2
02. قصر عائلة وِلتِييرا (1)
استفاقت بيرينيس من إغمائها في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، على سريرها الخاص.
كانت ترتدي منامةً ناعمةً بدل ثوب الحِداد الأسود، وحين أجبرت جسدها المتثاقل على النهوض وأسندت ظهرها إلى مقدّمة السرير، أطلقت تنهيدةً طويلة.
كان جسدها يؤلمها وبصرها مُغبّشًا بعض الشيء، لكنّ حالتها لم تكن بالسوء الذي تخيّلته.
«في ذلك الوقت كنتُ غارقةً في النوم بلا وعيٍ كامل…»
قيل لها إنّها كانت تبكي وهي نائمة، تَهذي باسم بليدين وتهمس بكلماتٍ لا معنى لها.
ولكي تعتني بها، بقيت أمّها في العاصمة، فلم تستطع حضور مراسم جنازة بليدين الثانية.
«عليّ أن أُصحّح كلّ شيء.»
بينما كانت تُرتّب في ذهنها ما تركه الماضي من ندمٍ واحدًا تلو الآخر، فُتح باب غرفتها بهدوء، فالتفتت نحو مصدر الصوت.
“نيا، أأنتِ بخير؟”
كانت والدتها واقفةً هناك بوجهٍ يفيض قلقًا، ما زالت ترتدي ثوب الحِداد.
“أنا بخير.”
حاولت أن تبتسم، لكن ضعف جسدها حال دون أن تبدو ابتسامتها صادقة.
اقتربت ماركيزة وِلتِييرا، التي لم تستطع إخفاء قلقها، وجلست على حافة السرير، ثمّ لمست وجه بيرينيس الشاحب برفق.
“حرارتك لم تنخفض بعد، وهذا يقلقني.”
“سأكون بخير مع الصباح، لا تقلقي.”
“تحدّثتُ مع والدك. نيا، ما رأيكِ أن تبقي هنا معي؟”
“لا أريد.”
“بيرينيس.”
عند رفضها الحازم، نادت الأمّ ابنتها باسمها الكامل لا بلقبها، وقطّبت حاجبيها قليلًا، لا استياءً من الجواب، بل قلقًا على حالتها.
“لا أريد.”
نظرت إليها الأمّ طويلًا ثم أومأت بخفّة، إذ أدركت السبب وراء عناد ابنتها.
«الحمد لله.»
تنفّست بيرينيس الصعداء.
كانت مراسم الدفن في إمبراطورية إيغونيد تُقام على مرحلتين: الأولى في العاصمة، والثانية في المقاطعة.
تخلّى النبلاء المقيمون في الأقاليم البعيدة منذ زمنٍ عن هذا التقليد، لكنّ العائلات القديمة العريقة ما زالت تحافظ عليه.
في العاصمة يُقام وداع الأصدقاء والمعارف لثلاثة أيّام، وفي المقاطعة يُقام وداع العائلة ليومين.
قبل عودتها بالزمن، كانت بيرينيس قد حرمت والدتها من الوداع الأخير مع ابنها، بليدين.
وهي تعرف الآن كم ندمَت أمّها على ذلك، لذا لم ترغب أن تُكرّر الخطأ نفسه بعد أن مُنحت فرصةً جديدة.
“سأكون بخير في الصباح.”
“حسنًا.”
“وحتى إن لم أتحسّن، فما زال هناك وقت قبل أن نغادر إلى المقاطعة…”
“نيا، فهمتُ ما تريدين قوله، فلا داعي لتوضيحه أكثر. سأصطحبك معي، لا تقلقي.”
“…حقًّا؟”
“هل كذبتُ عليكِ يومًا؟”
لقد كذبت.
[سألحق بك قريبًا.]
كانت تلك الكذبة الوحيدة التي قالتها بابتسامة، لكنها كانت السبب في أن تفقد بيرينيس آخر من تبقّى لها من عائلتها.
غير أنّ ذلك لن يتكرّر بعد الآن.
“لا، لم تفعلي.”
لن يأتي اليوم الذي تضطرّ فيه أمّها للكذب عليها مجدّدًا.
