بعد أن هربت من سؤال إيليان الثقيل، تاهت آرا قليلًا وسط الأروقة المضاءة.
ضحكات الحضور تتناثر كشرارات، والأنوار تلمع، لكن عقلها كان يبحث عن هدوء… أو ربما، عن شخص.
وبينما كانت تخطو على سجاد الرواق الأزرق، لمحت من بعيد ظلًا مألوفًا، جالسًا في الشرفة المطلة على حدائق القصر.
كان كايرون، يجلس هناك، مائلًا برأسه إلى الخلف، ذراعه تستند على حافة الرخام، ونظراته غائبة… كأنّه يُراجع فصولًا من كتاب لم يُنهِه بعد.
ملامحه كانت مشدودة، جبينه متوتّر، وعيناه موجهتان إلى نقطة ما في الظلام… لكنها ليست ما يراها.
كأنّه يحمل مصيبة صغيرة لا يشاركها أحدًا.
ترددت سيلينارا لحظة، ثم تقدّمت بخطى خفيفة.
حين لمحها، ارتجف ظل الحزن في عينيه، وتحوّل تدريجيًا إلى نورٍ دافئ، وارتخت عضلات وجهه كأن حضورها وحده… علاج.
– “كنت تائهًا هناك.”
قالتها بخفة، وهي تميل عليه من الجانب.
نظر إليها، وعيناه لمعتا بنوع خاص من الحنين والارتياح.
– “أوه… لقد أنقذتني من نفسي، يبدو.”
ردّ بابتسامة مائلة، هادئة، لكنها صادقة.
جلست إلى جواره، ووضعت يديها على السور الرخامي، وعيناها تنظران إلى الحدائق المظلمة.
– “كيف كان العرض؟”
سألت وهي ترفع حاجبها بلطافة.
– “مذهل.”
قالها دون تفكير.
ثم أضاف بهمس:
– “وأنتِ… كنتِ أشبه بنغمة لا تُعزف إلا مرة واحدة.”
احمرّ وجهها قليلًا، لكنها تمالكت ردّها.
– “أما عن الرقصة الثنائية… فإيان أجاد كثيرًا.”
قالها وهو ينظر إليها جانبًا.
ضحكت برقة:
– “إيان هو صديق طفولتي، كاير. بل أكثر… إنه أخي الثاني بعد إيليان.”
توقف.
– “أخيكِ؟”
قالها بدهشة خافتة، كأن شيئًا داخله انزاح عن قلبه.
– “هو أول من دعمني عندما أخبرت الجميع أنني سأرقص. وقف أمام عائلتي، واجه العالم، وهو أول من عزف لي لحنًا لأرقص عليه.”
صمت للحظة، ثم ابتسم، وهمس لنفسه:
– “ربما لهذا… شعرت فجأة بالراحة.”
– “الراحة؟”
– “لأنني لا أعلم ما هذه المشاعر تمامًا… لكنها لم تحترق بقدر ما توقعتها حين علمتِ أنه ليس…”
توقف. ثم ابتسم بخجل.
– “تعلمين.”
نظرت إليه، ونظراتها عميقة، لكن دون استفهام.
– “كايرون؟”
– “هممم؟”
– “سأغادر بعد أسبوع.”
تجمّدت ملامحه.
كأن صاعقة صامتة مرّت من خلال جلده إلى قلبه.
– “إلى… نوفاريس؟”
سأل بصوت مبحوح.
– “نعم. لدينا عرض خاص هناك. نحن فرقة رحّالة… نتنقّل بين الممالك والقارات.”
قالتها، وكأنها تذكره بحقيقة نسيها.
هو بالفعل… نسي.
نسي أنها ليست من هذا المكان. نسي أنها تشبه الريح.
لكن الريح التي استقرّت في روحه، باتت تلوّح له بالرحيل.
قبل أن يغوص في صمته مجددًا، قطعت آرا تفكيره، وهمست بنغمة مغايرة:
– “لكننا… سنعود.”
نظر إليها، وكأن قلبه قفز خطوة للأمام.
– “الإمبراطورة دعتنا لحضور عيد ميلاد الأمير كيرليون الشهر المقبل.”
قالت بابتسامة ناعمة.
– “قالت لي إنها لا تحتمل فكرة أن نغادر دون أن نعود. وقالت إن العرض الذي قدّمناه الليلة لا يمكن أن يكون الأخير.”
ارتعش شيء في عينيه.
وسرعان ما حاول أن يُخفي ابتسامته… لكن خجله فضحه.
– “أوه، لا داعي أن تبدو سعيدًا جدًا، الأرشدوق.”
قالتها مازحة، وقد لمحت الارتباك الخفيف في عينيه.
– “أنا… فقط أقدّر الفن.”
قال وهو يشيح بعينيه جانبًا.
ضحكت بخفة.
ظلّا صامتين لحظة.
ثم قال بصوت منخفض:
– “لا أعلم من تكونين بالنسبة لي، آرا…
لكنني متأكد أن حضورك…
يترك فجوة حين يغيب.”
أرادت أن ترد، أن تمزح، أن تغير الموضوع.
لكنها فقط نظرت إلى النجوم، وقالت بهدوء:
– “وأنا… لا أعلم ما الذي يعنيه اسمي على لسانك… لكنه يجعلني أبقى للحظة أطول.”
وفي الزاوية الخلفية للشرفة، خلف الستارة النصف مفتوحة…
كان إيان يرا
قب كل شيء.
ذراعاه مشدودتان، ووجهه مظلم، وعيناه تتوهّج بالغيرة.
وفي داخله… نار تحترق على صمتٍ لا يستطيع أن يصرخ به بعد.
التعليقات