3
الفصل الثالث
سحبتُ ورقةً من درج مكتبي، وشرعتُ أكتب رسالةً قصيرة بخطٍّ سريعٍ حازم.
“احتفظي بأيّ هدايا أو رسائل تهنئةٍ تصل، وتأكّدي من أن والدي يتسلّم هذه الرسالة شخصيًّا.”
وقفت ويندي في مكانيها محدّقةً بي بعينين شاردتين، كأنّ سيل أوامري قد عطّل عقلها.
“ما الذي تنتظرينه؟ أسرعي.”
“آ-آه، نعم، سيدتي!”
“وحين تعودين، ساعديني في الاستعداد. سأخرج لبعض الوقت.”
“تخرجين؟! ولكن… ألن تحضري الحفل الإمبراطوريّ الليلة؟ ألا يجدر بنا البدء بحمام ماء الورد؟”
“لا حاجة إلى ذلك. جمالي كافٍ دون زينةٍ أو عطر. أحضري لي فستانًا… بسيطًا، مغايرًا لما أرتديه عادةً.”
رفعتُ بصري نحو الأفق البعيد، نحو ذلك المعبد العظيم ذي القبة البيضاء الشاهقة.
“أحضري لي ما يجعلني أبدو… تقيّة.”
لياندروس أغهانيلوغ.
لِلحديث عن صلتي به، لا بدّ من العودة إلى أيام الأكاديمية.
كان لطيفًا كريم الخلق، أمّا أنا، فكنتُ “الشريرة” التي تتصادم معه في كلّ مناسبةٍ حتى غدا الناسُ يلقّبوننا بالخصمين.
وبعد شجارٍ عاصفٍ ذات يوم، انقطعت بيننا كلّ الصلات.
توارى لياندروس عن الأنظار بعد تخرّجه، متخلّيًا عن حقّه في ولاية العهد،
بينما أبعدتُ نفسي عن المعبد وأهلِه، أو هكذا ظنّ الجميع.
كانت أسرتي، آل أفروديت، الدعامةَ الأبرز في جناح النبلاء،
يُجاهرون بولائهم للأمير الأوّل، أَناتِن أغهانيلوغ،
ولذلك كانوا يرون في لياندروس شوكةً في خاصرتهم.
ورغم تنازله عن العرش، بقي الأمير الثاني محبوبًا بين الشعب،
رمزًا للمثال والفضيلة، وزاد مجده عظمةً حين تلقّى “التكليف الإلهيّ”.
بالنسبة لعائلتي، كان الطريق واضحًا:
أن يتوّج أَناتِن إمبراطورًا، وأن أتربّع أنا إلى جانبه إمبراطورةً.
وهذا لا يعني سوى أمرٍ واحد:
“أن يُمحى لياندروس من الوجود.”
وأنا… أردتُ ذلك أيضًا.
لكن مهما تكرّرت محاولات الاغتيال، كان ينجو بأعجوبة،
كأنّ الآلهة تبسط عليه حبّها وتحميه من الموت مرةً بعد أخرى.
غير أنّني، بالنظر إلى دورات الموت والعودة المتكرّرة،
أيقنتُ أنّه لا بدّ قد مات في النهاية.
“لو علمتُ يومًا أنّ موته هو مفتاح لعنَتي… لأوقفتُه منذ زمنٍ بعيد.”
في كلّ دورةٍ من حياتي كنتُ أكافح للبقاء.
ابتعدتُ عن المعبد، تجنّبتُ أيّ أثرٍ مقدّس، بل سعيتُ أحيانًا لإفشال القدّيسة في العثور عليه.
وفي دوراتٍ أخرى، بحثتُ عنه بنفسي، طمعًا في تدميره قبل أن يُهلكني القدَر.
لكنّ الأثر لم يقع في يدي قط.
وفي النهاية، فشلتُ في الهرب من الموت.
بل ومتُّ على يد عائلتي نفسها.
