الفصل 3 :
“……عرضُ زواج؟”
اهتزّ حاجبا أستان قليلًا عند سماعه الكلمة الغريبة التي خرجت من فم المرأة.
“هل قلتِ للتوّ عرض زواج؟”
“نعم. سمعتَ جيّدًا تمامًا.”
“أنا طلبتُ يدكِ؟”
“أجل. دوق أستان فون شولتسمير طلب الزواج من غلوريا ماكين.”
أجابت غلوريا بوجهٍ خالٍ من أيِّ ابتسامة.
هل أنا أحلم، أم أنَّ هذه المرأة تهذي؟
في هذا الموقف العبثي، أطلق أستان ضحكةً خافتةً غير مصدّقة.
“لم أعِشْ لأسمع شيئًا بهذا الغرابة.”
“ليس أمرًا غريبًا. لديّ الدليل أيضًا.”
“دليل؟”
“إن لم تصدّقني، يمكنك التأكّد بنفسك.”
قالت ذلك ومدّت نحوه ورقةً مجعلكة، مؤكّدةً أنّها لا تمزح. اخذ أستان الورقة القديمة التي بدا وكأنّها التُقطت من سلّة المهملات، وسألها:
“ما هذا؟”
“إنّه عرض الزواج الذي أرسلته إليّ، يا دوق.”
“عرض زواج؟”
أنا أرسلتُ عرض زواج؟ لا يُمكن أن يكون هذا حقيقيًّا.
مع ازدياد غرابة القصّة، غرق أستان أكثر في الحيرة.
ركّز في الكلمات التي بالكاد تُقرأ بسبب تلطّخ الحبر، فتلطّفت غلوريا وأشارت:
“هل ترى الاسم في آخر السطر؟ هناك ختمٌ أيضًا.”
وجّه أستان نظراته المشكّكة إلى السطر الأخير من الرسالة.
[أستان فون شولتسمير]
كما قالت المرأة، كان الاسم مكتوبًا بخطٍّ مألوف وواضح. والختم بجانبه، بلا شكّ، ختمه الشخصيّ.
لكن، لِمَ لا أذكر شيئًا عن هذا؟
ظلّ أستان غارقًا في التفكير حول مصدر تلك الوثيقة، ثمّ قال بعد فترة:
“يبدو أنَّ هناك خطأً ما.”
“خطأ؟ هل تنوي التهرّب بكلمةٍ كهذه بعد أن جعلتني أقطع كلّ هذه المسافة؟”
سألت غلوريا بنظرةٍ تنمّ عن خيبة أمل.
لم يعرف أستان ما يقول، فعاد يتفحّص وثيقة الزواج مرّة أخرى.
تبيّن له أنّها أُرسلت قبل سبع سنوات من قصر آل شولتسمير.
‘ما لم يكن أحدهم قد استخدم اسمي على سبيل المزاح……’
لا أحد غيره يمكن أن يفعلها.
نهض أستان من مكانه وفتح باب المكتب بعنف.
“آه!”
كان لوغان ملصقًا أذنه بالباب يسترق السمع، فذُعر وسقط على مؤخّرته.
كتم أستان غيظه الذي بلغ حنجرته، وقال:
“لوغان، اذهب حالًا وأحضر كولين.”
“عفـ… نعم، حاضر.”
أدرك لوغان على الفور أنَّ التباطؤ سيجلب المصائب، فانطلق في الممرّ راكضًا.
أدار أستان رأسه وهو يضغط على أضراسه. كانت المرأة تتجوّل في المكتب بتأنٍّ، وكأنَّ شيئًا لم يكن، وكأنّها تقول: “تأكّد كما تشاء”.
“هل اصطدتَ هذا الغزال بنفسك؟”
“أجل. لا تشدّي قرنيه.”
“آسفة، بدا غريبًا فحسب. هذه السجّادة المصنوعة من جلد الدبّ أيضًا… هل تعجبك، يا دوق؟”
“إنّها من والدي.”
“آه، فهمت.”
بينما كانت تتجوّل في أرجاء المكتب بفضولٍ واضح، وصل كولين، بشعرٍ منكوش وهيئةٍ فوضويّة.
