سأل أحد مرؤوسي فيليكس، بعدما أخطأ في ضبط قوته فحوّل ساحة التدريب إلى ما يشبه كتلة جليدية، فأغمض عينيه مستسلماً. وما إن فعل، حتى ارتسمت على جفنيه المغلقين ابتسامة فتاة شابة، فهزّ رأسه على عجل في محاولة لتبديدها، غير أن تلك الابتسامة لم تختفِ، بل ازدادت وضوحاً، مما جعله يُخطئ في حركته التالية.
“ألم نقل لك أن حالتك ليست طبيعية!؟”
“إن يخطئ القائد في استخدام سحره، فتلك حالة استثنائية!”
“بل أقول إنها غير ممكنة أصلاً، ولم يسبق أن رأينا مثلها!”
وما إن نطق أحدهم، حتى انطلقت أصوات باقي الجنود تباعاً، وكان ذلك أثناء تدريب الفرقة الرابعة من السَّرية الأولى التابعة للحرس الملكي، داخل ساحة التدريب المخصصة لسحرة الفِرَق، والمُحاطة بجدرانٍ واقية عالية.
كل فرقة داخل الحرس لها اختصاصها، فمثلاً الفرقة الأولى متخصصة في الطقوس والمراسم، بينما الفرقة الرابعة تضم فرساناً يجيدون استخدام السحر، وهي تجري تدريبات دورية مرتين في الأسبوع. وكان فيليكس، رغم كونه يبلغ من العمر واحداً وعشرين عاماً فقط، أصغر نسبياً في الفِرَق، يتولى قيادة الفرقة الرابعة، كونه من أرفع النُسَب داخل الفرقة.
ولحُسن الحظ، فإن قوته السحرية، بل حتى ضمن كامل السرية، تُعد من بين الأقوى، كما أنه يتمتع بدقة عالية في استخدام التعاويذ، ويُجيد حتى أكثرها تعقيداً، مما جعله يحظى باحترام مرؤوسيه. فالسحرة بطبعهم لا يقيّمون الأمور بناءً على النسب أو السن أو الطبقة الاجتماعية، بل على القوة الفعلية. لذا، رغم أن معظم مرؤوسيه يكبرونه سناً، فإنهم يعترفون بكفاءته، بل ويجدون متعة في مشاهدة براعته السحرية أثناء التدريبات القاسية.
لكن في الأيام الأخيرة، لاحظ الجميع أن شيئاً ما تغيّر في هذا القائد، الهادئ، الجاد، والبارد.
بدأ الأمر بصوت ارتطام خافت. حين جلس فيليكس على مكتبه في غرفة قيادة السرية، تَعثّر واصطدمت رُكبته بطاولة العمل. وكان تصرفاً نادراً جداً من شخص معروف بهدوئه الشديد.
ولو كان هذا الحادث الوحيد، لكانوا قالوا: “حتى القائد كلافيس قد يتعثّر أحياناً”، لكن في اليوم نفسه، رآه الجنود يصطدم بجبهته في الحائط أثناء توجهه إلى قاعة الطعام، بعدما فشل في ملاحظة عتبة الدرج. بل استمر يرتطم بالحائط مراراً وكأنه أصيب بنوبة جنون.
حينها، حَكم عليه زملاؤه بأنه مرهق، وأجبروه على الذهاب لغرفة الراحة قبل موعد انتهاء الدوام.
لكن حتى بعد الراحة، لم يتغيّر شيء. بل أصبح أسوأ.
ظل يتعثر، ووقع في أوراقه، وحاول قراءة كتاب استراتيجي وهو مقلوب. تنهد آلاف المرات، وأخذ يحكّ شعره الفضي بعنف، ويقرص خدّيه، ويعقد حاجبيه. بل خسر مبارزة في السيف ضد أحد مرؤوسيه.
ورغم فحصه في العيادة، لم يُشخّص بشيء، بل قيل إن صحته ممتازة.
“……لا بأس. قال الطبيب إنه لا شيء يدعو للقلق.”
