الفصل 12 :
“هل ذلك الطفل هو الوحش؟”
“نعم، انظروا إلى تلك النظرة البشعة.”
“لقد شقّ بطن الدوقة عند ولادته، أليس كذلك؟”
“شش، قد يسمعنا.”
وحش.
طفلٌ ملعون.
ابنٌ وُلد بعد أن قتل أمه.
الألقاب التي أُطلقت على أستان كانت كثيرة.
عار العائلة الإمبراطوريّة، ذاك الذي نال لعنةً تحوّله إلى وحش في كلّ ليلةٍ يكتمل فيها القمر.
ومع أنّه سمع من يهمسون بأنَّ “الموت أرحم له من حياةٍ كهذه”، ظلّ يقاتل ويقاوم.
لأنّه أراد أن يعيش.
وأراد أن يُحبّ.
“أبي.”
“اخرس! أنا لم يكن لي ابنٌ وحشٌ مثلك قطّ!”
“أبي.”
“أبعدوه عن ناظري حالًا! أبعدوا هذا الوحش فورًا!”
“أبي.”
“من الذي سمح له بالتجوّل؟! سيُدنّس هذا القصر بوجوده!”
رغم أنّه كان يُحتقر حتى من أقرب النّاس إليه، بذل أستان كلّ ما بوسعه.
كان أوّل من يهرع إذا ظهر سيكون، وآخر من يعود.
تحمّل جراحًا كادت تودي بحياته، وتظاهر بالقوّة.
لم يكن يشتكي الألم، ولا يبوح بالصّعوبة.
ظنّ أنَّ والده قد يلتفت إليه إن هو صبر.
لكنّ ذلك اليوم… لم يأتِ أبدًا.
في شتاء عامه الثاني عشر، وبعد أن قضى عشرة أيّام حبيس البرج، عاد أستان إلى القصر.
دخل غرفة والده صدفةً، وهناك، رآها.
صورةٌ معلّقة على الجدار.
وعرف فورًا، بفطرته، أنَّ تلك المرأة… كانت أمّه.
“أمّي…”
“كيف تجرؤ على لمسها بتلك اليدين القذرتين؟!”
بَك!
ضربة عنيفة ارتطمت برأسه وجعلت وعيه يهتزّ.
تلقّى ضربًا مبرّحًا من والده لمجرّد أنّه لمس اللوحة، ثمّ أُعيد حبسه في المخزن.
عندها فقط، أدرك.
لن يُحبّه أحدٌ أبدًا.
ومنذ ذلك الحين… عاش كالميّت.
لم يعد يطلب الحُب، ولم يسعَ ليكون ولدًا طيّبًا.
أغلق على نفسه الباب لئلّا يلتقي والده، وصارع لئلّا تبتلعه اللعنة، مركّزًا فقط على أن يعيش كإنسان.
ثمّ جاء عيد ميلاده السادس عشر.
“أستان.”
“أ-أبي؟”
“غدًا عيد ميلادك، أليس كذلك؟”
ولأنَّ يوم مولده صادف يوم وفاة والدته، لم يُهنّئه أحدٌ قطّ بعيد ميلاده.
ولأوّل مرّة، جاءه والده بكلماتٍ رقيقة.
كاد يبكي.
“سأُعطيك هدية، تعال إلى غرفتي صباح الغد.”
“نعم!”
ظنّ أنّه ربما سامحه أخيرًا، فلم يستطع النوم من شدّة الترقّب.
وفي الصباح، توجّه إلى غرفة والده.
“أبي، إنّه أنا أستان.”
لم يأتِ أيُّ ردّ رغم الطّرق المتكرّر، ففتح الباب بحذر.
“أبي، هل ما زلت نائمًا… أ-أبي! أبي!”
كانت النوافذ مفتوحة، والستائر تتمايل بفعل الريح.
وجسد الدوق… يتمايل كذلك، معلّقًا في الهواء.
عند قدميه، كانت وصيّةٌ مجعّدة، مكتوبةٌ بخطٍّ مضطرب.
[تذكّر حتّى تموت، يا أستان، كم أنكَ مخلوقٌ بشع.]
***
“دوق! دوق!”
“هاه…!”
استفاق بصوتٍ مكتوم وأنفاسٍ متقطّعة.
شفاهه كانت جافّةً كالصّحراء، وجسده مبلّلٌ بالكامل بالعرق كما لو غُمر بالماء.
لقد كان ذلك الحُلم مجدّدًا.
رغم أنّه يراوده دائمًا بعد أن يتحرّر من اللّعنة، لم يقلّ ألمُه مرّة.
أغمض عينيه بإحكام، راغبًا في محو الصور العالقة في ذهنه، وحين فتحهما، بدأت الرّؤية الغائمة تتّضح تدريجيًا.
“دوق، هل استعدتَ وعيك؟”
صوتٌ رقيقٌ أعاد إليه إدراكه.
وعند نهاية نظره المذبذب، ظهر وجهٌ مألوف.
رمش أستان بعينيه الثقيلتين ليرى ملامحها الجميلة بوضوح.
إنّها بخير…
كانت تلك أوّل فكرةٍ خطرت له.
ومع طوفانٍ من الارتياح، تلاشى توتّره ببطء.
من خلف كتفيها، رأى مشهدًا مألوفًا.
متى… عدتُ؟
لم يكن في البرج المظلم والبارد، بل في غرفةٍ دافئة ومريحة.
استند بجسده محاولًا النهوض.
“آه…”
“لا! لا تتحرّك بعد.”
