الفصل 9 :
في هدوء غرفة الطعام، بدا صوت تصادم أدوات المائدة عاليًا على نحوٍ غير عادي.
وضع أستان السكين جانبًا وهو يعقد حاجبيه أثناء تقطيعه لشرائح اللحم.
كان رسغه يؤلمه، مما جعل استخدام السكين أمرًا صعبًا.
ربما بسبب قلة النوم، لم يكن لديه شهيةٌ للطعام، فتخلى عن الوجبة بلا جدوى، وأخذ يرتشف كأس الكحول.
كان طعم الكحول على طرف لسانه لاذعًا بشكلٍ غير مألوف.
راح يسرق النظرات نحو غلوريا من خلف الكأس، ثم وضعه أخيرًا جانبًا.
كان من المفترض أن يسألها عن الهدية التي تريدها بمناسبة عيد ميلادها القريب، لكن لماذا بدا الأمر صعبًا إلى هذه الدرجة؟
كان عليه فقط أن يسأل بطريقةٍ طبيعية، لكن الكلمات علقت في حلقه وظلت تدور دون أن تخرج.
رطّب أستان شفتيه الجافتين وحدّق في غلوريا.
وجنتاها، اللتان امتلأتا قليلًا بفعل التدفئة، تلونتا بلونٍ وردي لطيف.
وكان شعرها، المربوط على عجل بشريطةٍ رخيصة، يتدلى حتى صدرها.
تحت الشعر، ظهرت ثيابٌ فضفاضة تشبه أكياس الخيش.
كانت كبيرةً وسميكة بما يكفي لتبدو دافئة، لكنها لم تكن مناسبةً لها.
‘هل سيكون من المبالغة أن أشتري لها فستانًا مفصلًا؟’
‘لو أحضرت خيّاطًا، فسيضج الجميع بالأحاديث. ولا أعرف مقاسها لأفعل ذلك سرًّا. ربما يكون من الأفضل إهداؤها إكسسوارًا بدلًا من ذلك.’
انزلقت عينا أستان من أذنيها إلى رقبتها، ثم إلى معصميها، وأخيرًا إلى أصابعها.
لم تكن ترتدي أي مجوهرات، لا حتى خاتمًا رخيصًا.
‘هي جميلةٌ حتى من دون أي زينة… لا، ما الذي أفكر فيه؟’
“أحمم.”
أخذ يفرغ الكأس متوترًا، لكن غلوريا وضعت شوكتها جانبًا فجأة.
“هل… هل ارتكبتُ خطأ ما؟”
“همم؟”
“منذ قليل، شعرتُ بأنكَ تحدق بي طوال الوقت. إن كان هناك شيءٌ تود قوله، فلا تتردد.”
“آه، لا. فقط كنت أفكر في بعض الأمور.”
لوّح أستان بيده نافيًا، فابتسمت غلوريا بتردد وغيرت الموضوع.
“هل يمكنني دخول المكتبة؟ هناك كتابٌ أودّ البحث عنه.”
“افعلي ما تشائين. …لكن، هل تحبين القراءة؟”
سألها أستان بعينين لامعتين.
“ليس حبًا شديدًا، بل لأن القراءة تقطع الوقت حين لا يكون لدي ما أفعله.”
“…فهمت.”
بما أنها لا تقرأ بدافع الحب بل بدافع امضاء الوقت، تراجع أستان بسرعة عن فضوله.
وتخلى أيضًا عن فكرة معرفة الهدية التي قد ترغب بها.
“جاء الأمر في وقته.”
“أي أمر؟”
“سأضطر إلى مغادرة القصر لفترة. كنت أفكر أين ستقضين الوقت، لكن بما أنكِ تحبين القراءة، فالمكتبة مناسبة.”
“إلى أين ستذهب؟ وما السبب؟”
“هل ستتولين الأمر بدلًا عني إن علمتِ؟”
تهرّب من الجواب مما دفع غلوريا لأن تعض شفتها بتردد وتسأله مجددًا.
“متى ستغادر؟”
“بعد غدٍ، في فترة ما بعد الظهر.”
