صحيحٌ ما قُلتَه.
سارعتُ إلى الإذعانِ برأيِه. فقد كانت عَربةُ السجنِ مُعرضةً للهواءِ الخارجيِّ مُباشرةً، لذا كانت باردةً وجامِدةً جداً.
“لا تَقلقْ. لن أُكلفَكَ فعلَ أيِّ شيءٍ غريبٍ. وما دُمنا بداخلِها، فلا سبيلَ لأحدٍ ليعلمَ ما نفعلُهُ نحنُ الاثنينِ.”
“….”
لِتلكَ الكلماتِ، احمرَّ خدُّ فريدريش قليلاً.
أدركتُ متأخرةً أنَّ هذا الكلامَ قد يُحمَلُ على معنىً مريبٍ.
…ولكنَّ التبريرَ الآنَ أغربُ وأكثرُ شبهةً، فلنَلزمِ الصمتَ، إذن.
“علينا أن نقطعَ مسافةً طويلةً، فلتسترحْ. غيرَ أني لا أستطيعُ فكَّ القيدِ، فليسَ لديَّ مفتاحٌ.”
“…نعم.”
أجابَ فريدريش بصوتٍ خافتٍ. وعقبَها سادَ السكونُ، ولم يعدْ يُسمعُ سوى صوتُ تقلقُلِ العربةِ.
بدأتُ أنسجُ الصوفَ، وهي الهوايةُ التي تُحبُّها رينيه. أمَّا فريدريش، فكانَ يكتفي بمراقبتي بطرفِ عينِه.
‘لا بدَّ أنَّهُ يشعرُ بالمللِ.’
أخيراً، لم أحتملْ تلكَ النظراتِ، فبادرتُ بالكلامِ.
“هل أُعطيكَ بعضَ الخيوطِ، أو شيئاً مِن هذا القبيلِ؟”
“…ماذا؟”
“لأنَّكَ تُحدِّقُ بي طوالَ الوقتِ. ألم تنظرْ لأنَّكَ تريدُ أن تقومَ بها؟”
“آه، لا.”
هزَّ فريدريش رأسَهُ بسرعةٍ.
كانَ مظهرُ شعرِهِ الطويلِ وهو يتمايلُ جميلاً كالحريرِ المتطايرِ، فاختطفَ بصري للحظةٍ.
كيفَ لأسيرٍ معتقلٍ أن يمتلكَ شعراً بهذهِ النعومةِ؟ هل هذهِ هبةٌ مِنَ هبات البطلِ الرئيسيِّ؟
“ببساطةٍ… أتعجب أنَّ الأميرةَ النبيلةَ تقومُ بالنسجِ.”
“وما الغريبُ في ذلكَ؟”
“كنتُ أعتقدُ أنَّ لديكِ…”
توقفَ فريدريش قليلاً، وكأنَّهُ ينتقي التعبيرَ المناسبَ.
“هواياتٍ أكثرَ نشاطاً.”
“صحيحٌ. أُحبُّ ركوبَ الخيلِ، وأُحبُّ السباحةَ.”
أجبتُ بلا مبالاةٍ.
“إضافةً إلى ذلكَ، أُحبُّ الحياكة. فعندما أنسجُ غرزةً تلوَ أُخرى، يهدأُ قلبي.”
“…..”
“هل أُعلمُكَ كيفَ تفعلُها؟ لديَّ إبرةٌ إضافيةٌ هنا بالمصادفةِ.”
كانتْ إبرةً أحملُها للاستعدادِ. رأسُها كانَ غيرَ حادٍّ، فكانتْ غيرَ ملائمةٍ للاستعمالِ في إيذاءِ الذاتِ.
سألتُ فريدريش وأنا أنظرُ في عينيهِ، فأزاحَ نظرَهُ بلطفٍ، ثمَّ أومأَ برأسِه.
أرأيتَ؟ كانَ يريدُ أن يرى كيفَ أفعلُها.
نهضتُ وانتقلتُ للجلوسِ بجانبِ فريدريش. ارتَعشَ هو وانحازَ بجسدِه بعيداً عنِّي.
أعطيتُهُ الإبرةَ والخيطَ، ثمَّ قمتُ بالعرضِ العمليِّ.
“حسناً، لنفترضْ أنَّنا سنصنعُ وشاحاً، ففي البدايةِ نفعلُ هذا. نلفُّ الخيطَ على الإبرةِ، وهكذا…”
“…..”
