كان جِهاردي يحدّق في الثلج المتراكم بثقله على الأغصان اليابسة حينما أدار خطاه بهدوء. فوق البياض النقيّ خطر بباله ذلك الأخضر الصافي الشفّاف، عينا ملاكه التي لوّثتها بعثرة واحدة منه، فغدت مشوّهةً ومعتمة.
بما أنّ الطبيب قال إنّ روميا تحتاج إلى الراحة بعد الإجهاض، فلا شكّ أنّها ستظلّ طريحة فراشها في غرفتها يومًا كاملًا. على الأقل اليوم، لن تتمكّن من الهرب منه.
مجرد هذا وحده كان كافيًا ليمنحه شيئًا من الطمأنينة، فبدأ بريقٌ ما يتردّد في عينيه المعتمتين.
“أتمنّى لو يرحل الشتاء سريعًا. آثار الأقدام التي يتركها المرء على الثلج باتت تزعجني كثيرًا.”
قطّب المركيز فانيسا حاجبيه بضيق، وكان معروفًا بدقّته في النظافة، فابتسم جِهاردي بخفّة.
“الشتاء جميل.”
“لكنّه بارد للغاية. أودّ لو يحلّ الربيع عاجلًا.”
كان المركيز فانيسا، بخلاف كيلدرو، شديد الضعف أمام البرد. احترم جِهاردي ذلك، ثم التفت مجددًا إلى فكرته العارضة. كان الثلج المتراكم على الأغصان اليابسة ينهار بثقله المتزايد.
وهكذا بدأ البريق في عينيه يخبو شيئًا فشيئًا.
“حين يرحل الشتاء ويأتي الربيع…”
توقّف قليلًا ليأخذ نفسًا، ثم ابتلع بقيّة كلامه.
مع رحيل الشتاء وذوبان الجليد المتجمّد، سيحلّ الربيع حقًّا، لكن في الوقت ذاته، ستنكشف الأمور التي كانت مخفيّة.
***
“جِهاردي. سمعت أنّك طلبتني.”
كان لقاءً رتّبه بعد أن أجّل مواعيده الصباحية. دخلت شارون بابتسامة أنيقة وهي تلقي التحيّة، لكن جِهاردي ظلّ يحدّق فيها دون أن ينطق بكلمة.
عندها فقط أدركت زلّتها، فغطّت فمها متصنّعةً الحياء. يبدو أنّ قوله السابق بضرورة التزامها بالأدب لم يكن كلامًا عابرًا.
“يا لها من رهبة… حسنًا، حسنًا. جلالتك، أحقًّا طلبت لقاء الأميرة شارون؟”
“تفضّلي بالجلوس.”
ارتجفت حاجباها عند سماع اللهجة الرسمية وهو يفتح فمه. كان من المزعج لكرامتها أن ترى ابن شقيقها يتصرّف كملك متعالٍ.
لكن شارون سرعان ما استعادت هدوءها، وأرسلت نظرةً مائلة.
“يبدو أنّ بيننا الكثير من التفاهم، يا جلالتك. فقد كنتُ أودّ الحديث أيضًا.”
لم يُحضَر الشاي بعد، لكنها لم تصبر على كتمان ما أعدّته. كانت متحمّسة، والسبب الأخبار التي وصلتها قبل أن يستدعيها.
“جلالتك، تذكُر بالتأكيد سيّدة الوصيفات التي خدمت جلالة الملكة الراحلة. تساءلتُ مؤخرًا عن أحوالها في شيخوختها، فوجدتُ أنّها لا تزال بخير وبصحّة جيدة.”
بدأت شارون بسرد قصّة السيّدة ميشيل، ترقُب تعابير جِهاردي عن كثب. لكن ملامحه ظلت ساكنة، بلا أثرٍ يُقرأ. أليس هذا ما يسمّونه وحشًا؟ قبضت شارون يدها بغضب.
“ألا يساورك الفضول أيضًا، جلالتك؟”
“……”
“حول حقيقة الحادث الذي أودى بحياة والديك.”
رغم وضوح نواياها المستترة، لم يُبدِ جِهاردي أيّ ردّ فعل. وبعد فترة، حرّك شفتيه اليابستين قائلًا:
“وهل يثير ذلك فضولك أنتِ، يا عمّتي؟”
“طبعًا. وإلّا، فلماذا كنتُ لأتعب نفسي في البحث عن تلك الوصيفة؟”
أومأت برأسها بسرعة، لكن لم تُحقّق مبتغاها.
“تقصدين أنّك مهتمّة بسرّ ولادتي، أليس كذلك؟”
رغم كلماته المباشرة، ظلّ وجهه هادئًا، الأمر الذي شوّه نصرها الموهوم. فجأة وجدت نفسها عاجزة عن الردّ، بينما أطلق ابن أخيها الأصغر منها بكثير سؤالًا صريحًا.