“ومتى تعود؟”
“قد يستغرق الأمر أسبوعًا.”
“أسبوعٌ كامل؟”
سألت بحزن. بدت ملامحها خافتة، لكن على الأقل لم تكن تضغط عليه بالأسئلة كثيرًا، وهذا ما أراحه قليلًا.
وإن كانت من النوع الذي لا يستسلم بسهولة.
“هل يمكنني الذهاب معك؟”
“مستحيل. لا تثيري المشاكل وانتظري بهدوء.”
***
بعدما هدأت العاصفة الثلجيّة التي بدت وكأنها لن تتوقف أبدًا، لم يبقَ في القصر سوى حقلٍ أبيض نظيف وأشعة شمس دافئة.
راح أستان يتأمل الخارج بتمعن.
كانت الفتاة الطائشة تترك آثار أقدامها بخفةٍ على بياض الثلج.
معبّرةً عن مرحها برداء يرفرف، كانت تشبه طفلًا أو ربما جروًا صغيرًا.
“الماء والطعام تم تحضيرهما لك لمدة أسبوع، وأضفت بعض الملابس أيضًا. وأحضرتُ بعض الأدوية تحسبًا لأيِّ طارئ…”
“لا حاجة لها. لستُ ذاهبًا إلى مكان بعيد.”
ردّ أستان وهو يتفقد الأمتعة التي حضّرها له كولين.
لم يكن قادرًا على إنكار شعوره الثقيل كلما نظر إلى تلك الحقائب المبالغ فيها وكأنه ذاهب دون عودة.
“إن جاء أحدهم إلى القصر في غيابي، فلا تدخله. أرسله إلى النُزُل.”
“نعم.”
“ضاعف دوريات الحراسة إلى مرتين يوميًّا، وشدد الحماية خارج القصر.”
“مفهوم.”
“وإن لم أعد بعد عشرة أيام، فأغلق البوابات وأشعل النار في برج القصر. هل فهمت؟”
“…نعم.”
وجه أستان نظره نحو السوار في معصمه.
كان يتمنى ألا يحدث شيءٌ، لكن إن حدث ما لا يُمكن تداركه، فلن يستطيع ضمان سلامة الجميع.
“ستشعر الآنسة بالوحدة الشديدة.”
فتح كولين فمه بتردد.
“سأحاول إقناعها، لكن…”
“لا، أنا من سيخبرها.”
كان أستان يعبث بالسوار الذي ضاق حتى أقصى حدوده، ثم ارتدى معطفه ونهض.
كان هناك شيء أراد أن يعطيه لغلوريا قبل أن يختبئ في البرج.
***
صوت الثلج يُضغط تحت الأقدام قاد أستان إلى الفتاة التي كانت تلعب بنفَسها البارد في الهواء.
راقبها بصمت، ثم قال بهدوء:
“الجو بارد، لماذا أنتِ في الخارج؟”
“آه؟ دوق!”
التفتت غلوريا بابتسامة مشرقة.
“خرجتُ لأودعك! هل ستغادر الآن؟”
“بعد قليل.”
“ولكن، لماذا خرجتَ مبكرًا؟”
“لأن الطقس جميل.”
تجولت عيناه سريعًا عليها.
كانت ترتدي وشاحًا وقفازين وحذاءً طويلًا، لكنها لم تكن دافئة تمامًا، رغم أن مظهرها كان كافيًا لنزهةٍ قصيرة.
“هل تودّين أن تتمشي معي قبل أن أغادر؟”
“بالطبع!”
بابتسامةٍ مشرقة، بدأت تمشي إلى جانبه بخفة.
كانت خصلاتها الذهبية تتطاير بفعل الرياح بين الحين والآخر.
“ألستِ تشعرين بالبرد؟”
“ليس كثيرًا… حسنًا، قليلًا. هل يمكنني أن أتشبث بذراعك؟”
“…افعلي ما تشائين.”
أعطاها ذراعه، فتمسكت بها فورًا، وأخذت تفرك خدها بكتفه.
شعر بالحرج، لكنه لم يمانع.
