الفصل 63
اليوم التالي.
كانت قلعة الدوق الأكبر، الواقعة في الجزء الشمالي من نورتون، هادئة طوال اليوم، على عكس وسط المدينة الصاخب بمهرجان الحصاد.
كان ذلك بسبب اضطرار سيد القلعة للذهاب إلى غابة الوحوش عند غروب الشمس.
نظرت إيثيل، بوجه قلق، إلى الخدم الذين بدأوا يتجمّعون واحدًا تلو الآخر في الحديقة.
كانت تخشى طوال اليوم أن تكون فرقة فرسان نورتون قد ركبت سفن التجارة، لكنّ بريق أعينهم جعل قلقها يبدو بلا معنى.
“أليس هؤلاء هم النخبة الحقيقيّة؟”
“ليس إلى هذا الحد. على أيّ حال، السير فيديكس موجود مع فرقة الفرسان.”
أجابت ريزيتا، التي بقيت في القلعة من أجل إيثيل، وهي تبتسم.
لكنّ نبرتها لم تكن مطمئنة تمامًا، فأصدرت إيثيل ضحكة ساخرة.
في تلك اللحظة، اقترب إيلان من إيثيل، برفقة مونتي، قادمًا من القلعة.
“لمَ أنتِ هنا بالخارج، إيثيل؟”
“حسنًا…”
كادت إيثيل أن تجيب بتلقائيّة، لكنّها ألقت نظرة خاطفة على أوسويل الواقف مع الخدم.
“أردت فقط توديعكَ.”
“توديعي؟”
“لأنّك ذاهب إلى الغابة…”
لم تكن غابة عاديّة، بل موطن الوحوش.
لم تستطع إيثيل منع إيلان من الذهاب إلى مكان قد يحدث فيه أيّ شيء، معتمدًا فقط على بركات الرهبان.
لأنّها أدركت الآن، بعد كلّ هذا الوقت، بأيّ مشاعر كان هؤلاء الذين يرتدون الدروع ويحملون السيوف يحمون هذه الأرض.
لاحظ إيلان تردّدها، فابتسم بلطف وقال:
“لم أكن أعلم أنّكِ هنا، بحثت عنكِ طويلاً.”
“لماذا؟”
“لأنّكِ قضيتِ اليوم كلّه في القلعة.”
كانت إيثيل قد رفضت اقتراح ريزيتا بالذهاب للنظرِ للمهرجان، لأنّ قلبها كان مضطربًا، واعتقدت أنّها لن تستمتع في الساحة.
أخرج إيلان كيسًا صغيرًا بحجم كفّ اليد من جيبه وناوله لإيثيل.
“ما هذا؟”
“هديّة. افتحيه.”
“هديّة؟”
مالت إيثيل رأسها باستغراب وهي تفرغ محتويات الكيس على كفّها.
سقط سوار جلديّ داكن اللون.
ساعدها إيلان لترتديه على معصمها النحيل وقال:
“ذهبت إلى الساحة صباحًا واشتريته. إنّه سوار مصنوع من جلد البقر.”
“يصنعون مثل هذه الأشياء في نورتون أيضًا…”
بالفعل، بما أنّهم يستهلكون الكثير من اللحوم، كان من المؤسف التخلّي عن الجلود.
عندما أدركت ذلك، لاحظت إيثيل أنّ الدروع التي يرتديها الخدم تحتوي على الكثير من الجلد.
بينما كانت تدير السوار الجلدي المجدول، قال إيلان بحزم:
“لا تخرجي خارج القلعة، إيثيل.”
“بالطبع. لمَ سأخرج؟”
“مهما حدث، لا تخرجي.”
كرّر إيلان كلامه بقوّة. نظرت إيثيل في عينيه وطمأنته:
“حسنًا، سأفعل.”
“لا تبقي بمفردكِ في غرفة النوم، كوني في غرفة الاستقبال مع مونتي. ريزيتا ستبقى خارج الباب لحمايتكِ.”
“توقّف عن القلق عليّ…”
عبست إيثيل وهي تقاطع كلام إيلان الذي استمرّ بشكلٍ مطولٍ.
“عد أنتَ سالمًا، جلالتكَ.”
“أنا دائمًا أعود سالمًا.”
“لا أعرف إن كان يمكنني تصديق ذلك.”
تذمّرت إيثيل، فنظر إيلان إلى مونتي.
تنهّد مونتي بصمت وتدخّل:
“يمكنكِ الوثوق به. لم يحدث أبدًا ألّا يعود.”
ابتلع مونتي كلامه عن إصابات إيلان السابقة، فهزّ إيلان كتفيه كأنّه يقول: “أرأيتِ؟”
ثم قبّل ظهر يد إيثيل وضحك، وقال وهو يودّعها:
“سأعود.”
تلاشى ضوء الغروب الذي كان يلوّن القلعة الكبيرة بسرعة، وظهر القمر أخيرًا.
كانت إيثيل تتجوّل أمام نافذة غرفة الاستقبال بوجه قلق.
بدا القمر الليلة يلمع ببرودة غير معتادة، ممّا جعلها تشعر بالقلق المتزايد.
أغلق مونتي، الذي كان يقرأ كتابًا على الأريكة، كتابه أخيرًا لعدم تحمّله.
“هل أنتِ قلقة إلى هذا الحد؟”
“يبدو أنّك لستَ قلقًا على الإطلاق، سيد مونتي.”
“جلالته قويّ جدًا.”
