3
أغلقت أنايس فمها بإحكام. يبدو أنّه سيوقّع بطيب خاطر، فلمَ الحاجة إلى إثارة غضبه دون داع.
خلال كلّ تلك الفترة، لم يكن لإيغبرت وأنايس أيّ علاقة حميمة و لو لمرّة واحدة.
في البداية، تصرّف إيغبرت كمؤمن متديّن و كعاشق أحمق.
‘الحاكم لم يأذن لنا بعد، أنايس. أريد أن أنتظر ذلك اليوم.’
كنتُ أعلم أنّ هناك بين المتديّنين مَنٔ يصرّون على العفـة، فصدّقتُ كلام إيفبرت.
‘لكنّ الحقيقة لم تكن كذلك.’
بعد وفاة الماركيز غراهام، كشفَ إيغبرت دونَ تردّد كراهيته للعروس الّتي اختارها جدّه.
ثمّ ماذا ؟…طفل؟
‘يجب أن تنظر إلى السّماء لتعـدّ النّجم. هل تعتقد أنّ كلّ ما يخرج من الفم حقيقة؟’
تساءلت أنايس إن كان إيغبرت فارغ الرّأس إلى درجة أنّه لا يعرف كيف يُنجب الأطفال.
حدّقت أنايس في إيغبرت المتعثّر وهي تفكّر في ذلك.
“هاه. ها هـو.”
أخرج إيغبرت ختمـه من الدّرج و ختم وثيقة اتّفاقية الطّلاق بسرعة. اقترب إيغبرت من أنايس و هزّها أمامها.
“تفضلي يا زوجتي المثاليى. هل رأيتِ؟ لقظ ختمتُها. اكتبي الباقي و تعاملي معه بنفسكِ.”
ابتسم إيغبرت.
“لكن أليس من الأفضل أن تفكّري جيّدًا؟ في اللحظة التي يتمّ الطلاق فيها، سوف تُطردين من هذا القصر و من البنك أيضًا. مَنٔ سيعتني بوالديكِ المسكينين؟ و هل لديكِ مكان لتعيشي فيه بعد الخروج من هنا؟”
هـزّ إيغبرت كتفيه.
“أليس من الأفضل أن تستمرّي في العيش برفاهيّة مثل الآن؟ جدّكِ الّذي كان يغدق عليكِ المال قد مات منذُ زمن. ربّما يخرج ذلك العحوز من قبره إذا رأى هذا المشهد.”
يا له من وغد حقير لا يحترم جـدّه حتّى .
ابتسمت أنايس ابتسامة مشرقة و قبلت وثيقة الطّلاق.
“شكرًا على قلقك، إيغبرت. سأتعامل مع هذا جيّدًا.”
استدارت أنايس بأناقة.
عندما خرجت من غرفة النّوم، سمعت من خلفها صرخة سعيدة من صوفيا. يبدو أنّ صوفيا تعتقد أنّها ستأخذ مكانها بمجرّد اختفاء أنايس.
على أي حال ، هذا لا يهمّ .
حدّقت أنايس بلامبالاة في الوثيقة المكتملة. الوثيقة الّتي كانت ناقصة لسنتين و نصف قد اكتملت أخيرًا.
* * *
تلك اللّيلة.
نهض إيغبرت من السّرير و هو يعبس بسببِ شعوره بصداع شبيه بانفجار في رأسه. كان الخمر الّذي شربه في الصّباح الباكر لا يزال يسيطر عليه.
دفـعَ إيغبرت صوفيا الّتي كانت ملتصقة بجسده و هي نائمة و نزل من السّرير.
“هااه.”
يبدو أنّ أنايس جاءت اليوم.
كانت الذّكرى غامضة. بسبب الخمر الزّائد الّذي شربه مع صوفيا المبتهجة طوال اليوم ، كانت معدته تتقلب.
لماذا جاءت أنايس؟
بالتّأكيد صاحت بشيء ما و طالبته بشيء.