“استدعيتَني، يا صاحب السموّ.”
“كولين، هل هذا من صُنعك؟”
ناول أستان وثيقة الزواج إلى كبير الخدم الذي لم يفق تمامًا من نومه.
تأمّل كولين الورقة المتّسخة بذهول، وبدأ يقرأها وهو يفرك عينيه. وحين انتهى، توجّه بنظره ببطءٍ نحو أستان.
ما إن التقت أعينهما، حتى أشاح كولين وجهه سريعًا. لا شكّ أنّه هو الفاعل.
تنهّد أستان ووجّه إليه نظرةً حادّة، فحاول كولين أن يبرّر، وقد ظهر عليه الارتباك:
“كح، بصفتـ…ي كبير خدم شولتسمير، لم أعد أطيق رؤيتك تتقدّم في العمر أعزبًا، فـ…”
“فأرسلتَ عروض زواجٍ عشوائيّة إلى عائلاتٍ لا نعرفها؟”
“ليست عشوائيّة، لقد اخترتُ العائلات التي تليق بمقامنا بناءً على معاييرٍ صارمةٍ للغاية، و…”
“كولين!”
صرخ أستان بصوتٍ مرتفع، ثمّ سكت فجأة.
لحظة، هل قال عائلاتٍ بصيغة الجمع؟
“كم عائلةً أرسلتَ إليها؟”
“نحو ثلاثين عائلةً تقريبًا…….”
انهار أستان على الأريكة.
“سأفقد صوابي.”
“اطمئنّ، يا صاحب السموّ. لم يصل أيُّ ردّ.”
هل تُعدّ هذه مواساة؟! كتم أستان غضبه وأشار برأسه.
“اخرج من هنا.”
“أتمنّى لك ليلةً هادئة.”
فرّ كولين من المكتب بسرعة. عاد أستان لينظر إلى غلوريا بوجهٍ تغطّيه ملامح الإرهاق.
“هل سمعتِ كلّ شيء؟”
“نعم. كبير خدم شولتسمير أرسل عرض زواج إلى عائلتي.”
“صحيح. وإلى ثلاثين عائلة أخرى، منها عائلتكِ.”
“وأنا كنتُ أوّل من أجاب على العرض، أليس كذلك؟”
ابتسمت غلوريا ابتسامةَ من يملك زمام الأمور.
رغم شعوره بالقهر، لم يكن أستان ينوي السماح لها بالتحكّم في الموقف، فقرّر الردّ.
“آنسة، كم عمركِ الآن؟”
“سأبلغ العشرين قريبًا.”
“إذًا حين وصلكِ عرض الزواج كنتِ في الثالثة عشرة؟”
“الزواج الترتيبيّ دائمًا ما يكون كذلك. ثمّ إنّني أنضج من اقراني.”
“هاه.”
منذ لقائهما الأوّل، شعر أنّها ليست فتاةً سهلة. والآن أدرك أنّها أذكى ممّا توقّع.
وحين رأى أنَّ الجدال معها بالكلام غير مُجدٍ، قرّر استخدام المنصب والسنّ كورقة ضغط.
“هل نلتِ موافقة والديكِ؟”
“في الإمبراطوريّة، أيُّ بالغٍ فوق العشرين يملك حقّ اتّخاذ قراراته.”
“لكنكِ لم تبلغي العشرين بعد.”
“ماذا لو انتظرتَ عشرة أيّامٍ ثمّ سألتَني مرّةً أخرى؟”
“تنوين البقاء هنا طوال العشرة أيّام؟”
“ما لم يطردني الدوق في هذا البرد القارس، نعم.”
“…….”
لا شكّ في ذلك. جاءت إلى هنا لتقلب حياتي رأسًا على عقب.
هل أطردها؟ نظر أستان إلى نافذة المكتب حيث تتساقط الثلوج بغزارة، وتردّد.