ما إن حاول الحركة، حتّى هاجمه الألم كأنَّ أحدهم ينتزع أضلاعه.
شهقَ بتأوّه، فهُرعت المرأة تسنده بفزع.
نظر أستان إلى غلوريا، وعلى عينيها الزرقاوين مثل السماء الصافية، كانت علامات القلق.
ولمّا همّ أن يسألها عن سبب وجودها، رفعت يدها لتفحص جبينه.
وضعت جبينها على جبينه، كما لو أنّها تُقارن درجة حرارته.
ثمّ تنفّست بارتياح.
“هذا جيد… كانت حرارتكَ مرتفعةً طوال الليل، أمّا الآن فقد انخفضت كثيرًا.”
“……”
“لكن لا تجهد نفسك، فقد كانت جراحكَ عميقة.”
“…..”
أخفض عينيه ينظر إلى جسده، فوجد الضمادات تغطّيه بالكامل.
تذكّر أنه قد خُدش بمخالب سيكون، لكن… أكان الأمر بهذا السّوء؟
كانت ذكرياته مشوّشة، ربّما بسبب اللّعنة.
ماذا عن السيكون… هل أصيب أحد؟
آخر من رأيته… كان لوغان؟
كلّ شيءٍ بدا غائمًا في ذهنه.
ثمّ سألت غلوريا:
“كنت تئنّ طوال الليل، هل رأيت كابوسًا؟”
“…..”
اكتفى أستان بالنظر إليها بصمت.
كانت أكثر نحولًا مِما كانت عليه آخر مرّةٍ رآها.
ظلّ تحت عينيها داكن، وشفتيها المتشقّقتين بدت وكأنَّ بها آثار عضّ.
بينما فكّر أنّها تشبه آثار العضّ، فُتحت شفتاه ببطء.
في لحظةٍ، اجتاحت الذكرياتُ عقله كفيضان.
وقع خطواتها وهي تدخل الغرفة، صوتها المرتجف تناديه، ونعومة ملمسها حين اقتربت منه…
أيُّها المجنون… كيف تفعل هذا حتى لو لم تكن في وعيك؟!
راوده شعورٌ برغبةٍ في دفن رأسه داخل المدفأة.
أغمض عينيه بإحكام.
“دوق؟ هل تتألّم؟ هل أذهب لأُحضر الخادم؟”
وصلت إلى أذنه نبرةٌ قلقة، وكأنّها تسعف شخصًا يحتضر.
رغم أنّه كان يعلم تمامًا كم يبدو تعبير وجهه بشعًا الآن، اضطر إلى رفع رأسه.
انعكست صورته داخل عينيها الممتلئتين قلقًا.
مرّر يده على وجهه بقسوة، راغبًا في نسيان كلّ شيء.
لكنّه ما لبث أن أنزل وجهه من جديد وأطلق تنهيدةً حارّة.
“هل تتذكّر… ما حصل البارحة؟”
“تقريبًا.”
لم يقدر أن ينظر في عينيها.
ابتلع الكلمات العالقة في حلقه.
“ما إن رأيتَ وجهي حتى فقدتَ وعيك، فقام لوغان بحملك إلى الغرفة.”
“…..”
“قال الخادم إنَّ جراحك تشفى بسرعة بسبب… حالتك.
لكن هناك جراحًا كانت أعمق من ذلك.”
“…..”
“لحسن الحظ، لم تلتهب. قمتُ بتعقيمها ولفّها بضمادات، لكن لو شعرتَ بألم كبير…”
“أنتِ… ألا تخافين؟”
“مِمّا؟”
“لقد رأيتِ… كلّ شيء.”
رأيتِ هيئة الوحش.
قالها بنبرةٍ لاذعة وخفض نظره.
رأى يدها تمسك بطرف الغطاء، ترتجف بلا قوّة.
لكنّه لم يكن جديدًا عليه.
لقد اعتاد أن يُهان ويُزدرى.
سواء والده الذي كرهه حتّى الموت، أو المربّية التي ربّته بدلًا عن والدته، الجميع فعل الشيء نفسه.
لم يخافوه حين يتحوّل، لكنّهم تجاهلوه كأنّه غير موجود.
لكن هذه المرأة…
“لم أخف، فقط تألّمتُ قليلًا. لقد عضضتني، دوق.”
أجابت وهي تلمس شفتيها التي عليها آثار أسنانه.
“وكيف عرفتِ أنّني أنا؟”
“من ملابسك. ورأيتُكِ أيضًا حين حملك لوغان.”
أجابته بكلّ هدوء.
مالت برأسها قليلًا وكأنّها تقول: “هل لديكَ أسئلةٌ أخرى؟”
“لا داعي لأن أقول أكثر من هذا.”
“أن تقول ماذا؟”
“…..”
أن يقول لها من يكون…
وما هو السّرّ الذي أخفاه دومًا…
لكنه لم يستطع.
لم ينسَ ولو للحظة أنّه… وحش.
في كلّ مرّةٍ يرى ذاك السّوار الذي يُقيّده، يتذكّر لعنته.
يتذكّر أنّه أستان فون شولتسمير، القاتل الذي أودى بحياة أبيه وأمّه.
ولمّا طال صمته، قالت غلوريا.
“سمعت من لوغان… عن تلك اللّعنة.”
“إذا سمعتِ، فأنتِ تعرفين كلّ شيء.”
“لكن أُريد أن أسمعها منك، دوق.”
“…..”
“أرجوك، أخبرني.”
نظرت إليه بثباتٍ وعينين لا تهربان.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 12"