هـزّ إغبرت رأسه و سحب الحبل. بدا الخادم معتادًا على استدعائه في وقتٍ متأخّر فدخل مسرعًا.
“عشاء خفيف. و أعـدّ دواء للصّداع أيضًا.”
“نعم، سيدي الماركيز.”
لم يفكّر إيغبرت مطلقًا أنّ الوقت الآن الحادية عشرة ليلاً، متأخّر جدًّا عن تناول العشاء. ارتدى رداءه و مـدّ عضلات رقبته قليلاً.
“أنايس؟ هل هي في غرفتها الآن؟”
يجب أن أتحقّق ممّا قالته سابقًا.
انحنى الخادم أكثر.
“الماركيزة لم تعـد بعد.”
“…ماذا؟”
عبس إيغبرت. أحيانًا كانت تتأخّر في فترات الازدحام، لكنّ الآن ليس ذلك الوقت. كان موسم الصّيف يقترب. و لم يكن نهاية الشّهر أيضًا.
في تلك اللحظة، انفتحت صفحة من الذّكريات المنسيّة.
‘إنّها وثيقة اتّفاقية الطّلاق.’
مسح إيغبرت وجهه بيـده. يا لهذه الذكرى المقيتة.
مستحيل. أنايس امرأة ذكيّة. تعرف جيّدًا أنّها ستفقد كلّ ما تملك إذا غادرت هذا المكان.
لن تكون امرأة تفقـد كل ذلك.
تلكَ المرأة الباردة، بالتّأكيد لن تفعل.
‘وثيقة طلاق.’
رنّ صوت أنايس النّاعم و الواضح مرّة أخرى في رأسه. شعر كأنّ تلك الكلمات تضرب مؤخّرة رأسه.
لحظة، طلاق؟
تلك المرأة؟
أطلق إيغبرت ضحكة خافتة.
أخيرًا الحرّيّة.
شعر بذلك أخيرا.
كان الأمر كذلك حتّى تلكَ اللحظة.
* * *
بالتّأكيد اعتقد أنّه لا يوجد ما يشعر بالأسف عليه. عندما تلقّى تأكيد الطّلاق مثلما وقّـع على تلك الأوراق ، و حتّى عندما تسلم نسخة السّجل العائليّ المرتّبة بدقّة عبر المحامي جينس.
كان أكثر انشغالاً بالإستمتاع مع صوفيا أو لوسيا. لم يكن ينظر إلى الوراء أبدًا، لكنّه ابتهج لعدم وجود ظلّ العجوز الذي يزعجه بعد الآن.
ما تفعله أنايس أو أين تعيش أو إلى أين ذهبت كان خارج اهتمامه.
تذكّر إيغبرت أنايس بعد أسبوع تقريبًا من تلقّي تأكيد الطّلاق.
رمش عينيه بدهشة بسبب طنين الرّأس من الخمر الّذي شربه اللّيلة الماضية. نزل إيغبرت من السّرير، شرب الماء، و تذكّر أنايس.
‘لقد عادت إلى ذلكَ المنزل الفقير بالتّأكيد.’
كان قد ذهب مرّة إلى منزل أنايس الأصليّ.
قبل الزّواج، دُفـع إلى ذلكَ المنزل بيـد العجوز، و كانت الذّكرى القويّة هي دهشته لحجم غرفة الإستقبال الّتي تساوي حجم حمّامه فقط.
‘أتطلّع لرؤية كيف ستعيش في مكان بحجم راحة اليد بعد أن عاشت هنا’
ضحكَ إيغبرت بسخرية.
سحب إيغبرت الحبل فأصدر صوتًا.
“هل طلبتني، سيّدي الماركيز.”
“أوليفر، أحضر جينس فورًا.”
“نعم، سيّدي الماركيز.”
مع تذكّر أنايس، تذكّر البنك الّذي تـمّ إهماله خلال الفترة الماضية.