ثمّ، وكأنَّ رأسه سينفجر، تناول زجاجة خمر وسكبها في حلقه دفعةً واحدة. أنزل الزجاجة الفارغة وسألها بتبرّم:
“إذًا، ترغبين في الزواج بي؟”
“بل قُل إنّك أنت مَن يريد الزواج بي، وأنا وافقتُ على عرضك. هذا أدقّ.”
“وما الفرق؟”
“كرامتي كسيدة.”
رفعت غلوريا ذقنها بتكبّر، فأطلق أستان ضحكةً ساخرة ورفع كتفيه.
“ولِمَ عليّ تصديق كلامكِ؟”
“ماذا؟”
بدت عليها الحيرة لأوّل مرّة منذ بدء الحديث.
رمشت بعينيها الكبيرتين وتردّدت، فواصل أستان بصوتٍ يحمل نبرة تهكّم.
“كيف أعلم أنّكِ حقًّا ابنةُ عائلة ماكين، ولستِ محتالةً تنتحل شخصيّة الابنة النبيلة؟”
“…….”
فتحت غلوريا شفتيها لتجيب، ثمّ أغلقتهما، ثمّ فتحتهما مجدّدًا. كانت شفتيها ترتجفان وكأنّها عاجزة عن ترتيب أفكارها.
مال أستان برأسه قليلًا وهو يترقّب ردّها، مستمتعًا بتغيّر تعبيراتها لحظةً بعد أخرى.
وبعد لحظة صمتٍ طويلة، تحدّثت أخيرًا:
“آه، عذرًا على التأخير. هذه أوّل مرّة يُطلب منّي إثبات هويّتي.”
“لا بأس. إذًا، ما هو جوابكِ؟”
“هذا.”
أشارت بأصبعها إلى عرض الزواج على الطاولة، وقالت:
“أليس مجرّد إحضاري عرض زواجٍ رسميّ من دوق شولتسمير دليلًا كافيًا؟”
“ممم، لا أظنّ ذلك.”
“ولِمَ لا؟”
“عرض الزواج قد يكون حقيقيًّا، لكن كيف حصلتِ عليه؟ قد تكونين سرقتِه من عائلة ماكين، أو التقطتِه من المهملات، أو أُرسلتِ نحوي من قِبل طرفٍ مجهول.”
وجّه أستان نظرةً حادّة نحوها.
هل ستتفاجأ؟ تغضب؟ تبكي؟ لعلّها تبكي… لا، أتمنّى ألا تفعل.
لكن غلوريا…
“بففف.”
انفجرت ضاحكة.
انحنت عيناها الكبيرتان بلطفٍ وهي تبتسم، ثمّ قالت:
“أنت تجيد المزاح أكثر ممّا ظننت. أو لعلّك تملك خيالًا واسعًا.”
“مزاح؟ خيال؟ انتظري، ماذا قلتِ؟”
“نعم.”
نظرت إليه بنظرةٍ فيها شيءٌ من الدعابة.
“يقولون إنّكَ بارد، عنيف، وقاسٍ. وإنّك تُمزّق السيكون حيًّا بأسنانك…”
“ماذا؟”
تغيّرت ملامح أستان فجأةً بسبب هذا الجواب غير المتوقّع.
بدت غلوريا محرجةً من ذكر كلّ تلك العيوب، وقالت بلطف:
“صحيح أنّها عادةٌ غريبة، لكن إن لم تفرضها عليّ، فسأتفهّمها.”
“……مذهل. وماذا بعد؟”
“قيل لي إنَّ طولك متران، وهيئتك أكبر من الدبّ، ووجهك مرعب… لكن يبدو أنّها مجرّد شائعات.”
ابتسمت غلوريا بخفّةٍ، مطمئنةً عينيها.
هل يجب أن أكون ممتنًّا لقدومها رغم سماعها لكلّ تلك الشائعات؟
كبح أستان مشاعره المتخبّطة، وتابع:
“دعينا من هذا. حتّى لو كنتِ حقًّا ابنة عائلة ماكين، فلا أرى سببًا يجعلني أتزوّجكِ.”
“أوه؟ لكنّك أرسلتَ لي عرض الزواج، يا دوق.”
أشارت برفقٍ إلى وثيقة الزواج بطرف إصبعها.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 3"