الفصل 23 :
سمع صوت طرقٍ مهذّبٍ على الباب، تلاه صوت رجل.
تحقّقت غلوريا من الظلّ الظاهر خلف الباب، ثمّ فتحته.
“سيّدي الكاهن؟ ما الذي جاء بك في هذا الوقت؟”
“لم أستطع النوم، فكنت أتجوّل في الممرّ، ورأيتُ أنّكِ أيضًا لا تغمضين عينًا، فجئت لأزوركِ. إن كنتِ لا تمانعين، هل تودّين تناول كوب شاي معي؟”
“نعم.”
قبلت غلوريا بسرور، وتبعت السيّد الكاهن إلى غرفته.
قادها إلى غرفةٍ صغيرة لا تحتوي سوى على سرير وطاولةٍ واحدة، ونزل الكاهن إبريق الماء المُحمّى على النّار وصبّ الشاي.
“ربّما طعمه ليس جيّدًا، لكن تفضّلي.”
رشفت غلوريا رشفةً حذرةً من الشّاي.
لم تكن أوراق الشّاي ذات جودةٍ عالية كما في قصر الدّوق، لكنّ نكهة الشّاي التي لم تتذوقها منذ مدّة كانت عطرةً جدًّا.
“ألا تشعرين بالإرهاق؟”
“لا، أنا بخير.”
كان جوابها ثابتًا كما هو دائمًا، فابتسم الكاهن ابتسامة خفيفة وهو يرفع كأسه.
‘لماذا دعاني ولم يقل شيئًا بعد؟’
ظنّت أنّه قد يكون بسبب ما حدث في النّهار، لكنّ الكاهن لم يفتح فمه كثيرًا.
وفي الصمت الذي خيّم، توقّفت عين غلوريا على تمثالٍ صغير موضوع على الطاولة، تمثال السيكون.
بينما كانت تتمعّن التّمثال، خطرت في بالها فجأةً صورة وجهٍ ما.
‘يشبه أمي…؟’
على الرّغم من علمها أنَّ الأمر مجرّد صدفة، إلا أنَّ أنفها شعرت بوخزٍ خفيف.
“……آنستي؟”
ردّت بعد أن انتبهت لتوجّه نظر الكاهن إليها.
“آه، نعم.”
قالتها متأخّرةً بسبب انشغالها بالتمثال، فردّ الكاهن بنبرة متعاطفة.
“ربّما كنتُ قد أتيتُ لزيارة شخص متعبٍ بلا فائدة.”
“لا، فقط أجبرتُ نفسي على التفكير في أمورٍ أخرى لبرهة.”
“لقد بدت عليكِ علامات التعب الشّديدة.”
ابتسمت بخجل لأنّها كانت تدري أنّها فقدت الكثير من الوزن.
فتح الكاهن فمه مجدّدًا وقال:
“لقد تحملتِ الكثير. شكرًا جزيلًا لكِ.”
“لا أعتقد أنّي فعلتُ شيئًا يستحق الشكر.”
“الجميع يعلم كم ساعدتِ، خاصّة إنقاذكِ لراندال كان أمرًا غير متوقّع حقًّا.”
حين ظنّت أنّه قد جاء ليشكرها، بدأ بالكلام في الموضوع الرئيسي.
“الآن وقد استقرّ الوضع هنا كثيرًا، ماذا عن العودة إلى القصر؟”
“لا زال لدي الكثير لأفعله. يجب أن أغسل الغسيل، وأرعى الأطفال…”
“هذه الأمور يمكننا تقسيمها والقيام بها نحن.”
حاول الكاهن إقناعها بالعودة، خصوصًا بعدما تعافى معظم الجرحى وقلّ عدد الموجودين في المعبد، لكن غلوريا ترددت في الإجابة.
فلاحظ الكاهن تردّدها فسأل بحذر:
“على أيِّ حال، هل لي أن أعرف لماذا تفعلين كلّ هذا؟”
“أنتَ قلت لي ذات مرّة إنّه إذا بذلتُ الجهد، يمكنني تغيير نظرة النّاس.”
