الفصل 31
كما كان متوقّعًا، أومأ الدوق برأسه فورًا ردًا على كلام إيثيل.
تنهّدت إيثيل بخفّة، وانتزعت سلّة النّزهة من يده، ثمّ سلّمتها إلى خادم من عائلة الكونت كان يمرّ.
ثمّ حدّقت في الدوق الذي بدا، لسبب ما، متردّدًا.
“…لمَ تنظرين إليّ هكذا؟”
“أتحدّث عن الموضوع الذي كنا نناقشه للتو.”
لم يفهم إيلان على الفور، فغمغم وهو يغطّي فمه بهدوء.
لاحظت إيثيل احمرار رقبته تحت وجهه المغطّى جزئيًا بيده الكبيرة، فارتفعت الحرارة إلى وجنتيها أيضًا.
ومع ذلك، كانت مصرّة على التّأكّد.
“هل… اقترحتَ ذلك حقًا لأنّك تحبّني؟”
التقت أعينهما في الهواء.
اهتزّت عيونها البنفسجيّة الهادئة كألسنة اللهب، وتفتّحت النّار الزّرقاء في عينيه كأوراق الزّهور.
أنزل إيلان يده التي كانت تغطّي وجهه.
قبضت يده الكبيرة، التي بدت تائهة، كما لو كانت تمسك قلبًا ينبض بعنف.
“نعم.”
كأنّه كان ينتظر هذه اللّحظة منذ زمن طويل، استحوذت كلمتهُ المشبعةُ بمشاعر عميقة على أنفاس إيثيل.
هدأت الفوضى التي شهدتها مسابقة الصّيد بسرعة في أذهان النّاس.
مع اقتراب الإحتفال الكبير في الأسبوع التّالي، بدأت فونيت بأكملها تنبض بأجواء الاحتفال.
ظهرت أصوات تنتقد عائلة ماركيز أتوود لتوزيعها توابل غريبة بلا مبالاة، لكنّ الأمر توقّف عند هذا الحدّ.
في النّهاية، لم يتحمّل أحد مسؤوليّة إجهاض زوجة الفيكونت فوستيل.
(ميري : كسرت خاطري يا عيني المسكينه)
دفنت إيثيل هذا الأمر بصعوبة وبدأت تتحضّر لمأدبة العيد الكبير.
كما قالت كايرا، لم يعد بإمكانها تأخير دخولها الرّسميّ إلى المجتمع الرّاقي.
“أوه، لمَ أشعر وكأنّني سأبكي؟”
“يا سيّدتي، أنتِ حقًا مبالغة.”
“أليس كذلك؟ لكنّكِ أنتِ أيضًا عيناكِ مغرورقتان بالدّموع.”
“آه، ليس هذا أمرًا يستحقّ البكاء… ربّما أنا متأثّرة جدًا.”
تنهّدت إيثيل بخفّة وهي تنظر إلى مصمّم الأزياء لينر، الذي كان يهوّي على عينيه بيده ليهدّئ مشاعره.
عندما التقت عيناها بعينيه، بدا وكأنّه يحبس مشاعره مجدّدًا، فغطّى فمه بيديه.
“أن أصمّم فستانًا للآنسة ميشلان حقًا!”
“سيكون هذا نقطة تحوّل كبيرة في مسيرتكِ كمصمّمة. حدث ذلك لي أيضًا.”
“أوه، يا سيّدتي، لقد اكتسبتُ إدراكًا هائلاً من الرّسومات التي أريتِني إيّاها.
كم كنتُ أنتظر هذه اللّحظة منذ ذلك الحين.”
“سيّدتي…”
لم تتحمّل إيثيل مديح المصمّمين المبالغ فيه، فتدخّلت بحذر.
“ألا يمكننا التّوقّف قليلاً وأخذ المقاسات الآن؟ لديّ موعد مهمّ لاحقًا.”
“أوه، انظري إلى عقلي! تعالي إلى هنا، يا آنسة.”
أسرعت مدام هيس لتأخذ إيثيل إلى داخل صالون الأزياء.
تبعتها إيثيل تاركة خلفها نظرات لينر المرهقة.
“المصمّم الجديد يحدّق بي كثيرًا. شعرتُ وكأنّ وجهي سينخرم.”