بنك غراهام. كان أيضًا البنك الملكيّ الّذي يدير أصولاً هائلة للإمبراطوريّة خلال السنوات الخمس الماضية.
‘كان العجوز يمتلك حسًّا تجاريّا جيّدا.’
تنهّـد إيغبرت بتذمر.
عندما تناول إفطارًا بسيطًا و ذهب إلى غرفة الاستقبال، كان جينس في انتظاره.
“لقد مـرّ أسبوع، أليس كذلك؟”
“نعم، سيدي الماركيز غراهام .”
أجاب جينيس بطريقة رسميّة.
“كان يجب أن تأتي إليّ قبل أن ينتهي الأسبوع. أليس كذلك؟ تـمّ تسليم البنك بشكلٍ ، صحيح؟ لقد تحمّلتَ المتاعب بسبب تجوّل أنايس دونَ أن تعرف مكانتها.”
جلس إيغبرت بوقاحة و هو يقهقه. رغمَ اقتراب السّاعة الحادية عشرة، كانت رائحة الخمر تفوح منه.
“من الغـد، سأضطرّ إلى الذّهاب إلى البنك. تسك، أشعر بالضّيق مسبقًا لأنّني سأعمل بعد زمن. لو لم تتصرف أنايس بغطرسة، لما حدث هذا. لم تحصل على أي نفقة أو تعويضات ، أليس كذلك؟”
أطلق إيغبرت تنهيدة طويلة ممزوجة برائحة الخمر ثم شرب بعض الماء.
كان لا يزال يشعر بدوار خفيف.
“أيّ مال تأخذه امرأة لم تنجب طفلاً. كانت تشتكي فقط رغم أنّها صخرة لا تؤدّي واجباتها.”
فستان مغلق ذو ياقة طويلة، و عيون باردة غير مبالية موجّهة نحو إيغبرت. مجرّد تذكّر ذلكَ جعله يشعر بالغثيان.
“لقد تعاملتُ مع الأمور وفقًا لوصيّة السّيـد غراهام المتوفّى، سيّدي الماركيز.”
“العجوز؟ ماذا، هل أمـر بإعطاءها بعض المال؟ على أيّ حال، كان مليئًا بالعواطف فقط.”
عبسَ إيغبرت.
حدّق جينس في إيغبرت الّذي لا يزال مخمورًا.
بينما يعيش هذا الوغد حياة فاسدة، كانت أنايس تحقّق خططها واحدة تلو الأخرى.
أكملت عمليّة وراثة كلّ ما وعـدها به الماركيز غراهام المتوفّى قبل زواجها.
الوغد الّذي يشرب الخمر فقط لن يعرف شيئًا عن ذلكَ.
“و لا حاجة لكَ للذّهاب إلى البنك.”
“لماذا؟ آه، هل عيّنتَ وكيلاً بالفعل؟ أنـتَ ماهر حقًّا.”
انتقال هذا الميراث غير العاديّ كان قد هـزّ القطاع الماليّ ، لكن إيغبرت لم يكن يعرف شيئًا.
بالتّأكيد لا يعرف القضيّة الّتي سبّبت ضجيجًا في الصّحف الصّباحيّة اليوم.
أبدى جينس تعازيه القصيرة بدافع الأسف.
بالطّبع كانت تعزيته للسّيّد غراهام الّذي لم يتوقّف عن القلق على حفيده النّاقص حتّى الموت.
أخرج جينس الصّحيفة من حقيبته و وضعها على الطّاولة.
“ما هذا، هل هي مقالة يجب أن أقرأها…”
أمسك إيغبرت الصّحيفة بقوّة.
شعر كأنّ رؤيته الغائمة تتضح فجأة عندما قرأ عنوان المقالة الكبير على الصّفحة الأولى.
قرأ المقالة نفسها مرّات عدّة.
إن لم تكن عيناه مخطئتين بسبب الخمر……
[بنك غراهام الملكيّ يُورّث إلى أنايس بارنابي.]
التعليقات لهذا الفصل " 3"