“وقلت لكِ أيضًا أنّ ذلك لن يكون سهلاً.”
“لكن إن كانت هناك فرصة، فلا أريد أن أستسلم.”
“……”
“أتمنّى أن لا يكره الناس الدّوق.”
أجابت بصعوبة، وكانت يدها المرتعشة تمسك بالكوب.
نظرت إلى السّوار على معصمها وسألها الكاهن.
“هل سبق ورأيتِ السيكون؟”
“نعم.”
“ألَم يخيفكِ؟”
“……خفتُ كثيرًا.”
رغم أنَّ السؤال بدا غريبًا، فهمت غلوريا بسهولة مقصد الكاهن.
فكما كانت تخاف من السيكون، كذلك يخاف الناس من أستان.
“لم يكن السيكون منذ البداية كائنًا مخيفًا. بل الإنسان هو من جعله كذلك.”
“……”
“أوّل من كسّر الثقة كان الإنسان. والعائلة الإمبراطوريّة تدفع الثمن فقط.”
حركت شفتيها وابتلعت ريقها.
كانت كلمات الكاهن باردة، لكنها صحيحة. فالإنسان هو من صنع السيكون وحوّله إلى وحش، والحاكم لم يفعل سوى أن أعاد للإنسان ما صنع.
في النهاية، الإنسان هو من صنع الوحش.
“لكنّ أن تعاني بسبب ذنب لم ترتكبه أنت، فهذا ظلمٌ كبير.”
قالت غلوريا معبرةً عن استيائها، فابتسم الكاهن بلطف.
أنهى شرب كوب الشاي ببطء، ووضع الكوب على الطاولة، ثمّ قال:
“حاكم السيكون يحبّ البشر كما يحبّ السيكون.”
“……”
“إذا كان هذا من إراده، فربّما يومًت ما قد يغفر لنا.”
أنهى حديثه، ونهض من مكانه، وفتح الباب مودعًا إيّاها.
فقامت غلوريا من مقعدها أيضًا.
“تصبح على خير.”
***
ليلة أمس، لم تكن غلوريا الوحيدة التي لم تنم.
خرج أستان ممسكًا رأسه، بعد أن أمضى ليلةً بلا نوم، من غرفته إلى الصّالة.
كان قصر شولتسمير الدّوقي هادئًا جدًّا، إذ لم يكن فيه أحد ليحادثه.
<سيدي الدّوق!>
‘من دون الهمسات والضّحكات، الجوّ غريبٌ حقًا.’
تجوّل أستان في الصّالة بتملّك من شعور الفراغ، ثم جلس على الأريكة.
كان غريبًا أن لا يجد أحدًا بجانبه، إذ كانت عادةً تهرع وتجلس إلى جواره.
حاول أن يُنسي نفسه هذا الفراغ، فتناول الشّاي رغم عدم رغبته، وقرأ، وتدرّب على السّيف، لكن لا شيء ملأ هذا الفراغ.
اعترف أستان بأنّه تعوّد على حياة الرفقة مع غلوريا.
‘أتساءل إن كانت بخير.’
بعد أن انفصل عن غلوريا في القرية، حاول أن لا يهتمّ بما يشعر به، لكن لم يكن الأمر سهلًا كما ظنّ.
وكما فعل هو معها، لَن تُعامله هي بلطف.
كان يعلم جيدًا عداء سكّان الإقطاعيّة له، واعتبر ذلك نصيبه الذي يجب تحمّله.
فليس بموت شخصٍ أنَّ يُصبِح مَن يُلقى عليه اللّوم مصدر غضب.
لكنّ غلوريا، الّتي تمرّ بتجربةٍ جديدة، كانت مختلفة.
فهي تغضب من الذين يلمزونه، وتُقدّم له العزاء بصدق.
