الفصل 21 :
“اصعدي.”
“لا أُريد.”
“هيا، اصعدي.”
“قلت إنّي لا أُريد.”
“لا تعاندي، واصعدي بسرعة.”
“أقول إنّي لا أُريد.”
لوّحت غلوريا برزمة صغيرة كانت تمسك بها كأنّها درع، وهزّت رأسها رفضًا.
وقف أستان أمام باب العربة المفتوح على مصراعيه، يخوض جدالًا لا ينتهي، ثمّ سأل بصوت منخفض:
“حسنًا. إذًا أخبريني على الأقل، لماذا ترفضين؟”
“لأنّ لديّ عملًا يجب أن أُنجزه.”
“أيّ عمل؟”
“قالوا إنَّ المعبد يفتقر إلى الأيدي العاملة. يجب أن أذهب لأُساعدهم.”
“تُساعدين؟ وتُساعدين في ماذا؟ إن ذهبتِ، فلن يستقبلوكِ أصلًا.”
“أشكُّ في ذلك. أنا، رغم شكلي هذا، أجيد تنفيذ أيِّ أمرٍ يُطلب منّي. حتى إنّي نفّذت أوامر الدّوق جيّدًا.”
“توقّفي عن هذا الهراء، واصعدي إلى العربة.”
“سأُريك إن كان ما أقوله هراء أم لا. لذا تفضّل واذهب أنت أوّلًا، سيّدي الدّوق.”
“غلوريا ماكّين! هل ستُصرّين على هذا حقًّا؟”
“لا تقلق، سأُحسن التّصرّف.”
“تحسنين التّصرّف، ماذا أيضًا!”
انفجر غضب أستان الذي كان يُكابد في كتمانه.
ارتعدت غلوريا خوفًا وانكمشت كتفاها، فراح أستان يضرب صدره بكفّه.
كان الألم يتصاعد عبر جسده كلّه، ومعه هدأت حدّة مزاجه قليلًا.
“سأطرح عليكِ سؤالًا أخيرًا. هل حقًّا لَن تعودي؟”
رفعت غلوريا نظرها إليه بعينين واسعتين وسألته.
“هل ستتزوّجني إن عدتُ؟”
“……هاه.”
أدرك أستان أخيرًا أنّه لا سبيل لكسر عنادها، فرفع يديه مستسلمًا.
“حسنًا، فليكن ما تشائين.”
ثمّ صعد إلى العربة من دون أن يلتفت خلفه.
“انتبه في طريقك.”
راقبت غلوريا العربة تبتعد، ثمّ اتّجهت إلى المعبد.
خلافًا لتوقّع أستان أنّها ستُقابل بالرّفض، استقبلها الكاهن بذراعين مفتوحتين.
“كنّا في حاجةٍ حتّى إلى يد طفل.”
“سأقوم بأيِّ شيء، فقط قُل لي ما العمل.”
شمّرت غلوريا عن ساعديها، وشرعت في العمل.
رغم أنَّ نصف من كانوا يقيمون في المعبد قد عادوا إلى منازلهم، فإنَّ المصابين الّذين يحتاجون إلى علاج، ومَن فقدوا منازلهم، ظلّوا هناك.
الأعمال البسيطة كخدمة الأطفال، أو التنظيف، أو الطبخ، تمّ توزيعها بالتّناوب.
لكنّ الأعمال التخصّصية، مثل رعاية المصابين بإصاباتٍ بالغة أو توزيع المؤن، كانت تقع على عاتق الكاهن وحده.
“هل يمكنكِ إذًا التّحقق من كمّيّة المؤن المتبقيّة ووضع خطّة توزيع؟”
“بالطّبع.”
أجابت غلوريا دون تردّد وتسلّمت الدفتر.
رغم وفرة المؤن، فإنِّ الدفتر كان مُنظّمًا بدقّة، فتمكّنت من إنجاز العمل خلال نصف نهار.
بعد أن أنهت ما كُلّفت به، راحت تتجوّل في أنحاء المعبد.
كان النّاس قد بدؤوا بالتّأقلم، ويعيشون بشكلٍ أكثر هدوءًا.
ورغم استمرار بعض النّظرات الحادّة نحوها بسبب ما جرى في الماضي، فإنَّ غياب أستان جعل أحدًا لا يُجاهر بإهانتها.
‘هل من شيءٍ يمكنني فعله؟’
فكّرت غلوريا أنّه سيكون من المُخجل أن تأتي رغم رفض أستان وتجلس بلا جدوى.
وفي تلك اللّحظة، رأت رجلًا ممدّدًا في زاوية بعيدة من المعبد، وقد بدا كمن هو مُنفصل عن بقيّة النّاس.
‘يبدو أنّه على هذه الحال منذ الصّباح.’
هل أكل شيئًا؟ هل يحتاج إلى شيء؟
اقتربت منه بحذر وسألته:
“عذرًا… هل أنتِ بخير؟”
“…لا تُقدّمي لي شيئًا.”
“عفوًا؟”
رفع جفنيه بصعوبة وهو يُجيبها.
كان لونه شاحبًا، كأنِّ دمه قد جفّ، وعيناه غائرتين. بدا كأنّه على وشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
“دعيني وشأني… سأموت قريبًا…”
“…اعذرني قليلًا.”
رفعت غلوريا الغطاء عنه دون تردّد.
“….!”
كان كلّ شيءٍ تحته يقطر دمًا.
غطّى الدّم الأرضية من تحته، وجسدُه كان مليئًا بالجراح، وساقه اليُسرى مبتورةٌ من أسفل الرّكبة.