“لكنكم أخطأتم اليوم في إطلاق تعويذة الثلج! هذا لا يمكن أن يكون طبيعيًّا! أنتم من عادة تنفذونها وكأنكم تتنفسون!”
“بالضبط! حتى عندما كنتم مصابين أو محمومين، كنتم تستخدمون السحر بدقة! فما الذي تغيّر؟”
“أشعر بأنكم غير قادرين على التركيز تماماً… أمتأكدون من أنكم بخير؟”
انهالت عليه التساؤلات من كل حدبٍ وصوب، بعدما فجّر تعويذته وتحول المكان إلى قارة جليدية صغيرة.
فيليكس، الذي اعتاد الجميع أن يحيطوه من بعيد بسبب صمته وهدوئه المهيب، أصبح الآن مثار قلق شديد حتى لمرؤوسيه الذين بالكاد كانوا يجرؤون على التحدث إليه.
ومع ذلك، لم ينتبه فيليكس إلى ترددهم ولا قلقهم، بل أجاب بوجهه الخالي من التعابير:
“لا مشكلة. أنا أعلم السبب.”
“السبب!؟ إذاً أنت فعلاً مريض!؟”
“لا، ليس السبب صحتي.”
“إذاً ما هو!؟”
حاولوا استنطاقه، لكن كلمات الطمأنة التي كررها بدت بلا أي قوة إقناع.
كان الفرسان الشباب، بأجسادهم النحيلة وأزياءهم الأنيقة وعلامات السحر الفضية المطرزة، يحاصرون القائد الوسيم ذي الشعر الفضي، وكلٌّ منهم يحمل سيفه بدل العصى السحرية. وكان المشهد يُشبه طقساً غامضاً من عصور الظلام. أما الخادمات اللواتي كن يمررن بالممر المطلّ على ساحة التدريب، فأطلقن هتافات غريبة عند رؤية هذا المنظر.
لكن، وكما العادة، لم يرَ فيليكس أي شيء من حوله. لم يشعر بأي توتر في الأجواء، بل تاه بنظراته الزرقاء الجليدية في الفضاء، وهمس بخفوت:
“……ابتسامتها…”
“هاه؟”
“كانت كالزَّهرة…”
“……نعم؟”
“باهرةٌ جدًّا…”
“ممم؟”
تفاجأ الجميع من هذه الكلمات الغامضة، وحدّقوا به في حيرة.
وفي اللحظة التالية، رأوا بأعينهم:
“لا تزال محفورة في ناظري…”
خدّا فيليكس، رغم ثبات ملامحه، تلوّنا بخفةٍ باللون الوردي.
وفي وجهه المصنوع من الفضة والثلج، أضفى ذاك الاحمرار لمسة غامضة من جمالٍ خارق، أشبه بجمال سلالات السحر القديمة. ومع أنه لم يكن يدرك ذلك، إلا أن تلك المشاعر التي لم يعتد على إظهارها، جعلت مظهره ساحراً بطريقة خطيرة.
لدرجة أن أحد الجنود، رغم علمه أن قائده رجل، ابتلع ريقه بصوتٍ مسموع.
“أ-أه، قائد الفرقة، ذاكَ…”
“سخافة. من النوع الذي لا يشفيه لا طبيب ولا حمامٌ حار، أليس كذلك؟ وإنْ لم يكُن كذلك، فربما تلك الفتاة قد ألقت عليه لعنة؟”
يبدو أن الوضع قد يُصبِح غير مُناسب إن استمر على هذا الحال. من حيث الشرف العِرضي لقائد الفرقة، على وجه التحديد.
الصوت الذي طغى على صوت نائب القائد، المعروف بأنه من القلة المتزنة في الفرقة، كان صوت شخص لا ينبغي أن يكون في هذا المكان.
التفت جميع أعضاء الفرقة دفعة واحدة.
بعضهم اتسعت عيناه، وبعضهم تلوّى وجهه، والبعض الآخر أُفرِغت ملامحه كليًّا.