كانت تُظهر رقةً وعطفًا لدرجةٍ مؤثّرة.
‘الآن، الصغيرة تعرف الحقيقة.’
‘حان الوقت لإحضارها.’
‘لقد مضى وقتٌ كافٍ، والحادث قد تمّ تداركه، فلا مشكلة في إحضارها.’
أراد أن يطلب من لوغان تجهيز العربة، وبينما كان متّجهًا إلى غرفته، لمح خادمًا صغيرًا عاد للتوّ إلى القصر.
“مارك؟ هل عدتَ بهذه السرعة؟”
“نعم، سيدي.”
عبس أستان وهو يحدّق فيه.
أمره بالبقاء في المعبد لمساعدة غلوريا، فلماذا عاد وحيدًا؟
“أين غلوريا؟”
“لا تزال في المعبد. طلبت بعض ملابس لتغييرها.”
“هل هي بخير؟”
“هي بخير، لكنني قلق عليها لأنّها تبذل جهدًا كبيرًا.”
“هل لديها الكثير من الأعمال؟”
“الأمر أكثر من ذلك، فهي تبدو مثقلةً بالأفكار…”
تلعثم الخادم ولم يصرح بتفاصيل أكثر، لكنّ الأمر كان واضحًا.
لذلك كان قد حذّرها من عنادها وطلب منها ألّا تبذل مجهودًا زائدًا.
لكنها أصرّت، وربّما لذلك أصبحت أكثر ما يقلقه.
ابتسم أستان ابتسامةً مُرّة.
“سأذهب لأحضر لها الملابس.”
***
هل كان كلامها عن المرض بمثابة نبوءة؟ فقد بدأ يومها سيئًا منذ الصّباح.
قد يكون بسبب قلة النوم، أو لأنَّ همومها ثقلت عليها.
حاولت غلوريا أن تتظاهر وكأنّها بخير حين توجّهت إلى المعبد.
كانت صناديق وصلت صباح اليوم متراكمةً بشكل عشوائي في ساحة المعبد.
نظرت إلى الجبل الضخم من الصناديق، فلم تستطع إلّا التنهد.
‘سيمضي اليوم كلّه في ترتيب هذه الصناديق.’
نفضت رأسها من شعور الإحباط، وخطت نحو مكان التّكديس.
بينما كانت الصناديق مكدّسةً، برز رأس إيي من بينها.
“إيي؟”
“أممم…”
رأت إيي وهو يحاول جاهدًا سحب قطعة ملابس خرجت من الصندوق.
ركضت إليه بسرعة.
“آه!”
فجأة، بدأت الصناديق المكدّسة تتهاوى بسرعة.
“إيي!”
قبضت غلوريا على معصم الطفل بسرعة، واحتضنته، وانحنت بجسدها لتغطّي نفسه.
انهارت الصناديق فوق جسدها.
“آنستي! إيي!”
هرع الموجودون في المعبد على الفور لإزاحة الصناديق.
ساعدوا غلوريا، التي كان من الصّعب عليها النهوض.
“آنستي، هل أنتِ بخير؟”
“أنا بخير، لكن إيي…”
“آنستي؟”
أطلّ الطفل من بين ذراعيها.
“إيي، هل تألمت؟”
“هممم.”
“هذا جيد.”
تنفّس الجميع الصّعداء بعدما تأكّدوا من سلامة الطفل.
سمعت الأمّ التي وصلت متأخّرةً النّبأ وهرعت إلى المعبد.
“إيي! إيي!”
“أمي.”
ركض الطفل إلى حضن أمه، التي احتضنته بعيون متفاجئة تنظر إلى غلوريا.
“إيي بخير. لكن من الأفضل فحصه عند الطبيب للاطمئنان.”
“آه، هل أنتِ بخير، آنستي؟”
“نعم، أنا بخير…”
تدهورت رؤيتها فجأة، واقتربت الأرض بسرعة.
ثم…
“……آنستي!”
عمّ الظلام
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 23"