“ههه، هذه ردّة فعل طبيعيّة لمن يراكِ للمرّة الأولى.
ربّما يفكّر الآن: ‘يا إلهي، دمية تتكلّم! لا يصدّق، دمية تمشي!'”
لم تفارق الابتسامة وجه مدام هيس وهي تقيس محيط خصر إيثيل بشريط القياس.
“لو رأيتكِ وأنتِ صغيرة، لما بقي قلبي سليمًا.”
منذ الطّفولة، اشتهر جمال أخوي ميشلان الشّبيه بالدّمى الخزفيّة في فونيت.
كانت مدام هيس، أفضل مصمّمة أزياء ومالكة صالون الأزياء في فونيت، تتوق لتصميم فستان لإيثيل، ولم يجرؤ أحد على الطّعن في هذا السّمعة.
“أنا سعيدة جدًا لأنّني أصمّم فستانًا لكِ بعد كلّ هذا الوقت.”
“بعد وقت؟ لقد كنتِ ترسلين لي فساتين جديدة كلّ موسم.”
“أوه، هذه مجرّد تعبير عن شوقي لكِ.”
نظرت مدام هيس إلى إيثيل بنظرة لطيفة وهي تضع يدها على خصرها النّحيل.
“كم كنتُ مستاءة لأنّكِ لم تزوري صالون الأزياء منذ سنوات.”
“لم تكن لديّ مناسبات لارتداء الفساتين…”
“حتّى لو طلبتِ بيجامة، كنتُ سأذهب إلى منزلكِ!”
ضحكت إيثيل وهي ترى مدام هيس تتنهّد.
في مديح مظهرها، لم يكن هناك من يضاهي مدام هيس في كلّ إمبراطوريّة أستير.
“كيف أطلب بيجامة من أفضل صالون أزياء في فونيت؟”
“وما المشكلة في البيجامة؟ يمكنكِ طلب جوارب فقط، وستكون كافية!”
بدت مدام هيس مستاءة حقًا وهي تشبك شفتيها.
“ما فائدة كوني أفضل صالون في فونيت إذا لم أرَكِ؟
أنا شخص ينبض بالإبداع عندما يرى الجمال.”
“الفساتين التي أرسلتِها كانت جميلة بما فيه الكفاية.”
“هه! انتظري وسترين. الفستان الذي سأصمّمه لظهوركِ الأوّل هذا سيكون ساحرًا لدرجة أنّكِ لن تستطيعي رفع عينيكِ عنه.”
أمسكت مدام هيس بشريط القياس بقوّة وهي تشتعل حماسًا.
كانت تتفحّص الأقمشة المعلّقة على الحائط بعينيها، تجمع الألوان والقوام في ذهنها.
حاولت إيثيل تهدئة حماسها.
“ظهور أوّل؟ لا شيء من هذا القبيل.”
“لا؟”
نظرت مدام هيس إلى إيثيل بعينين مستديرتين.
“منذ أن ارتديتِ فستاني في سنّ الثّامنة لحضور مأدبة تأسيس الإمبراطوريّة للمرّة الأولى، هذه أوّل مأدبة تقام في القصر تحضرينها، أليس كذلك؟”
“هذا صحيح، ولكن…”
“كم كنتُ مستاءة من ذلك.”
أن تكون أجمل امرأة في الإمبراطوريّة بلا مناسبات لتُمكنها من إرتداء الفساتين!
كانت تشعر بالأسف والأسى عندما تتذكّر السنوات التي صمّمت فيها فساتين إيثيل بالتّخيّل فقط.
لم تكن إيثيل تعلم شيئًا عن مشاعر مدام هيس، فأنزلت ذراعيها وغمغمت بنبرة متردّدة.
“ومع ذلك، تسميته ظهورًا أوّلًا محرج. أنا في الثّانية والعشرين بالفعل.”
“بالضّبط! أن أكون قد صمّمتُ فستانًا واحدًا فقط لكِ منذ أصبحتِ بالغة!”
ارتجفت كتفا مدام هيس كأنّها لا تستطيع تحمّل هذه الحقيقة.
ثمّ أمسكت بشريط القياس بقوّة وأقسمت بحزم:
“سأجعلكِ الأكثر تألّقًا في المأدبة.”