شَعرٌ مجعد فاخر بلون الذهب، وعينان زرقاوان صافيتان بلون سماء الصيف، وملامح جميلة تُشبه الدمى وتفوح منها الكبرياء، ثم زيُّ الفرسان الأبيض وعباءةٌ حمراء لا يُسمَح بارتدائهما إلا لأفراد الفرقة الأولى.
إنه يُول إيل ريه=لووميس.
“ماذا!؟ هذا يعني أنها مرضٌ لا شفاء منه!!”
“مرض؟! إذًا هل هو مريض بالفعل؟!”
“أيها الوغد! أأنت تقول إن مرض القائد لن يُشفى؟!”
“لا تمُت يا قائد الفرقة!! ماذا سيحدث للفرقة الرابعة إن متَّ؟! ألن تُلغى ميزانية السحر؟! ألن تُنقَل كل الأموال إلى ‘البرج’؟!”
“قائد الفرقة، أرجوك دوِّن تقنيات تشكيل الدوائر باستخدام كتل الجليد في كتاب قبل أن تموت! سيكون من المؤسف أن تضيع تلك التقنية! وإن أمكن، أرجوك ضُمَّ أيضاً طريقة تشكيل السيوف من الجليد وتقنية القتال بها التي رأيتها منك مؤخرًا!”
الصمتُ الذي هبط للحظةٍ، تلاشى في اللحظة التالية تحت وابلٍ من الأسئلة والاحتجاجات.
يول، الذي لم يقصد إلا إدلاء تعليق عابر، ارتدَّ مذعورًا خطوة إلى الخلف، وقد شحب وجهه قليلاً واصطدمت مؤخرة ركبته بكتلة جليدية غامضة.
“م-ما هذا؟! لم أقصد ذلك بهذا المعنى! م-ما بال الفرقة الرابعة؟! هل أنتم جميعًا حمقى معدومي الحس؟! أم أنكم رغم المظهر تفتقرون للذكاء؟! لا عجب، أنتم فرقة السحرة المنعزلين!”
“لسنا منعزلين على الإطلاق! نحن منشغلون في تطوير سحر الحماية! وبالمناسبة، ما الذي جاء بك إلى هنا يا لووميس؟! صحيحٌ أنك لم تفُز قط أمام قائد الفرقة، لكن إن كنت تنوي المبارزة معه الآن فلن أسمح لك!”
“صحيح! سأكون أنا خصمك بدلاً عنه!”
“لا، أنا من سيقاتلك!”
“بل أنا!”
“م-مستحيل! لستُ فاضيًا إلى هذا الحد! إن لم يكن لدي سبب فلن آتي إلى الفرقة الرابعة! …أوه، كلافيس، نائب القائد يريدك! عُد إلى مكتب القيادة!”
“حاضر.”
أعاد فيليكس سيفه إلى غمده بطنينٍ معدني، ثم التفت أخيرًا ليُجيب بإيجازه المعتاد:
“ومع ذلك… أن يفقد كل هذا الاتزان بسبب مشاعر حب، ما هذا؟ لا عجب، فمن لا يعرف رقيّ الغرام يتصرف هكذا كقروي.”
“حب؟! قائد الفرقة؟!”
“مستحيل، هل يُعقَل حدوث معجزة كهذه؟!”
“ألَمْ تدركوا أن هذا هو المقصود فعلاً؟!”
عندما نادى لووميس على ظهر فيليكس وهو يبتعد، تجمدت حركة الرجال من شدة الذهول، وصوتُ ارتطام السيوف وهي تسقط من أيديهم دوّى في المكان.
في تصرفٍ لا يليق بفارسٍ على الإطلاق، سقطت السيوف من أيديهم.
“ل-لا، هذه مزحة… صحيح؟”
“ب-بالضبط… قائد الفرقة لم ينتبه حتى لمحاولات التقرب من تلك الآنسة ابنة الماركيز…”
“ولا أبدى أي ردة فعل تجاه الأرملة الجميلة من بيت الكونت عندما أغرَتْه…”
“صحيح أني سمعت أنه خُطِب مؤخرًا، لكن…”
“كانت خطيبته ابنة أحد البارونات في الأطراف، أليس كذلك؟ لم أسمع عنها في أي حفلة من حفلات السهرة…”
“هاه، فتاة قروية تليق بقروي مثله.”
