“أأنت تقول انها عدّلت وصيتها من أجل ابنة عائلة لا يعرف أحد حتى اسمها؟ ها! يا للسخرية!”
“حقًا… لم تخذلني طباعه. تشه.”
الـماركيز فانيسا قطب حاجبيه ونقر لسانه وهو ينظر بازدراء إلى ادون الذي أبدى تصرفًا طائشًا وجاهلًا. بخلافه، فإن جهاردي الجالس إلى جانبها لم يتغير على وجهه أي تعبير.
كان مشغولًا بمصافحة الأقارب الذين لم يلتقِ بهم منذ زمن طويل بعد الإعلان عن الوصية.
“سأصلي من أجل سموّكم.”
“شكرًا لكِ، سيدتي تيليا.”
“لتحل بركة الإله على كاتاس ولتكن مع سموّكم.”
“شكرًا لك، عمي بيتر.”
كانت تحاياهم مزيجًا بين احترام صادق لولي العهد الذي سيصبح ملكًا قريبًا، وبين تملّق مبكر لمن سيتولى الحكم. فما الضير في ترك انطباع حسن مسبقًا؟
“لو أصبح ذلك الأحمق ملكًا، لكان مصير كاتاس الخراب!”
“تف!”
بصق ادون بغضب في أصيص وُضع في زاوية الممر، وخرج بصاقه غليظًا متدلّيًا. الماركيز فانيسا زفر باستياء وعبس.
لم يكن يملك ذرّة من الأدب. ألا يكفي أن ترى بعينك كيف كانت الملكة أوليفيا في حياتها تُحْبُو جهاردي ولي العهد وترعاه؟
إن فكرة تسليم مستقبل كاتاس لشخص متهوّر لا يملك ضبط نفسه، فجّ في أقواله وأفعاله وعنيف كإدون، كانت فكرة مرعبة. لكنه وحده لم يدرك ذلك.
“المنشغل الأكبر هو ولي العهد طبعًا. أما أنا، فما عليّ سوى أن أساعد قليلًا في شؤون البلاط نيابة عن ملكة كاتاس الراحلة.”
“مع ذلك…”
رمق فانيسا بطرف عينه الأميرة شارون التي كانت تتحدث مع آخرين على مقربة. كانت أم ادون، وعمّة جهاردي، وتشغل المرتبة الثالثة في ترتيب وراثة العرش. لكنها، على عكس ابنها العنيف المنفلت، حافظت على برودٍ وهدوء لا يقلّ عن برود جهاردي نفسه. ولهذا لم يكن يسهل حتى على فانيسا أن يدرك ما تفكر فيه في قرارة نفسها.
رموشها الداكنة الكثيفة، مع ملامحها الجامدة، جعلت فانيسا يرتجف رغماً عنه، إذ بدت قريبة الشبه من جهاردي.
إن كان ثمة من ينبغي الحذر منه… فهي هذه المرأة.
الوصية حسمت أمر الملك التالي: جهاردي سيصبح سيد كاتاس الشاب ما لم تقع كارثة كبرى. ومع ذلك، فالأميرة شارون التي كان الجميع يتوقع أن تُظهر اعتراضًا على إعلان الوصية، آثرت الصمت. وهذا ما أقلق فانيسا أكثر من أي اعتراض علني.
ليتني أكون مخطئ.
وضع فانيسا يده على صدغه، وقد بدأ الألم يدبّ في رأسه. لقد اعتاد على مواجهات الأميرة المستترة، لكن سكوتها هذه المرة كان أكثر إزعاجًا.
—
“دعني أساعدك يا مولاي.”
عند لمسة الخادم، استرخى كتفا جهاردي المتوتران قليلًا، لكنه ما زال يبدو مرهقًا. فك ربطة عنقه، ناول معطفه، وجلس على الأريكة جلسة مستقيمة، عاقدًا ساقًا فوق أخرى، وغطّى وجهه بيده.
لا شك أن أعصابه كانت مشدودة طيلة وجوده في دار درينيا، ولهذا هاجمه التعب دفعة واحدة.
حتى وهو يبدّل إلى ثياب أخفّ، ظل يقاوم النعاس الذي يثقل جفونه. فهناك رزم من الوثائق لا بد من مراجعتها قبل أن يخلد للنوم.
كاد جهاردي يلتقط أنفاسه بعد أن تخلّص من ثياب البلاط الثقيلة، لكن زائرًا غير مرغوب فيه لم يصبر حتى تسنح له فرصة الراحة. وكان بين يديه للتو ملفات يراجعها.
“أعلم أنكم متعبون سموك… عذرًا على الإزعاج.”
دخل الماركيز فانيسا، بابتسامة متكلّفة وانحناءة، حاملة ملفًا آخر. لم يكن يرغب في إنهاك ولي العهد إلى هذا الحد، لكن الأوضاع متشابكة مع اقتراب حفل التتويج.
أشار جهاردي بيده أنه لا بأس. اقترب فانيسا بخطوات مترددة وقدّم مظروفًا بنيًا سميكًا.
“هذه نسخة الوصية المعدّلة التي أُعلن عنها اليوم في دار درينيا، موقّعة بخط الملكة الراحلة أوليفيا.”
“هل هي الأصلية؟”
“نعم، يا مولاي. أنهينا إجراءات التوثيق للتو وتسلّمتها بنفسي.”
“آخر صفحة تحوي التعديلات الجديدة التي أُعلنت اليوم.”
تصفّح جهاردي بسرعة حتى وصل إلى آخر صفحة، فالمحتوى كان معروفًا، وكل ما عليه هو التأكد من دقته.