“لا، بل هكذا.”
كانت هيئتُهُ للمحاولةِ غيرَ مُتقنةٍ أبداً، كأنَّهُ لم يمسكْ إبرةَ نسجٍ في حياتِه قطُّ.
أعدتُ العرضَ مرةً أخرى، لكنَّ النتيجةَ ظلَّتْ كما هي.
آهِ، ما يزعجني كثيرًا!
شعرتُ بأنَّ الأمرَ لن ينفعَ أبداً، فأمسكتُ بيدِ فريدريش فجأةً.
نظرَ إليَّ وهو متفاجئٌ بشدَّةٍ.
“أعتذرُ على هذهِ الوقاحةِ. لأنَّكَ سيئٌ جداً.”
طلبتُ الإذنَ بلا مغزًى متأخراً، ثمَّ بدأتُ أُوجِّهُ يدَ فريدريش.
بدأتْ يدُهُ المتخشِّبةُ تتحركُ بتردُّدٍ بفعلِ لمستي، وتقومُ بالنسجِ.
“هكذا نبدأُ بتثبيتِ الغرزِ.”
“…نعم.”
“حسناً، حاولْ مجدَّداً.”
بمجردِ أن أكملتُ الغرزَ الأولى، قمتُ بتركِ يده.
عندئذٍ، انتشرَ الارتباكُ في عيني فريدريش اللتينِ كانتا خاليتينِ مِنَ التعبيرِ.
“…أأفعلُها أنا؟”
“بالطبعِ، أنتَ مَن يجبُ عليهِ فعلُ ذلكَ الآنَ، أليسَ كذلكَ؟”
عندما رددتُ عليهِ بصوتٍ متعجبٍ، بدا على فريدريش وجهُ الحيرةِ ولم يستطعِ النطقَ بشيءٍ. ضحكتُ بخفَّةٍ.
“يداكَ ناعمتانِ، ولكنَّ ليسَ لديكَ مهارةٌ يدويةٌ، على ما يبدو. حسناً، انظرْ جيداً.”
أمسكتُ بيدِ فريدريش مرةً أخرى. تقلَّصَ جسدُهُ قليلاً في هذهِ المرةِ أيضاً، ولكنَّهُ بدا أكثرَ اعتياداً عليَّ مِنَ المرةِ السابقةِ.
أمسكتُ بيدِه وقمتُ بعملِ الغرزِ الأولى مثاليةً. بالطبعِ، هذهِ هي مهارةُ رينيه الحقيقيَّةُ.
“هيه، هكذا أصبحتْ جيدةً، أليسَ كذلكَ؟ حاولْ مرةً أخرى.”
“…”
في هذهِ المرةِ، نظرَ فريدريش بعنايةٍ إلى الخيطِ والإبرةِ، ثمَّ بدأَ يتَّبِعُ ما علَّمتُهُ إيَّاهُ.
أطلقتُ صفارةً عندما رأيتُهُ ينفذُها بشكلٍ كاملٍ تقريباً.
“أُوه، أنتَ جيدٌ! أن تصلَ إلى هذا المستوى بعدَ رؤيتِها مرتينِ، لأمرٌ رائعٌ.”
“…شكراً لكِ.”
“لِننتقلْ إلى الخطوةِ التاليةِ الآنَ. انظرْ جيداً.”
استمررتُ في تكرارِ العمليةِ نفسِها. أُقدِّمُ العرضَ أولاً، ثمَّ إذا لم يستطعْ فريدريش مجاراتي جيداً، أُمسِكُ بيدِه مباشرةً وأُحرِّكُها.
لكنَّهُ لم يستطعْ أن يفهمَ الطريقةَ مِن مشاهدةِ عرضي وحدَهُ، فكانَ عليَّ أن أمسكَ يدَهُ وأُحركُها لإكمالِ تلكَ الخطوةِ.
‘غريبٌ. في الروايةِ الأصليَّةِ، قيلَ إنَّهُ يستطيعُ أن يتَّبِعَ مهاراتِ غيرِهِ في المبارزةِ بمجردِ النظرِ إليها مرةً واحدةً.’
لعلَّ الأمرَ مختلفٌ، فهذهِ حياكةٌ وليستْ مبارزةً.