ابتسمت بيرينيس بخفّة وهي تداعب خدّها على كفّ والدتها التي كانت تمسح وجهها بحنان.
بعد أن غادرت الأمّ، تمدّدت بيرينيس على السرير تُنظّم أفكارها، ثمّ اختارت وقتًا تيقّنت فيه أن جميع من في القصر قد غطّ في النوم، فتسلّلت من غرفتها بخفاء.
بفضل نومها الطويل لم تكن تشعر بالدوار كما في السابق، لكنّ شعرها الأبيض الذي برز وسط الظلام جعل خطواتها أكثر حذرًا.
«سعرٌ بسيط لقاء العودة بالزمن… لكنه لافت جدًا.»
دفعت شعرها إلى الخلف وتنهدت بخفوت.
لو كانت تعلم، لغطّت شعرها قبل الخروج…
لقد نسيت أنّ لون شعرها تغيّر، فارتكبت هذا الخطأ.
«هل قالت ماريين إنّ هناك صبغة جيّدة؟»
كانت كلمات ماريين حين رأت شعرها الأبيض.
«لا فائدة،» فكّرت بيرينيس.
فاللون لا يغيّر شيئًا، سوى أنّه يزعجها قليلًا في الظلام، وربما يجدر بها اعتباره علامةً تُذكّرها بعهدها.
وبين تلك الخواطر تحرّكت بخفّةٍ وصمت.
مقارنةً بأيّام هروبها لم يكن هذا تحدّيًا صعبًا، فالقصر بيتها، لا قصر أحد تجّار السوق السوداء المليء بالفخاخ.
ابتسمت ساخرًة وهي تتذكّر المكان الذي كادت تموت فيه أثناء البحث عن معلومة.
وأخيرًا وصلت إلى وجهتها: غرفة بليدين.
فتحت الباب بحذرٍ حتى لا يصدر صوتًا، وأغلقته بنفس الهدوء، ثمّ أسندت ظهرها إليه وزفرت بارتياح.
كانت تعلم أن العودة إلى غرفتها ستكون صعبة، لكنّها اعتبرت أنّ وصولها دون أن يراها أحد ضربٌ من الحظّ.
«سأتفقّد الغرفة بسرعة وأغادر.»
كانت الغرفة نظيفةً كأنّ أحدهم ما زال يعيش فيها، إذ وُضعت العناية بها بعنايةٍ فائقة، لا غبار فيها.
شعرت لوهلة أنّ بليدين سيظهر أمامها مبتسمًا ويناديها بلطف: “نيا.”
تذكّرت صوته الحنون وأخذت نفسًا عميقًا وهي تتأمّل الغرفة.
«لا أذكر جيدًا… لكنهم قالوا إنّ لصًّا اقتحم المكان.»
كان ذلك في حياتها السابقة، بينما كانت محمومةً على سريرها.
تذكّرت بضع كلماتٍ متقطّعة من حديثٍ دار بين أمّها والخبير المنزليّ إلى جوار سريرها — حديثٌ عن اسم بليدين، واللصّ، والشيء المفقود من غرفته، الذي لم يعرف أحد ما هو.
“ما الذي سُرق؟”
كان بليدين، بصفته فارس الحرس الإمبراطوري، يقيم غالبًا في القصر الإمبراطوري، حيث احتفظ هناك بمعظم متاعه.
إذًا، ما تبقّى في هذه الغرفة لم يكن سوى أشياءه القديمة التي استخدمها قبل انتقاله — أشياء تحمل ذكريات طفولته، ثمينة عاطفيًّا لا ماديًّا.
بالنسبة للنبلاء، لم تكن ذات قيمة، وإن كانت في نظر العامة كنوزًا تستحقّ السرقة.
«لكن لا شيء هنا يستحقّ المخاطرة بتسلّق جدران آل وِلتِييرا.»
ثمّ تذكّرت أنّ الخادم قال: “نعم، دخل لصّ، لكن لا نعلم ما الذي فُقد.”
وكان ذلك الخادم يعرف القصر أكثر من أيّ أحدٍ فيه.