“كونه قويًا لا يعني أنّه لن يُصاب.”
“على الأقلّ، سيُصاب أقلّ. وسيعود حيًا بالتأكيد.”
كان إيلان، الذي رافقه مونتي خلال حرب السبع سنوات، هكذا.
كأنّ روح الدوق الأكبر الراحل لا تزال تحمي ابنه، لم تتلوّث وجهه قطرة دم واحدة أثناء قتاله للوحوش.
كان إيلان يُصاب فقط عندما يحمي شخصًا ما.
ربما حتى في هذا الجانب، كان يشبه والده تمامًا.
“أتمنّى أن يعود دون أذى.”
“من المحتمل أن يفعل. الليلة، سلامتكِ هي الأهمّ بالنسبة له.”
توقّفت عينا مونتي على السوار الذي كانت إيثيل تلاعبه.
جلست إيثيل مقابل مونتي، غير مدركة لما يعنيه السوار الجلدي المجدول في نورتون.
“كنت أريد أن أسألك شيئًا، سيد مونتي.”
“إذا كان عن جلالته، سأجيب.”
“حسنًا… نصفٌ منهُ ونصفٌ أخر لا.”
رفع مونتي حاجبه كأنّه يسأل عما تعنيه.
لكن إيثيل لم تكن من النوع الذي يطرح الأسئلة بشكل غير مباشر.
“كيف أصبحتَ مساعد جلالته؟”
“…ما القصد من سؤالك؟”
“ليس هناك قصد كبير. سمعت أنّك أصبحت مساعده حتى قبل تخرّجك من الأكاديميّة، فتساءلت عن السبب.”
في ذلك الوقت، قبل اندلاع الحرب مع الوحوش، كانت النظرة السلبيّة تجاه نورتون أكثر شدّة.
حتى لو كان الابن الثاني الذي لن يرث لقبًا، لم يكن من السهل على ابن سيد عظيم أن يأتي إلى هذه الحدود.
“على أيّ حال، هذا مكان يجب أن تقاتل فيه الوحوش.”
بل إنّ نورتون كانت المنطقة الوحيدة الخطرة في إمبراطوريّة أستيرا السلميّة.
من المؤكّد أنّ إيثيل لم تكن الوحيدة التي تساءلت عن سبب اختيار مونتي لهذا القرار.
كأنّه سؤال اعتاد عليه، خفّت حدّة عيني مونتي وقال وهو يصبّ الويسكي في كوب شاي بارد:
“شعرت أنّه يجب عليّ فعل ذلك.”
“لهذا السبب جئت إلى نورتون؟”
“أنا أثق بحدسي.”
ابتلعت إيثيل ضحكة ساخرة وهي ترى كتفيه تهتزّان.
كانت تتوقّع قصة صداقة مؤثّرة بين الرجلين، فشعرت بخيبة أمل.
تجاهل مونتي ذلك وتذكّر أيام لقائه الأول بإيلان الشاب، وأضاف:
“العمل هنا أفضل بكثير من العمل في القصر الإمبراطوري.”
“ماذا؟ إذًا، لم ترغب في العمل تحت إمرة وليّ العهد.”
“لم نكن متوافقين منذ أيام الأكاديميّة.”
أومأت إيثيل برأسها كأنّها تفهم مونتي.
كان وليّ العهد مارسيلوس أستير شخصًا يصعب التعرف عليه، على عكس مظهره البرّاق.
أدرك مونتي أنّ إيثيل تفكّر مثلما يفكّر، فقرّر مواصلة الحديث.
في النهاية، ليلة الوحوش طويلة بما يكفي لتصبح مملّة.
“هل سمعتِ بأسطورة إيثير؟”
“من لا يعرف أسطورة التأسيس؟”
“إذًا، هل تعرفين أنّ أسطورة إيثير في نورتون تختلف عن تلك في ميشلان؟”
“ماذا؟ هل يمكن أن تكون مختلفة؟”
اتّسعت عينا إيثيل وهي تسأل.
لم يخطر ببالها هذا الأمر، لأنّها وُلدت ونشأت في ميشلان.
لكن عند التفكير، لم يكن الأمر مستحيلاً.
“صحيح، بما أنّها قصص تُروى شفهيًا، قد تختلف قليلاً من إقليم لآخر.”
“ليس اختلافًا طفيفًا. قبل مئة عام، كانت نورتون دولة منفصلة تمامًا، أليس كذلك؟”
“صحيح، هذا صحيح.”
أصبحت نورتون جزءًا من أستير قبل حوالي ثمانين عامًا، بعد انتهاء حرب الأربعين عامًا.
أومأت إيثيل، ثم شعرت بالحيرة فجأة.
“لكن، هل هناك أسطورة إيثير هنا؟”
كانت أسطورة إيثير هي أسطورة تأسيس أستير.
قصة قديمة جدًا عن القديسة إيثير التي أحبّت هذه الأرض، فباركتها بالأمل والوفرة، وتراقبها بعيون كثيرةٍ كال ببقايا قوتها.
“ثمانون عامًا كافية لتتشابه أساطير التأسيس…”
بينما كانت إيثيل تقتنع بأنّ قوة الزمن لا يمكن تجاهلها، قال مونتي:
“ما يُروى في نورتون هو نبوءة إيثير.”
كشف مونتي عن حقيقة بعيدة تمامًا عن توقّعاتها.
“إنّها قصة قديمة بقدر أسطورة إيثير التي نعرفها.”
التعليقات لهذا الفصل " 63"