“يا إلهي…”
“هل رأيتِ ما يكفي؟ إذًا اذهبي…”
حاول أن يُغطّي نفسه من جديد ويستدير.
لاحظت غلوريا أنِّ طرف الغطاء الذي ظنّتْه أحمر، كان في الأصل أبيض.
ركضت نحو الكاهن.
“يا سيّد كاهن، ذلك الرّجل هناك، هل لم يتلقَّ أيَّ علاج؟”
“آه… تقصدين راندل.”
أجاب الكاهن بوجهٍ مليء بالحزن.
“زارنا الأطبّاء مرارًا، لكنّه رفض العلاج، ولم نستطع فعل شيء.”
“لماذا يرفض العلاج؟”
“فقد زوجته بسبب ذلك السيكون، ويقول إنّه لا يُريد أن يعيش وحده.”
“لكن… علينا إنقاذه، حتّى لو اضطررنا لإجباره!”
أومأ الكاهن برأسه الثقيل.
ربّما هو أيضًا لم يُرد تركه هكذا، لكنّ أعداد من يحتاجون للعناية كانت أكبر من أن يُركّز على شخصٍ واحد.
“فهمت… سأعتني به أنا.”
“عفوًا؟”
“قلت إنّني سأُنقذه. هذا الرّجل.”
***
ظنّت غلوريا أنّها معتادة على رؤية الجراح.
فقد كانت تتعرّض للضّرب من زوجة أبيها، ورافقت النّبيلات في أعمالهن الخيريّة في المشافي، واعتنت بإصابة أستان سابقًا.
لكنّ كلّ تلك الخبرات بدت تافهة أمام ما رأت.
آرثر راندل، نَجّارٌ بارع وعاملٌ في الغابة، عاش في أراضي دوق شولتسمير لثلاثة أجيال.
رجلٌ شجاع ونبيل، فقد ساقه وزوجته بسبب تلك الشّجاعة.
“حين ظهر السيكون، كان راندل أوّل من أمسك فأسه، وهو من غرسها في ظهر الوحش.”
“أفهم.”
“لكنّ حياة ذلك الوحش كانت أكثر صلابة ممّا توقّع. لم يمُت رغم الإصابة، وبدأ يحطّم البيوت القريبة من شدّة هياجه.
ومن سوء حظّ راندل، كانت زوجته داخل أحد تلك البيوت.”
“سمعتُ أنّه دخل لينقذها، لكنّ عمودًا سقط على ساقه ففقدها.”
قد يُفهم لِمَ يُفضّل الموت… فقد رفض العلاج والطعام. لن يصمد طويلًا.
“هيه.”
“…دعيني وشأني.”
أغمض الرجل عينيه مُستسلمًا، ونظرت إليه غلوريا بحزن.
“إيّي، صغيري.”
جذبها طفلٌ صغير من ثوبها، وكان هو نفسه الطفل الذي حاول أستان مساعدته سابقًا.
“إيّي، هل يمكنك أن تُحضِر لي مطهّرًا من فضلك؟”
“نعم.”
عرف الطفل أماكن الأدوية جيدًا، وعاد بسرعة بالمطهّر الصّغير.
“ها هو.”
“شكرًا، إيّي.”
فتحت غلوريا زجاجة المطهّر، وانتشر رائحته القويّة في الهواء.
عزّزت عزيمتها، ورفعت الغطاء مجدّدًا.
“سيؤلم قليلًا، لكن تحمّل.”
“ماذا تفعلين… آهغ!”
صَبّت المطهّر على الجراح، وبدأت البثور تنتفخ وتتقيّح.
لم يحتمل راندل الألم، وأُغمي عليه.
‘ربّما من الأفضل أن يُغشى عليه.’
فمن الأفضل أن يغيب عن الوعي على أن يتألّم وهو مُتيقّظ.
تخلّصت من الغطاء الملطّخ، ونظّفت الجراح ولفّتها بعناية.
لم تتركه لحظة. قضت ليلتين إلى جانبه تحسبًا لأيِّ تدهور.
كانت تُعطيه الدواء في مواعيده، تنظّف الجراح، وتراقب حرارته.
وبعد ثلاثة أيّام من الرّعاية الحثيثة، استعاد وعيه.
“……”
“هل أنتَ بخير؟”
تبادلا النّظر دون كلمة.
“كيف تشعر الآن؟”
“…لا بأس.”
“هل تُحاول النّهوض؟ سُساعدك.”
رفض يدها المُمدودة، ورفع نفسه بمفرده.
رغم الألم، كان جسده أخفّ بكثير ممّا توقّع.
“زارك الطّبيب وأنت نائم، وقال إنّك تجاوزت المرحلة الخطرة، وإنّه إن سارت الأمور على ما يُرام، فستعود كما كنت سابقًا.”
“……”
“السّاق… ستكون متعبة، لكنّكَ إن استخدمت طرفًا صناعيًّا فستُصبح أفضل. وسأبحث لك عن خيارٍ أفضل أيضًا.”
نظر بصمت إلى ساقه المغطّاة، ثمّ سأل:
“أليست مُقزّزة؟”
“لا. ليست مقزّزةً أبدًا.”
“……”
“هذه جراح ناتجةٌ عن حمايتك للنّاس.”
“حميتُ النّاس… لكنّني لم أحمِ زوجتي.”
ارتسمت المرارة على وجهه.
كتمت غلوريا مشاعرها وردّت عليه:
“أنا واثقةٌ من أنَّ زوجتك كانت فخورةً بك، وبكلّ ما فعلت.”
“……”
“لذا… قاوم. يمكنكِ أن تتجاوز هذا، وستتجاوزه فعلًا.”
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 21"