بضيقٍ، نشرت شارون مروحتها بعصبية.
“أتقصد أنّه ليس هناك ما تُخفيه؟”
“لن تجدي الأسرار المسلّية التي تتخيّلينها.”
“سنرى ذلك.”
ازدادت نظرتها حدّة، غير راضية عن بروده.
بينما كانت مشاعرها تتأجّج، كان مزاج جِهاردي يزداد هدوءًا أكثر فأكثر. لم يكن يكترث حقًّا لما قد تفعله.
“ما دامت تلك متعتك الوحيدة، فلن أُمانع.”
لم يكن جِهاردي ليواجه تهديدها غير المباشر بلا استعداد. كان عليها أن تدرك جيّدًا من هو الذي تجرّأت على المساس به.
“لكن يا عمّتي، أيًّا كان ما تعبثين به، عليكِ أن تدفعي الثمن.”
لمع بريق قاتم في عينيه للحظة خاطفة، حتى أنّ شارون ظنّت أنّها توهّمت. أجابت بعد تردّد، بشيء من النفور:
“…مخيف فعلًا.”
خيّم صمتٌ بارد بينهما. رغم دفء الموقد، طردت برودة الصمت كلّ حرارة الغرفة.
حينها، دوّى طَرقٌ خفيف على الباب. دخل الخادم حاملًا صينيةً فيها الشاي والحلوى. ألقى نظرة قلقة نحو جِهاردي، لكن الأخير أومأ له بالاطمئنان، ثم تقدّم بنفسه وقدّم الشاي إلى شارون.
“لقد أعددنا شايًا خاصًّا من أجلك، يا عمّتي.”
“……”
“أتشربين؟”
بمجرّد أن فاحت رائحة الشاي من الصينية، عرفت شارون نوعه.
“إنّه شاي ديبيتو.”
“نعم.”
نظرت شارون بحدّة إلى الخادم، فهي تعرف أنّ هذا الشاي بمثابة سمّ لها، مع مرض السكّري الذي تعانيه. كلّ من في كاتاس يعرف ذلك.
كان شاي ديبيتو مفيدًا لغير المصابين: ينعش الجسد ويُحسّن البشرة. لكن بالنسبة لمريض مثلها، قد يسبّب ضيق تنفّس وصداعًا وتشنّجات.
دفعت الكوب بعيدًا قائلة:
“…لا بأس. أشكر جلالتك على اهتمامك بصحّتي، لكن لن أشرب.”
“هذا مُحزن.”
قال ذلك، ثم ارتشف الشاي أمام ناظريها ببرود. بل شرب منه بضع رشفات إضافية قبل أن يُعيد الكوب.
أيّ وقاحة هذه؟! تمتمت داخليًا، غير مصدّقة.
ثم جاءه صوته الهادئ:
“هل فعلتِ الأمر نفسه مع روميا؟”
ارتجفت، وتصلّبت في مكانها.
“تلك الفتاة أيضًا رفضت شرب الشاي الذي قدّمتهِ لها، أليس كذلك؟”
“……”
“لكنّك أجبرتها في النهاية.”
أدركت عندها أنّه استدعاها بنفسه لهذا السبب. ولأجل روميا تلك؟ غصّت بضحكة مريرة.
“لا يمكن أن نسمح بأن تشوّه مكانة العائلة الملكية بطفلٍ غير شرعي تحمله.”
“ومن يقرّر ذلك؟”
“بالطبع، أكبر من في العائلة…”
“لا. أنا من يقرّر.”
قطع كلماتها بلا تردّد. رأت في عينيه شيئًا لم تره من قبل. لم يعد ذلك الأمير المهذّب. بل وجهه الحقيقي: رجل لا يرحم من يعبث بامرأته.
ارتجفت بصمت وهي تحدّق فيه. لم يكن يعبس ولا يتجهّم، لكن تلك البرودة هي ما جعلتها ترتعد أكثر.
“إذن، أشربيه.”
أمسكت الكوب بيدٍ مرتجفة، مضطرّةً لابتلاع رشفة بعد أخرى تحت وطأة عينيه.
أيّ وحش هذا…
“أحسنتِ.”
انزلقت قطرات الشاي في حلقها. لكنها اطمأنّت قليلًا، فهي تملك الترياق في منزلها. ما إن تعود حتى تتناوله. وضعت الكوب بعنف، وحدّقت فيه بحقد.
سأُسقطه من عرشه مهما كلّف الأمر.
لكن جِهاردي لم يكترث لغضبها.
“أرجو أن تواصلي هدوءك هكذا، يا عمّتي.”
“……”
“أجمل بكثير.”
ابتسم بهدوء، ثم نهض تاركًا شارون تلتزم الصمت مكرهة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 76"