“الليدي فوتاميا…”
“أظنها على علم. لا بد أن الخبر وصلها الآن.”
كان واثقًا أن هيرين فوتاميا ستذعن بصمت لتعديلات أوليفيا الأخيرة. فذلك أقل ما يليق كوفاء للراحلة، وهو أيضًا ما يقتضيه موقعها كخطيبة ولي العهد. لم يقلقه الأمر. فالاختبار ليس له وحده بصفته الملك المقبل، بل لهيرين أيضًا بصفتها الملكة المرتقبة.
“سأرسل في الصباح الباكر من يبلغها. فقد برّأتها جلالة الملكة الراحلة، وسيُفرج عنها غدًا لتلتحق مباشرة بالقصر.”
استمر جهاردي في مطالعة الوثائق بعناية. عيناه السوداوان تتحركان بخفة خلف أهدابه الكثيفة.
لكن عند السطر الأخير من الصفحة الأخيرة، توقفت عيناه.
“وصيفة الليدي فوتاميا… فتاة تُدعى…”
“عفوًا يا مولاي؟”
“ما اسمها؟”
لم يكن قد انتبه للاسم عند إعلان التعديلات، أما الآن فقد وقع نظره عليه.
“ر… روميا… روميا بيرلوس، على ما هو مذكور بالوصية.”
“أيّ لقب قلت؟”
“كما هو مذكور، يا مولاي… بيرلوس.”
بيرلوس.
اسم غريب… لكن حين ردّده في نفسه بدا مألوفًا في وقع حروفه.
وضع جهاردي الوصية على الطاولة بصمت، ثم تناول ملفًا آخر وشرع يكتب بتأنٍ. كان تصرفه هادئًا، حتى خُيّل لفانيسا أنه انتهى من مراجعة الوصية، فأخذ أوراقه وانصرف.
لكن بعد أن أُغلق الباب، ظل جهاردي جالسًا بلا حركة. وحدها قبضته على القلم كانت أشدّ من المعتاد.
وفجأة، تسرّبت إلى ذاكرته صور من ذلك اليوم: رائحة نفاذة لصبغة، ثياب غير مرتّبة، شعر بنيّ مجعد تلاعب به الهواء بلا عناية…
امرأة لم يعجبه منها شيء. فضول طفولي في عينيها الكبيرتين حين كلّمته، وسلوك يملؤه الضعف والهفوات. مجرّد شظايا لا قيمة لها.
هي نفسها التي تجرّأت على لمس جدته فنالت حكمًا بالإدانة، ثم برّأتها الوصية المعدلة. والآن ستدخل القصر الملكي باسم بيرلوس.
تابع توقيعه على الأوراق بخطوط أثخن من المعتاد.
—
مع أن الشارة الذهبية المثبتة على كتف الخادم تحمل بوضوح شعار العائلة الملكية، فإن روميا لم تصدق ما حمله من خبر.
حتى حين صاحت فيوليت فرحًا وعانقتها بحرارة، وكأنها تنسى ما كانت تصفعها وتوبّخها به حتى قبل لحظة، بقيت روميا جامدة كأن الزمن توقف.
صحيح أن كون ابنة بارون فقير تصبح وصيفة لخطِيبة ولي العهد هو شرف لعائلتها، لكن روميا لم تفهم بعد لماذا اختارتها الملكة أوليفيا لهذا الدور ومنحتها هذه الفرصة.
شعرت كأن العالم كله يدور ببطء. كأن أنفاسها تتجمّد في الهواء.
رفعت يدها ببطء وقرصت خدّها.
“آه.”
عند ألم القرصة، أدركت أن هذا ليس حلمًا. وها هو القصر الملكي العظيم الذي حلمت برؤيته يومًا، شامخًا أمامها، كأنه سيبتلعها.
“الآنسة روميا بيرلوس؟”
“نعم.”
“تفضلي، اتبعيني.”
كانت المتقدمة في السن التي قدّمت نفسها باسم السيدة ميريج، ترافقها بلهجة صارمة جافة تميّز العاصمة. على الأرجح، هي أعلى وصيفات الليدي فوتاميا مقامًا.
“حين تدخلين، ستجدين الليدي هيرين بانتظارك. احرصي أن تكون خطواتك خفيفة بلا ضجيج.”
“نعم.”
“ارفعي طرف فستانك باعتدال، وأجيبي بإيجاز.”
“حاضر.”
كانت روميا تشعر بنظراتها تراقبها في الطريق كله. ويبدو أن السيدة ميريج قد كشفت أن آدابها ليست إلا دروسًا حديثة العهد. فأطبقت روميا على شفتيها لتخفي خجلها، واكتفت بالإيماء مرارًا.
رغم وجهها غير الراضي، لم تُظهر ميريج رغبة في توبيخها الآن. بل فتحت على الفور مقبض الباب المزخرف بالذهب.
بينما ينفتح الباب ببطء، أقسمت روميا ألا تسمح للخوف أن يضعفها. فقد عانت كثيرًا لتصل إلى هذه اللحظة. ولن تفرّط بالفرصة التي منحتها لها الملكة الراحلة.
ربما ساورتها الشكوك في الطريق، لكن حرارة العاصمة وانبهارها بالمدينة طغيا على كل تردّد.
إذا نجحت في أداء دورها كـ وصيفة لليدي فوتاميا خطيبة ولي العهد، فإنها ستغدو جزءًا من عالم العاصمة المشرق.
يكفي أن تسير بين أولئك الناس وتكون واحدة منهم، كي يتحقق حلمها الكبير.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات