عضّت شارون على أظافرها عندما سمعت خبر خروج جيش كاتاس إلى ريلنوك. لم يكن أمرًا سارًّا أن تعيش مجددًا في ظلّ قلق الحرب.
“ليتك كنتي الملكة يا أمي. الجميع غاضبون. كم مضى على الحرب السابقة حتى نخوض أخرى؟”
“إيدن!”
نهرته شارون بصوت عالٍ حين سمعت من خلفها نبرة تهكّمية تطعن في جيهاردي. مهما كان استياؤها منه، لم يكن أمرًا يجوز أن يُقال علنًا. حتى وإن لم يكونوا في القصر الملكي، إلا أنّ مكانتها كأميرة تفرض عليها ذلك. فمذ أنها من العائلة الملكية، عليها صون الشرعية وأداء الواجب. والأفكار المُشينة كان الأفضل أن تظلّ طيّ الكتمان.
نقرت شارون بلسانها ساخطًة من طيش إيدن، ثم عادت تدير رأسها نحو النافذة.
تلك النافورة، التي كانت تُعدّ فخر بيت دوق ليزارد، كانت قد تجمّدت بالبرد القارس، لكنها الآن ذابت كاشفةً عن قاعها.
حين وقعت عينا شارون على النافورة، سرحت في التفكير.
الوضع الراهن الذي قادهم إلى الحرب من جديد بسبب خطأ ملك يحمل سرًّا في نسبه، كان أفضل ذريعة للإطاحة بجيهاردي عن العرش. ومع ذلك، شعرت شارون بتردّد غريب.
ربما لأن كلمات السيدة ميشيل لم تبرح ذهنها:
—”سموّ الأميرة أيضًا جزء من عائلة كاتاس الملكية.”
فالعائلة الملكية المجيدة والسامية ستسقط إلى الحضيض لحظة انكشاف سرّ جيهاردي. أمّه أوليفيا، ومن قبلها جده ويليام الثالث… تاريخ سلالة كاتاس كان طويلًا ومجيدًا.
كان مريرًا بما يكفي أن وجود جيهاردي كاتاس وحده قد بعثر إرث الأسلاف الذي حموه عبر أزمان طويلة، فكيف إذا انكشف سره وانهار كلّ ما بناه أولئك الأسلاف؟
ظلت شارون واقفة أمام النافذة وقتًا طويلًا، لا تعرف ماذا تفعل، غارقة في التفكير.
***
“تقولين إنك من كاتاس، لكن يدك ماهرة بالفعل.”
خفضت روميا رأسها وهي تمسح بطنها المنتفخ بلا داعٍ. ما جرّ عليها المتاعب كان أنّها صنعت قبعات وقدّمتها كهدايا ردًّا على لطف أهل القرية. سرعان ما ذاع الخبر أنّ امرأة جاءت من كاتاس تصنع القبعات، حتى بلغ الصيت إقطاعية الماركيز موندرِيا الملاصقة لإقليم بيلفيروتر.
التي استدعتها لم تكن سوى زوجة الماركيز موندرِيا. المرأة التي كانت الحاكمة الفعلية للإقطاعية، والمشهورة بحدة طبعها وعدم تسامحها مع أي خطأ، حتى صار الناس يهابونها كثيرًا.
بينما كانت روميا تردّد في نفسها المعلومات التي لقّنتها إيزيبيلا قبل زيارتها، التقت عيناها بنظرة حادّة من تلك السيدة. حدّقت الأخيرة في بطن روميا وهي تعقد حاجبيها، ثم قالت من جديد:
“سمعت أنّك استقرّيت في ريلنوك وحدك، من غير أب للطفل.”
رغم أنّها كانت تعرف أنّ السؤال فظّ، إلا أنّها رأت أنّه لا بدّ من طرحه.
في ريلنوك، كانت القبعات تُستخدم بكثرة للوقاية من الشمس اللاهبة. لكن إن طُلب أن تكون جميلة، فلا بد من استعمال قماش سميك يجعلها حارّة خانقة، فيخلعها الناس بسرعة. أما القبعات المزخرفة فكانت لا تصلح إلا للولائم المقامة في القاعات. لكن روميا أتقنت صنع قبعات بموادّ شائعة في ريلنوك تسمح بالتهوية وتقي الحرّ، ومع ذلك تُحافظ على جمالها.
تلك كانت موهبة حقيقية. وكانت هناك وليمة شهرية لسيدات المجتمع على الأبواب، وستُقام في الهواء الطلق. لذلك فكّرت الماركيزة أن تطلب من روميا أن تصنع لها قبعة.
لكن أن تطلب قبعة من امرأة مشاع عنها الفجور والانحراف، حامل من غير زوج، فذلك وصمة عار على اسم بيت موندرِيا.
ظلت الماركيزة تحدّق في روميا بعينيها الثاقبتين، مترقبة جوابها. تلك الفتاة ذات البشرة البيضاء الناعمة، غير المألوفة في ريلنوك، كيف ستردّ؟
“إن لم يَرُق لك أن يُعرف أنني أنا التي صنعت القبعة، فبوسعكِ، سيدتي، ألّا تذكري اسم الصانعة.”
“… هوه.”
كان فيها قدر من الصلابة. للوهلة الأولى بدت ضعيفة وخجولة، لكن حين التقت الماركيزة بعينيها الخضراوتين المواجهتين لنظرتها مباشرة، أدركت أنّها تسرّعت في حكمها.
سواء كانت تريد حماية طفلها أو إخفاء قصتها، فقد قرأت بوضوح مقصدها من السؤال، وهذا لم يكن بالأمر العادي.