“أيها الوغد!”
نفخ لووميس في أنفه بازدراء، لكن صوتًا باردًا بلون الجليد نزل عليهم كما لو أنه يُهدِّئ التوتر بين رجاله.
“تقول هذا، لكن كلافيس مكانٌ رائع. الطعام لذيذ، وفرقة الفرسان هناك قوية. لو ذهبت وتدربت عندهم لأصبحتَ أقوى. ورغم أن الطريق إلى العاصمة الملكية طويل، إلا أنه ليس ريفًا تمامًا كما تتصور. إنها أكبر مدن الشمال، ولا يُستهان بها. ثم إن تلك الفتاة ليست ممن تليق بهم اللعنات. طاقتها السحرية نقية وناعمة، وقوّتها مريحة. …لكن، هكذا إذًا. كنتُ أشكُّ في الأمر، لكن يبدو أن هذا هو الحب فعلاً. جميلٌ أن يُقال إننا نليق ببعضنا.”
“ماذا…؟”
وجهٌ لا يكاد يُظهر أي تعبيرٍ على الإطلاق، كان دائمًا ما يُحافظ على صرامته، لكنه الآن احمرَّ خده قليلاً في النهاية.
اتسعت عينا لووميس من الصدمة، وبدأ الرجال يتهامسون.
“قائد الفرقة يُجري حديثًا عابرًا؟!”
“تغيّر لون وجهه؟!”
“وهو الذي لا يصير أزرق ولا أحمر أبدًا؟!”
“هل تحدث لجملة طويلة لدرجة احتاج معها للتنفس؟!”
خلف ملامحه الجميلة التي بدت مذهولة وفاغرة الفم، تجمد الرجال وسط كتل الجليد من شدة الذهول.
قلة كلام فيليكس ليست مجرد عادة، بل واقع. لا يتحدث إلا عند الضرورة، لا مع النساء ولا غيرهن.
فأن يتحدث بهذه الكثرة؟! أمرٌ لم يسبق له مثيل!
“أعتذر، سأغيب قليلاً. الجليد سيذوب قريبًا في مثل هذا الطقس، فاتركوه. والآن، عودوا جميعًا إلى تدريباتكم!”
“…حاضر!”
أن يعودوا إلى وعيهم عند صدور أمر، أصبح من عاداتهم.
وبتحية فرسان السحر، استجاب الرجال لتعليمات فيليكس، وعادوا إلى شكلهم التدريبي المعتاد وكأن لووميس لم يكُن موجودًا أصلًا.
تجهمت ملامح لووميس في ضيقٍ وقد عومِل كأنه هواء، ثم انطلق يُلاحق ظهر فيليكس.
“أيها الكلافيس، إلى أين تذهب؟!”
“أنتَ من قال إن نائب القائد يناديني. وهذا مناسب… فحين يتعلق الأمر بشؤون الحب، نائب القائد هو المرجع، أو هكذا قال سموّ الأمير مؤخرًا. سأذهب لاستشارته!”
“ماذا؟ لا تقل لي أنك جاد؟ تلك الفتاة العادية؟!”
عندها، التفت فيليكس وقال بصرامة:
“لا حاجة لي بالمزيد من الجميلات.”
ثم استدار سريعًا وركض مبتعدًا بشعره الفضي يتراقص.
بينما بقي لووميس مذهولًا، وتلوّى وجهه في صدمة.
“…وارث عائلة كلافيس، أجمل العائلات، يقع في حب تلك الفتاة القروية؟ تلك الفتاة إلى جانب ذلك الرجل؟ لن أقبل بهذا، لا يمكنني القبول بذلك أبداً!”
※ملاحظة: هذه القصّة من نوع الكوميديا الرومانسية (ربّما)
أحيانًا، القليل من الأجواء الرجولية الخشنة لا بأس بها.
مرّة أخرى، هذه أيضًا قصيرة.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 18"