ظننتُ كلّ ذلك عبثًا بلا معنى… لكن لعلّ السبب الحقيقيّ لم يكن الأثر أصلًا.
كنتُ أكره الغموض.
فإن كان الطريق الذي سلكتُه خطأً، فعليّ إذًا أن أجد الصواب.
والجوابُ… لا بدّ أن يكون في المعبد.
توقّفت العربة أمام بوّابة ذلك المكان المقدّس.
وحين نزلتُ، رأيتُ ما تجنّبتُ رؤيته طويلًا.
أعمدةٌ من رخامٍ أبيض تتخلّلها تماثيلُ ملائكةٍ مهيبةٍ منحوّتةٍ ببراعة.
الأرضية المصقولة تعكس صورتي بصفاءٍ لامع،
ومن تحت القبة الفخمة عند المدخل تسرّبت رائحةُ الأزهار المنبعثة من الحدائق الداخليّة.
تدفّق ضوء الشمعدانات الذهبيّ الرقيق، فبدا المكانُ دافئًا مقدّسًا،
كما لو أنّ المرء خطا حقًّا في أحضان الإله.
“أما أنا… فلا أرى فيه إلا بناءً عتيقًا يوشك أن ينهار.”
لا بدّ أنّني أطلتُ التحديق، إذ التمعت ابتسامةٌ على وجه ويندي بجانبي.
“لابدّ أنكِ متأثّرة يا سيدتي. مضى زمنٌ طويل منذ زيارتك الأخيرة.”
نعم… لم تطأ قدماي المعبد منذ محاكمتي بتهمة السحر.
وحتى حينها، لم أرَ سوى زنزانةٍ باردةٍ وقاعةِ قضاءٍ لا ترحم.
تلبّد مزاجي بالمرارة.
“وما الذي جاء بكِ إلى هنا اليوم يا سيدتي؟” سألت ويندي بحذرٍ وهي تدرك كرهي لهذا المكان.
“جئتُ لأقابل الإله.”
“م-ماذا؟ هذا… لا يمكن، لا أحد يلتقي به كيفما شاء!”
“إن كان له ضميرٌ حيّ، فسيراني.”
“عذرًا؟!”
لم أبالِ بدهشتها.
“اليوم يومُ مولدي، أليس اليوم أنسب وقتٍ للمعجزات؟”
وقبل أن تهمّ بالاعتراض، قطعتُ كلامها.
“سأصلّي فحسب. تولّي أنتِ أمر التبرّع.”
“ستصلّين… حقًا، سيدتي؟”
كان في دهشتها ما أرهقني، فلم أجب، وسرتُ وحدي نحو قاعة الصلاة.
ولها العذر في استغرابها، فلم يسبق أن دخلتُ هذا المكان بإرادتي.
ولِمَ أفعل؟
لقد كنتُ أكره المعبد كراهيةً صادقة.
في هذه الإمبراطورية، يولد كلّ نبيلٍ وفيه بصيصٌ من “القوّة المقدّسة”.
إلا أنا.
ابنةُ دوقٍ عظيمٍ وسليلةُ أسرةٍ نبيلة، وُلدتُ خاليةً من تلك الهبة.
ولذا لاحقتني الهمسات في كلّ مكان:
“إنها ملعونة.”
“هل هي حقًّا ابنةُ الدوق؟”
“ربما… ابنةُ حرام؟”
كلّ ذلك لأنني بلا قوّةٍ مقدّسة.
أقنعتُ نفسي بأنني لا أبالي.
فما حاجتي إلى تلك القوّة وأنا لا أنوي خدمة المعبد أصلًا؟
وعائلتي لم تعترض، بل شجّعت نفوري، إذ كان جناح النبلاء يزداد نفوذًا كلّما نأى عن المعبد.
“ومع ذلك… أرسلوا قاتلين لاغتيالي، وغرزوا الخناجر في ظلي. لِمَ؟”
ارتجّ رأسي بثقل الخيانة، لكنّني طردتُ الفكرة.
هناك ما هو أهمّ الآن.