“رائع…”
انطلقت غلوريا بالدهشة وهي ترى المشهد المكسو بالثلج.
كان المشهد نقيًا وجميلاً إلى حدٍ لا يُصدق.
“إنه رائعٌ للغاية.”
انعكست لمعة عينيها كفتاةٍ صغيرة على وجه أستان الذي ارتسمت عليه ابتسامةٌ باهتة.
‘كان من الجيد أن أخرج.’
وهو يتظاهر بعدم الاهتمام، أغلق مشبك عباءتها.
“أنتِ من قلتِ إن الجو بارد. لا تصابي بالزكام.”
“لا بأس.”
ابتسمت غلوريا ببراءة وهي تسحب ياقة معطفه.
حين تلاقت أعينهما، ابتسم هو بخفة.
امتدت يده إلى وجهها ليقربه، لكنه تراجع وفتح جيبه الداخلي بدلًا من ذلك.
“لا تثيري المشاكل بغيابي وكوني هادئة.”
ناولها شيئًا صغيرًا.
“ما هذا؟”
سألت غلوريا بدهشة وهي تأخذ القلادة.
كانت عبارة عن سلسلةٍ معدنية بسيطة تتدلى منها نابٌ صغير، مصنوع من أحد مخلوقات السيكون التي صادها أستان لأول مرة.
“قلادةٌ مصنوعة من ناب سيكون.”
“هذا يعني أنها ثمينة، أليس كذلك؟ لماذا تعطيني إياها؟”
“هدية.”
“هدية؟”
من غير المعقول أن تُحب فتاةٌ في العشرين شيئًا كهذا بدلاً من المجوهرات.
لام أستان ذوقه السيئ، لكنه قال بهدوء:
“إنها ثمينة. فاحتفظي بها جيدًا.”
“نعم. سأحتفظ بها حتى أموت.”
انعكست الدهشة والفرح في عينيها المستديرتين.
راقبها وهو تمسك بالقلادة بانبهار، ثم أضاف بتردد:
“وإن لم أعد…”
“ماذا؟”
رفعت غلوريا رأسها فجأة.
“ما الذي تعنيه بهذا الكلام؟”
ردة فعلها المفاجئة جعلته يعض لسانه.
“كنت أمزح.”
“كذب. من يقول شيئًا كهذا لمجرد المزاح؟”
“تتمنين أن يكون مزاحًا، أليس كذلك؟”
“هذا ليس المقصود…”
ترددت غلوريا ثم سألت بقلق.
“لن تذهب لشيءٍ خطير، صحيح؟”
“ما هو الشيء الخطير؟”
“مبارزة، أو حرب أو شيء من هذا القبيل.”
“هاه.”
‘إلى أين يمكن أن تمتد مخيلة هذه الفتاة الصغيرة؟’
ضحك أستان رغم أن قلقها لم يكن مزعجًا.
“للأسف، لا يوجد شيء مثيرٌ كهذا. لو كان، لأخذتكِ معي.”
“بما أنك تمزح، فهذا يعني أن الأمر ليس خطيرًا.”
قالت غلوريا بوجه متجهم وهي تنفخ وجنتيها.
ضحك أستان بهدوء ومضى في طريقه.
***
بعد أن خاضا في الثلج حتى الركبتين، ظهرت كوخٌ قديم.
كان الكوخ قد بُني ليحتمي فيه من يباغته تساقط الثلج في طريقه إلى القرية.
حين قرر أستان العودة، التفت إلى غلوريا التي كانت مشغولة بالقلادة وسألها:
“هل تريدين شيئًا؟ يمكنني أن أشتريه لك في طريقي.”
“لا حاجة. كل ما أحتاجه موجودٌ في القصر…”
كراااك!
دوى صوت انهيارٍ هائل فقطع كلامها.
“هاه؟! هل سمعْتَ شيئًا؟”
تجمّد وجه أستان فجأة.
نظرت غلوريا إليه ثم تابعت بعينيها اتجاه نظره.
“……سيكون.”
من خلف الكوخ القديم، كان وحشٌ أبيض يُحدّق بهما.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 9"