بظلِّ تعليمِهِ الحياكةَ، مرَّ الوقتُ سريعاً. عندما بدأتُ أشعرُ بالجوعِ، توقَّفتِ العربةُ.
“سنأخذُ قسطاً مِنَ الراحةِ.”
فتحتْ إِلزا بابَ العربةِ وألقتْ نظرةً حولَها. ضيَّقتُ عينيَّ مِن نظرتِها الدقيقةِ التي تُشبهُ نظرةَ الفاحصِ.
“ما هذهِ النظرةُ الوغدةُ؟”
“لأنَّ المحيطَ نظيفٌ أكثرَ ممَّا توقَّعتُ.”
“نحنُ كنَّا ننسجُ الصوفَ، بشكلٍ لائقٍ.”
تعمَّدتُ أن أمسكَ بيدِ فريدريش وهو يحملُ الإبرةَ وأرفعُها لتراها. نظرتْ إِلزا إلينا بصمتٍ ثمَّ قالتْ:
“هل تتناولونَ غداءَكُم في الخارجِ؟”
“حسناً، لِمَ لا. الطقسُ جميلٌ.”
كنتُ على وشكِ النزولِ مِنَ العربةِ بلا تردُّدٍ.
لكنْ في تلكَ اللحظةِ نفسِها، انطلقَ شيءٌ ضخمٌ كانَ بجانبي إلى الأمامِ.
عندما استعدتُ وعيي، وجدتُ فريدريش منقبضاً تحتَ العربةِ.
يا إلهي!
“…سأتناولُ الطعامَ في الداخلِ فحسبُ. أشعرُ ببرودةٍ قليلاً.”
“أعتقدُ أنَّ الأفضلَ لكِ أن تتناوليهِ في الخارجِ.”
قالتْ إِلزا وهي تُحدِّقُ في عينيَّ.
لا بدَّ أنَّها تعني أنَّ إظهارَ معاملةِ فريدريش بذلٍّ هو الأفضلُ لكلينا.
لم يكنْ لديَّ خيارٌ سوى النزولِ مِنَ العربةِ، واضعةً قدمي على ظهرِ فريدريش.
ظهرَ أمامَنا طاولةٌ مؤقتةٌ ومظلةٌ مُقامَتانِ في مكانٍ مفتوحٍ. كانتِ الخادماتُ يحملنَ الطعامَ بانشغالٍ.
جلستُ عندَ الطاولةِ، وجلسَ فريدريش بجانبي. وكنتُ على وشكِ الإمساكِ بالملعقةِ بلا تفكيرٍ.
“أيُّها الأميرُ، ماذا تفعلُ ولا تخدمُ الأميرةَ النبيلةَ؟”
اخترقتْ كلماتُ إِلزا الحادَّةُ ما بينَنا.
بدأتُ أُحاولُ منعَ إِلزا بملامحَ مرتبكةٍ، ثمَّ رأيتُ نظراتِ مَن حولي.
كانتِ العيونُ كلُّها تترقَّبُ بشغفٍ كيفَ ستُخضِعُ الأميرةُ المتغطرسةُ أسيرَ المملكةِ المنهوبةِ الذي أصبحَ غنيمةً لها.
‘صحيحٌ، هذهِ ليستْ مشكلةً يمكنُ حلُّها بمعاملةِ هذا الشخصِ بلطفٍ وحدي.’
هدفي هو التنازلُ عن خلافةِ العرشِ والعودةُ إلى الريفِ بأيِّ ثمنٍ.
لتحقيقِ ذلكَ، عليَّ أن أُظهرَ أنَّني لا أمتلكُ مؤهلاتِ الإمبراطورِ، دونَ أن أُثيرَ شبهةَ الخيانةِ.
ليسَ لديَّ نقطةُ ضعفٍ في القدراتِ، لذا عليَّ أن أستهدفَ جانباً آخرَ.
‘إذا انتشرتْ شائعةٌ بأنَّ الأميرةَ قد تتأثرُ بأميرِ البلدِ المهزومِ، فسوف يخاف أن أعظمُ السحرةِ قد تُصبحَ إمبراطورةً.’
عندئذٍ، يمكنُني أن أقولَ إنَّني سأُغادرُ القصرَ الإمبراطوريَّ لأنالَ الحبَّ بلا حدودٍ، وينتهي الأمرُ.
غيَّرتُ خطتي، وابتسمتُ نحو فريدريش.
“هذا ما قالوهُ، يا فريد.”