«ربما لم يُسرق شيءٌ فعلًا… لكن لو كان كذلك لقال الخادمُ ذلك صراحةً.»
قبل عودتها بالزمن، أمضت بيرينيس حياتها كفارّةٍ هاربة، تتأمّل في كلّ ما حدث وتحاول فهم أين بدأ الخطأ.
وكان هذا اليوم تحديدًا أحدَ الأيام التي كانت تشعر أنّ شيئًا ما فيها انحرف عن مساره الصحيح.
تساءلت مرارًا: لو كنتُ حينها أوعى، هل كنتُ سأغيّر شيئًا؟
ولذلك، لم تستطع تجاهل هذه الفرصة كما فعلت من قبل.
بدأت تتحرّك ببطء من الباب نحو السرير، تُفحَص الغرفة بعينيها بدقّةٍ متناهية، وكأنّها تلمس الذكريات بأطراف أصابعها.
ذكرياتها التي عادت متقطّعةً كضوء الشموع ساعدتها على رؤية ما خفي عنها.
ومضى وقتٌ قبل أن تلاحظ شيئًا موضوعًا على السرير.
كان جسمًا طويلاً يختلف عن كلّ ما حوله.
“…سيف؟”
غمدٌ منقوشٌ بزخارف جميلة، دون جواهر، ومقبضٌ متين.
رغم أنّ نصل السيف لم يكن ظاهرًا، إلا أنّها استطاعت أن تتخيّل حدّته.
إنّه السيف الذي منحه وليّ العهد لبليدين بنفسه حين نال لقب الفارس.
ومنذ أصبح من حرّاس وليّ العهد لم يُفارق السيفُ جسده قطّ… فكيف انتهى به المطاف هنا؟
عندما أُعيد جثمان بليدين إلى المنزل، لم يكن يملك سوى ثيابه الممزّقة ومعطفه المهترئ.
وكان جسده مليئًا بالجروح الغائرة، كما روى الصيّاد الذي وجده، إذ قال إنّ رأسه كان مقطوعًا بالفعل حين عثر عليه.
ولأنّ الصيّاد كان قد نال فضلًا سابقًا من بليدين في العاصمة، خاطر بحياته ليعيد الجثمان وفاءً لذلك الدين.
حين سمعت بيرينيس ذلك انهارت باكية حتى أغمي عليها من شدّة الحزن.
والآن، وهي تمسك بالسيف بكلتا يديها، تذكّرت تلك اللحظة القاسية، وأغمضت عينيها بإحكام، وأطلقت زفيرًا طويلاً.
لكن الدموع لم تنهمر.
ليس لأنّها لم تكن حزينة، أو لأنّ الألم قد تلاشى، بل لأنّها أدركت أنّ البكاء لم يكن ما تحتاجه الآن.
بل التفكير.
«ذلك السيف الذي لم أجد له أثرًا رغم بحثي المستميت… لماذا هو هنا الآن؟»
تمتمت دون وعيها.
[لقد تعرّضنا للسرقة.]
[لكن لا نعلم ما الذي فُقد.]
رنّ صوت الخادم في ذهنها من جديد.
“لا يمكن… هل ما سُرق كان هذا السيف؟”
لكن لِمَ هذا السيف تحديدًا؟ بين كلّ تلك التحف الثمينة؟
هل يُخفي هذا السيف سرًّا ما؟
رفعت السيف أمام وجهها وتأمّلته مليًّا، لكنها تنهدت بعد لحظة.
كانت الغرفة مظلمةً أكثر من أن ترى تفاصيله بوضوح.
«سأفحصه جيدًا حين أعود.»
رتّبت أفكارها وهمّت بالعودة، لكن في تلك اللحظة بالذات—
انفتح باب الغرفة ببطءٍ حذِر، ووقف شخصٌ ما على العتبة، ينظر مباشرةً إلى بيرينيس.
Chapters
Comments
- 2 - قصر عائلة وِلتِييرا منذ يومين
- 1 - قسَمُ لأجل الأموات 2025-10-14
التعليقات لهذا الفصل " 2"