دخلتُ قاعة الصلاة.
مكانٌ عامٌّ يعجّ بالمؤمنين: رجالٍ ونساء، شيوخٍ وأطفال،
جميعهم جاثون في صمتٍ خاشع.
جلستُ في المقعد الأخير.
نعم، كنتُ قد أعلنتُ بجرأة أنني سأقابل الإله،
لكن ويندي كانت محقّة: الإله لا يتدخّل في شؤون البشر. كان ذلك ضربًا من المستحيل.
ومع ذلك، لم أكن خاليةً من الأمل.
“إن صلّيتِ بإخلاص، فسيُجيبكِ الله. يومًا ما، يا غريس، سيُجيبكِ.”
كانت القدّيسة قد همست لي بذلك يومًا.
ولستُ قدّيسة، ولا أملك إيمانها… ولكن—
‘إن كنتَ تسمعني… فقل لي: كيف أكسر هذه اللعنة؟
هل حقًّا إنقاذ لياندروس هو السبيل؟’
تملّكني يقينٌ متهوّر.
‘إن لم تجبني… فسأعيش كما أشاء.
سواء عاش لياندروس أو مات، لن يهمّني.
سأترك نفسي أغرق في الجنون، أكرّر هذه الميتات للأبد.
إن كان هذا ما تريد، فواصل صمتك.’
لأنّني إن استسلمت الآن، سأفقد عقلي حقًّا.
وفجأة—
[يا لوقاحتكِ، أيتها الطفلة.]
غمرني ضوءٌ أبيض ساطع، واختفى كلّ شيءٍ حولي كأنّ العالم تلاشى.
وفي ذلك الفراغ الصامت، دوّى صوتٌ عظيم في أعماقي.
‘إذن… حتى التهديدات تُحرّكك. هذا يعني أنك تريد بقاء لياندروس حيًّا؟’
[تمسكين بأثرٍ في صدركِ، ثمّ تتحدّثين بهذه الجرأة… لا أحد سواكِ يجترئ على ذلك.]
تجاهلتُ نبرته المتعالية، وتمسّكتُ بما خفيَ بين كلماته.
‘أثرٌ… في صدري؟ أتقصد أن الأثر كان بداخلي طوال الوقت؟’
ثمّ اتّضح كلّ شيءٍ في لحظةٍ خاطفة.
‘لهذا لم أجد الأثر في أيّ دورةٍ لاحقة… لأنّني حصلتُ عليه في موتي الأول،
ومنذ ذلك الحين، ظلّ يسكنني!’
اهتزّ كياني كمن صُعق بالبرق.
لكنّ الصوت الإلهيّ لم يُمهلني.
[نظيرَ إصراركِ، أمنحكِ ثلاثَ أسئلة.]
رأفةٌ إلهيّة أخيرًا. لم أتردّد لحظة.
“كيف أنهي دورةَ الموت والعودة هذه؟”
[أنقذي لياندروس أغهانيلوغ.]
أطلقْتُ زفرةً هادئة، وفيها خليطٌ من السخرية والارتياح.
“ولِمَ ذلك؟”
[لأنّ حياتكِ مرتبطةٌ بحياته من خلال الأثر الذي يسكنكِ.
كلّ إجابةٍ تبحثين عنها تعود إلى تلك الرابطة.]
“…بالطبع.”
مرّرتُ يدي في شعري بعصبيّة، وشفتاي تنكمشان بابتسامةٍ مريرة.
‘هكذا إذًا… أُبعثُ مرارًا بسببه.
ذلك الأثر في داخلي يُبقيني معلّقةً بالحياة،
وأنا، أكثر الناس كفرًا، صرتُ المختارة لأداء هذه المهمّة. يا للسخرية.’
أثارتني المفارقة حدَّ الغثيان، ومع ذلك لم أستطع إنكارها.
كنتُ الوحيدة القادرة على ذلك.
[والآن… سؤالكِ الأخير؟]
التعليقات لهذا الفصل " 3"