لمعتْ عينيَّ بمكرٍ، ثمَّ ناديتُهُ بلقبِهِ المدلَّلِ مباشرةً، فارتجفتْ نظرةُ فريدريش بشدَّةٍ. بالطبعِ، لم أُعرِ الأمرَ انتباهاً، بل أمسكتُ بخدِّهِ بقوَّةٍ.
“أنا جائعةٌ. أطعِمْني بسرعةٍ.”
هل يتساءلُ إن كانتْ هذهِ الأميرةُ قد جُنَّتْ؟ همستُ في أُذنِ فريدريش الجامدِ.
“تعاونْ معي، يا زوجي المنتظَرُ. لن تخسرَ شيئاً عندما أبدو وكأنَّني أُدللُكَ.”
عندئذٍ، حرَّكَ فريدريش يدَهُ المقيَّدةَ ببطءٍ.
التقطَ ملعقةً مِنَ الحساءِ بحذرٍ، ثمَّ نفخَ فيها لتبردَ وقرَّبَها مِن فمي.
أُوه، لم أكنْ أتوقَّعُ خدمةَ التبريدِ هذهِ.
ابتسمتُ وفتحتُ فمي، فتردَّدَ فريدريش للحظةٍ، ثمَّ وضعَ الملعقةَ في فمي.
“إنه لذيذٌ أكثرَ عندما تُطعِمُني إيَّاهُ.”
غمزتُ بعينيَّ وقلتُ كلاماً مبالغاً فيهِ، فاشتدَّ وجهُ فريدريش.
بالطبعِ، لم أهتمَّ، بل قمتُ بمداعبةِ رأسِهِ بوقاحةٍ.
وتجاهلتُ تجمُّدَ ملامحِ فريدريش أكثرَ فأكثرَ.
***
في نهايةِ الأمرِ، لم أستخدمْ يدي قطُّ في غداءِ ذلكَ اليومِ.
فقد أطعمني فريدريش كلَّ شيءٍ، حتى قطعةَ المخلَّلِ وشربةَ الماءِ.
“مشهدٌ جميلٌ، أليسَ كذلكَ؟ بما أنَّهما شخصانِ جميلانِ.”
“نعم، لذا أفهمُ الآنَ لماذا طلبتِ الأميرةُ النبيلةُ الأمير فريدريش وحدَهُ كغنيمةٍ. يا للحسدِ…”
“وأنا أيضاً أفهمُ أُسطورةَ الأميرِ الذي اختارَ الجمالَ وتنازلَ عنِ الثراءِ والمجدِ.”
لحسنِ الحظِّ، بما أنَّ البطلَ الرئيسيَّ هو الأقوى في هذا العالمِ مِن حيثُ الجمالِ أيضاً (؟)، فقد بدا الناسُ يتفهَّمونَ زواجي الذي مِن أجلِهِ تنازلتُ حتى عن حقِّ خلافةِ العرشِ.
جيدٌ، سأمضي قدُماً في خطتي لِأُظهرَ صورةَ الأميرةِ التي تتخلَّى عنِ العرشِ مِن أجلِ الحبِّ!
صعدتُ إلى العربةِ مرةً أخرى، واضعةً قدمي على ظهرِ فريدريش.
لكنَّ فريدريش، بعدَما صعدَ خلفي، لم يقمْ بنفضِ الغبارِ عن ظهرِه.
“هل تخافُ أن أستاءَ؟ لا بأسَ. يمكنكَ أن تنفضَ الغبارَ عن ظهرِكَ.”
“لا بأسَ…”
“آهِ، صحيحٌ، لن تصلَ يدُكَ.”
تذكَّرتُ نقطةً لم أُفكِّرْ فيها، فذهبتُ مباشرةً إلى جانبِه وبدأتُ أُربِّتُ على ظهرِه.
لم تكنْ قوتي شديدةً، لكني شعرتُ بظهرِ فريدريش يتخشَّبُ. كنتُ على وشكِ أن أُخففَ مِن قوَّةِ يدي لأنَّ الأمرَ أثارَ انتباهي.
“ما الفائدةُ التي تحصلينَ عليها، أيَّتُها الأميرةُ، مِن إظهارِكِ لهذا التدليلِ لي؟”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 4"
شاكه انو البطل يتظاهر انو ماعرف كيف يسوي كروشيه بس ماعندي دليل 🤔