كانت الغرفة واسعة ونظيفة، لكنها حملت في بعض زواياها آثارًا تدل على القدم. وحين أنهت شونيلا جولتها السريعة في أرجاء المكان، خطرت ببالها فجأة فكرة أن آيسيل قد سمع صوتها قبل قليل.
وتصادف أن الغرفة كانت خالية من الجميع سوى آيسيل. وقد حان الوقت لتُعلمه بوجودها إلى جواره.
تنفّست شونيلا بعمق، ثم اقتربت من السرير الذي كان آيسيل مستلقيًا عليه.
[عذرًا.]
“……؟“
ما إن نطقت، حتى فتح إيسيل عينيه على وسعهما مرة أخرى.
وانتصب جالسًا في سريره فجأة،
ثم اندفعت عيناه الحمراوان نحوها بثبات.
‘هل يُعقل أن بوسعه رؤيتي؟‘
قبضت شونيلا يدها المرتجفة من التوتر ثم بسطتها.
لكن إيسيل سرعان ما أمسك جبينه، وانحنى رأسه، وتنهد بعمق.
“ذلك الصوت مجددًا… أهو هلوسة؟“
على ما يبدو، لم يكن قادرًا على رؤيتها. غير أنه استخدم عبارة “ذلك الصوت مجددًا“، ما دلّ بوضوح على أنه سمع صوتها أثناء الزفاف.
رغم خيبة أملها من عدم قدرته على رؤيتها، إلا أن مجرّد قدرته على سماعها كان مدعاة للامتنان.
[لا، إنها ليست هلوسة.]
فتحت شونيلا شفتيها المرتعشتين وردّت.
رفع إيسيل رأسه ثانية. تلاقت نظراته بها مجددًا. وبرغم أنها كانت تعلم أنه لا يراها، إلا أن حدة نظراته المتقدة جعلتها ترتبك قليلًا.
غير أنها عزمت على قول ما يجب قوله. فلا يمكنها أن تبقى مكتومة في صمت وهي تدرك أنهما سيقضيان وقتًا طويلًا معًا.
[أنا… شونيلا ليفيا. الزوجة التي اقترنت بك يا صاحب السمو.]
جمعت ما تبقى من شجاعتها ونطقت. لكن لفظة “الزوجة” لم تزل تبدو ثقيلة على لسانها، غريبة على مسامعها.
“هاه…!”
أطلق إيسيل زفرة طويلة ممزوجة بالذهول وهو يمسك جبينه.
“لا بدّ أن آثار السفر قد نالت مني.”
تمتم وكأنه لا يصدق ما يحدث.
[أقول لك إنها ليست هلوسة.]
خرج صوتها على غير إرادة منها ممزوجًا برجاءٍ حزينٍ أفزعها، ولكنها عادت تفكر مجددًا في طريقة تُوصِل بها هذه السعادة وهذه اللهفة إلى قلبه لتجعله يصدق.
ثم تذكّرت فجأة أمرًا جعلها تتحدث بعجلة.
[أه، صحيح! كنتُ في التاسعة من عمري حين التقينا، منذ عشر سنوات!]
رغم قصر اللقاء، إلا أنه كان الرابط الوحيد بينهما. علّ إيسيل يذكر ذلك.
اتسعت عينا إيسيل فجأة لكلامها. وعادت الحياة إلى نظراته المشتتة.
“حقًا؟“
سأل وهو يرفع رأسه ببطء وينظر أمامه.
ابتسمت شونيلا ابتسامة خفيفة. لقد راق لها أنه يبذل جهدًا ليتواصل بعينيه مع من لا تُرى.
[نعم، حقًا.]
فرك إيسيل عينيه براحة يده، ثم أمسك صدغيه بأصابعه.
كان من الصعب عليه تقبّل أن من تحدّثه الآن هو شبح شونيلا.
“لكن… أنتِ صرتِ نجمة في السماء. كيف لكِ أن تتحدثي إليّ؟“
حتى بعدما قال ذلك، بدا الندم جليًا في عينيه الحمراوين.
المرض والموت، تلك الابتلاءات الكبرى لا تُثقل كاهل أصحابها فحسب، بل تُثقل أيضًا من حولهم.
وإذا كان المتحدث إنسانًا مرهفًا، فإنه يتردد في الحديث عنها. مع أنها حقيقة بديهية.
ولو تذكّرنا، فإن إيسيل، منذ عشر سنوات حين أخبرته شونيلا بمرضها، كان هو من أبدى أسفًا كأن الذنب ذنبه.
هل تذكر كيف جعلني ذلك اللطف الدقيق الذي تملكه أرتجف قلبي حين كنت صغيرة؟
وهل يدري أن تلك الطيبة لا تزال تخرسني حتى اللحظة؟
كأن لساني احترق بحرارة كلماته الصادقة.
[فيما يبدو… لقد صرتُ شبحًا.]
كتمت شونيلا وجعًا اجتاح صدرها وهي ترد.
“شبح؟“
ردّد إيسيل بصوت بطيء وأغمض عينيه ثم فتحهما.
“هاه… كنت أظن أن أولئك الفرسان الذين يشكون من رؤيتهم للأشباح في القصر كاذبون. من كان يظن أنني سأختبر الأمر بنفسي.”
مرر يده في شعره وأخذ يحدّث نفسه وكأنه تائه.
لسعة باردة مرّت على طرف قلب شونيلا. لا بد أن تصديق وجود الأشباح ليس أمرًا يسيرًا.
ولم يكن ذلك غير مفهوم، فرجل مثله يحرس الشمال يجب أن يكون واقعيًّا ومقدامًا.
“لا، لا يليق هذا. لا يصح أن أتعامل معكِ بهذه الطريقة.”
وأثناء ما كانت شونيلا تقمع خيبة أملها، رفع إيسيل بصره نحوها مجددًا وقد انقشعت عن ملامحه آثار الذهول والاضطراب.
ماذا يمكن أن تسمي هذا؟
أن يتعامل معها كإنسانة رغم كونه يعلم أنها شبح؟ أهو تشتت في التفكير أم سرعة تقبل للواقع؟
التعليقات لهذا الفصل " 8"