب.”
كانت فريا قد تتبّعت صوفيا بنفسها منذ زمن، بعيدة عن القصر والكونت.
لقد أرادت أن تُنهي هذا الحقد بيديها هي.
“ما هذا؟”
“سيأخذونكِ إلى المكان الذي ستقضين فيه ما تبقّى من عمركِ. لكن قبل ذلك، لديّ تذكار صغير لكِ.”
اقتربت فريا بخطًى بطيئة من صوفيا، وغرست الخنجر في ظهر يدها.
“آآآه! أنتِ اللعينة!”
“يبدو أنّ حظّكِ سيّء جدًّا اليوم، أليس كذلك؟”
نهضت فريا وهي تنفض يديها بعد وداعٍ دام أكثر من عقد من الزمن لتلك الكراهية القديمة.
التعليقات لهذا الفصل " 106"