“ليس هناك داعٍ لذلك…”
“بالطّبع، أنتِ تتألّقين حتّى لو بقيتِ كما أنتِ، لكن مع لمستي، ستكونين مبهرة لدرجة أنّ أحدًا لن يجرؤ على النّظر إليكِ.”
“ألم تقولي للتو إنّه سيكون ساحرًا لدرجة أنّني لن أرفع عينيّ عنه؟”
أشارت إيثيل إلى تناقض مديحها، فضحكت مدام هيس بحرج وهي تطوي شفتيها.
جلست إيثيل على أريكة صغيرة بجانب المرآة لقياس قدميها وأضافت:
“لديكِ الكثير من الطّلبات الصّعبة الأخرى، فصمّميه ببساطة.”
“لا يمكنني ذلك.
يجب أن نسحق غرور نبلاء الإقطاعيّات المتعجرفين، خاصّة الدّوق الصّغير فلينت، ذلك المتعجرف!”
حدّقت مدام هيس بعينين متّقدتين كأنّ لوكاس أمامها.
عبست إيثيل عند سماع الاسم المزعج، فأخذت مدام هيس تقيس قدميها وهي تتذمّر:
“كيف لوريث عائلة دوق أن يكون بلا مبادئ؟
كلّ تجّار هذا الشّارع يعرفون أنّه كان يتبع الآنسة إيثيل منذ كان صغيرًا!”
“في هذا الجانب، أنا ممتنّة نوعًا ما…”
“بالطّبع، أنتِ أثمن من ذلك بكثير، لذا ربّما كان ذلك للأفضل.
لكن بعد كلّ تلك السّنوات من الصّداقة، كيف يخونها في لحظة؟
حتّى الأوغاد في الأزقّة الخلفيّة أكثر وفاءً من ذلك المتعجرف، هكذا يهمسون.”
يبدو أنّ خيانة عائلة دوق فلينت أثارت جدلًا كبيرًا بين تجّار السّوق.
كان من المريح لإيثيل أن يرى هؤلاء أنّ عائلة الدّوق لا تستحقّ لقبها.
نظرت مدام هيس إلى إيثيل، التي كانت تبتسم بهدوء، بنظرة شفقة، ثمّ خفضت صوتها فجأة.
“يا آنسة، هل سمعتِ عن نادي الذّوّاقة؟”
“نادي الذّوّاقة؟”
بدلاً من التّوضيح، أومأت مدام هيس برأسها بتعبير جادّ.
رمش إيثيل بعينيها وحاولت تذكّر شيئًا.
كانت قد سمعت بـ”نادي الذّوّاقة” بالتّأكيد.
قال جو أنّ مثل هذا التّجمّع نشأ بفضل إيثيل، وكأنّه مزحة.
كانوا يجتمعون مرّة أو مرّتين شهريًا، متخفّين، للاستمتاع بأطعمة ومشروبات غريبة.
“سمعتُ عنه. العمّ جو…”
“بما أنّكِ تعرفين، هذا رائع!”
“هل هذا تجمّع حقيقيّ؟”
“بالطّبع.”
رسمت زاوية فم مدام هيس انحناءة غامضة.
أخرجت من تحت كومة من الأقمشة والزّينة صندوق مجوهرات مسطّح بحجم أكبر قليلاً من راحة اليد، وقدّمته لإيثيل.
أخذت إيثيل الصّندوق بحيرة.
كان خفيفًا جدًا ليحتوي على مجوهرات، مما زاد من حيرتها.
“أنتِ بحاجة إلى مستثمر جديد، أليس كذلك؟”
جعلت كلمات مدام هيس إيثيل أكثر حيرة.
سألت عن نادي الذّوّاقة، ثمّ أعطتها صندوق مجوهرات، والآن تتحدّث عن مستثمر فجأة.
“هذا صحيح، ولكن…”
“إذا ذهبتِ إلى هناك، ستجدين بالتّأكيد مستثمرًا متعاطفًا مع سفينتكِ التّجاريّة.”
“هناك؟”
“أعني نادي الذّوّاقة.”
فتحت مدام هيس الصّندوق الذي في يد إيثيل.
ظهر قناع مغلّف بالمخمل الأحمر.
“هذه هي الدّعوة.”
التعليقات لهذا الفصل " 31"