وفعلًا… منذ لحظة دخولها، طبّقت بروتوكول ريلنوك بدقّة، لا عادات كاتاس. وقبل أن تطلب منها صنع قبعة، كانت قد أدركت سبب استدعائها لها، وانتظرت بصمت.
حتى حركات يديها وهي تشرب الشاي كانت هادئة ناعمة، لا شائبة فيها.
لم تكن البتّة كما توقعت من امرأة منحرفة.
ولعلّ أكثر ما راق لها هو عيناها الخضراوتان الهادئتان، الخاليتان من الطمع. لون نادر لا يُرى في ريلنوك التي يغطيها الرمل.
وحين وصلت في تفكيرها إلى تلك النقطة، تملّكها فضول حقيقي.
ابتسمت إيلينا موندرِيا لأول مرة وهي تنظر إلى روميا بنظرة أكثر لينًا وقالت:
“لكن ألن يظلمك ذلك؟ قد يسرق أحدهم موهبتك باسمه، أو تُهدر قدراتك.”
“لن تذهب هدرًا. قد يجهل الناس، لكن يبقى واقعًا أنني أنا من صنعت القبعة التي سترتدينها. ولا أحد يستطيع أن يصنع نسخة مماثلة.”
كان ردّها مشبعًا بالثقة والاعتزاز بعملها.
‘يا لها من فتاة مغرية كلما تأمّلتها أكثر.’
راحت الماركيزة تبتسم لها ابتسامة لم تُر منها من قبل.
“في نهاية الشهر القادم هناك حفلة في قصر الكونت غارد. حفلة خيرية لمساعدة من أوقعتهم الحرب في الضيق. لا ينبغي أن تكون القبعة صاخبة أو مبتهجة أكثر من اللازم. أنت من كاتاس، وتعرفين كم الحرب ثقيلة ومرعبة.”
وأكملت كلامها وهي تستحضر ذكرى حرب مضت منذ سبع سنوات.
“لن أبحث بعد الآن عن قصتك أو عن حياتك في كاتاس.”
“….”
“لذلك أودّ أن تصنعي قبّعتي.”
***
عادت روميا من قصر موندرِيا وارتمت مباشرة على السرير. لم تُبدِ ذلك، لكن مقابلة أحد النبلاء الكبار من بلد أجنبي كانت أمرًا مرهقًا. لحسن الحظ أنّ استدعاءها كان بخصوص القبعات، فاستطاعت أن تتعامل مع الأمر بصفته شأنًا عمليًّا بحتًا، وهذا سهّل عليها كثيرًا.
بعد أن استلقت طويلًا تسترخي، مدّت يدها إلى المنضدة بجانبها.
كان هناك خطاب غير مفتوح، مرسَل من كارلايل دوين.
<إلى عزيزتي روميا،
جيش كاتاس يتجه إلى ريلنوك.
كنت قد وعدتك أنني، متى انقضى الشتاء وحلّ وقت الراحة، سأزورك، لكن يبدو أنني لن أستطيع الوفاء بوعدي.
الحراسة اشتدّت، ولم تعد هناك سفن متجهة إلى ريلنوك، فلا سبيل للوصول.
هل أحوالك في ريلنوك بخير؟
هل ما زال الجو جافًّا وحارًّا؟ هل ما زلتِ تصنعين القبعات؟
السيدة ريتشيتو أخبرتني عنكِ وأنتِ صغيرة. قالت إنك كنتِ مشاكسة جدًّا. وهي أيضًا قلقة عليك كثيرًا.
متى عادت السفن للإبحار، فسأزورك مهما كان، قبل أن ينقضي الربيع.
أتمنى لك السلامة حتى ذلك الحين.>
وفي نهايته ختمه باسمه: كارلايل دُوين.
كان الخطاب دافئًا وحنونًا.
أعادت روميا قراءة الرسالة الحافلة بالودّ والدفء مرارًا، ثم أغمضت عينيها.
لكن ما علِق في ذهنها لم يكن مشاعره الحنونة، بل جملة بعينها:
‘جيش كاتاس يتجه إلى ريلنوك…’
أكان خبر تحرك كاتاس التي طالما اكتفت بمراقبة الحرب من وراء درع ريلنوك، خبرًا سارًّا أم نذير سوء؟
جلست روميا ببطء، وأخرجت ورقة بيضاء من درج مكتبها.
والآن بعدما انقطع الطريق البحري بين ريلنوك وكاتاس، فإن أي رسالة سترسلها ستتأخر طويلًا قبل أن تصل.
وبينما كانت تكتب ردًّا يبدأ بسؤاله عن حاله وينتهي دائمًا بذكر أحوال السيدة ريتشيتو، توقفت يدها فجأة.
مع أنها تتبادل الرسائل مع كارلايل، إلا أنها لم تخبره يومًا بحملها.
لم تدعه يأتِ، ولم تمنعه أيضًا. لكنها كانت تعتقد أنّه اذا قدم يومًا، سيعرف بنفسه، فلا داعي لذكره.
لكن خطر لها فجأة أنّه حين يصل كارلايل، ربما يكون الطفل قد وُلد بالفعل.
‘هل عليّ أن أخبره؟’
رفعت روميا بصرها نحو المرآة، فرأت عينيها القلقتين ثم أغمضتها باحكام.
أرادت أن يظلّ الأمر محصورًا بإيزابيلا التي علمت به مصادفة، وألا يعرف شخص آخر أن والد طفلها هو ذاك الرجل.
وهكذا انهت خطابها اليه كما هو الحال دائمًا بذكر أحوال السيدة ريتشيتو، مع نقطة ختامية ثابتة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 96"