أطلقت روميا كلماتها الحادّة نحوه وكأنه هو المذنب وراء كل شيء. لم ترغب أن يُلعَب بها حتى تحت الطاولة.
ضحك جيهاردي ساخرًا من نبرة صوتها التي كانت بين الرجاء والتوسّل. لم يفعل سوى أن نقر على ظهر قدمها بخفّة، لكن ردّة فعلها المفزعة كانت ممتعة له. كان من السخيف أن يخجل وجهها من أمر كهذا، بينما يستطيع فعل ما هو أبعد من ذلك بكثير.
كان من الأفضل بكثير أن يراها غاضبة بتلك التعابير الحيويّة بدلًا من أن رؤيتها غارقة في تمزيق القماش بلا وعي. أسند جيهاردي ذقنه إلى كفّه وهزّ كتفيه بلا مبالاة.
“إن كنتِ تفرغين غضبك فقط لأن مزاجك سيئ، فالأفضل أن تتوقّفي. أنا لم أفعل شيئًا.”
“أجل، بالأمس كان الأمر هكذا، لكن ليس اليوم.”
رغم أنّها لم تستطع حتى النظر في عينيه مباشرة، إلا أنّها رفعت أنفها بتعجرف يشبه قطة صغيرة بدأ ينبت لها أنياب. تارة تبدو كجرو، وتارة كقطة… روميا كانت كثيرة التقلب، بعكس جيهاردي الذي لم يقدر أن يرفع عينيه عنها.
لهذا السبب، لم يكن يشعر بالملل أبدًا وهو يراقبها. لم يعرف كيف كانت تفسّر كلماته في رأسها، لكنّ ملامحها المتغيّرة في كل لحظة جعلت مراقبتها أمرًا ممتعًا للغاية.
عيناها الخضراوتان كانتا صافيتين إلى حدّ جعله يتساءل إن كانتا بالفعل عيني إنسان. بعد أن اعتاد مخالطة أشخاص يخفون أنفسهم تحت أقنعة لا تنتهي، كانت روميا بيرلوس تقدّم له جرعة يومية من الصفاء الخام.
تلك اليد الصغيرة كأوراق السرخس، الملطّخة بالحبر وهي تمسك بالقلم، أو وهي تحمل مقصًا بحجم كفّها لتقصّ وتقطع وتخيط وتزيّن القبعات… مشهد يخطف الأنفاس.
إنّه سحرٌ جنوني. أجل، الاسم المناسب لهذا الشعور الذي يملأه لمجرّد النظر إليها كان “سحرًا”. ارتسمت على شفتي جيهاردي ابتسامة نادرة ومرتاحه.
حتى هو، الذي اعتبر دائمًا الحديث مع الآخرين على المائدة أمرًا مزعجًا ومرهقًا، وجد نفسه يفاجأ بأنّه يفرغ وقته عمدًا ليتناول الطعام في وقتها. ورغم بُعد المسافة بين الجناح الغربي في قصر لوكينزيا حيث قاعة الاجتماعات، وبين القصر الرئيسي، إلا أنه منذ قدوم روميا لم يتخلّف قط عن ذلك. كان ذلك فقط ليُطعم معدة روميا بيرلوس الفارغة، التي تنسى الطعام وتنغمس في صنع القبعات.
حتى هو نفسه كان يعلم أنّ السبب الذي يخطر في باله غير منطقي، لكن لم يجد سببًا آخر يبرّر قبوله بهذا العناء.
“انتهيتُ.”
“لم لا تأكلين المزيد؟”
“شبعت.”
بينما كان غارقًا في أفكاره، اتجه بصر جيهاردي نحو طبق روميا الذي ما زال نصفه ممتلئ. لم يعجبه الأمر، لكنّه كان يعرف أنّه لو أجبرها على المزيد لتقيّأت كل ما في معدتها. كيف يمكن أن تكون صحّتها واهنة لدرجة أن تبدو كأنها مجرد فتات؟ رشَف قليلًا من الماء ونهض مع روميا.
فإن كانت قد انتهت من طعامها، فلم يكن هو بحاجة لأن يأكل أكثر.
ما إن جذب جيهاردي الحبل حتى دخل الخدم المنتظرون في الخارج وبدأوا بتنظيف المائدة. اعتادت روميا على ذلك فعادت إلى مكانها، ثم أخذت قطعة قماش مخملي وقالت:
“إنها القماشة التي سأزيّن بها قبعة الأميرة شارون. هل ستعجبها برأيك؟”
توقّف جيهاردي، الذي كان يخرج سيجارًا، لوهلة من التفكير. لم يكن يستطيع الادّعاء أنّه يعرف ذوق عمّته شارون بدقّة، لكنه على الأقل كان يعرف أنّ لها موعدًا قريبًا في غاية الأهميّة. وبمجرّد أن فكّر في ذلك، نظر إلى القماشة بتركيز أكبر. المؤكد أنّ القبعة المصنوعة من هذا القماش لن تناسب المناسبة التي ستذهب إليها.
في معظم الأوقات لم يتدخّل جيهاردي فيما تفعله روميا، والسبب الأكبر أنّ روميا ذات الكبرياء لم تطلب مساعدته يومًا. ورغم قولها إنّها “ستستغلّه”، إلا أنه لم يشعر يومًا بأنها تجرؤ حقًا على استغلاله كما يجب.
تأمّل جيهاردي القماش المخملي طويلًا، ثم تكلّم:
“لا.”
هبط القماش الأحمر المخملي الذي كانت روميا قد رفعته بحماس بلا قوّة. ارتجفت عيناها بصدمة من جوابه القاطع.
“لكنها قالت إنها تحب الأشياء الفاخرة…”
تضاءلت نبرة صوتها شيئًا فشيئًا حتى فقدت ثقتها.
“إذن، ماذا تحب تحديدًا؟”
وضعت روميا القماش الذي اختارته بعناية على أساس سنّ شارون، ثم رفعت عينيها بلمعان. كان شعورًا داخليًا أنّ جيهاردي قادر على حلّ المعضلة التي أثقلت قلبها.
تمامًا كما قالت لها السيّدة ريتشيتو، إن كانت تعرف بدقّة المكان الذي سترتدي فيه شارون القبعة، لتمكّنت من تحديد الاتجاه الصائب في صنعها.
“وإن أخبرتك، ماذا ستعطينني مقابل ذلك؟”
بطبيعة الحال، لم يكن جيهاردي ليسهُل عليها الأمر. رؤية الحماس يعود مجددًا إلى وجهها بعد أن كان منطفئًا جعله يرغب في سحقه تحت قدميه.
لكن يبدو أنّ روميا تعلّمت الدرس، فقد أدركت أنّه يمازحها. حدّقت بعينيها الضيّقتين وكأنها تقول إنها لن تُستَغفل.
“ليس لدي شيء. أنتم تملكون المال أكثر مني يا جلالتكم.”
الثروة والمجد… أشياء فائضة عن الحاجة بالنسبة لشخص في مكانة جيهاردي. هزّ رأسه ببرود. لم يكن يبحث عن شيء تافه كهذا.
“ليس هذا. بل ما لا يقدر أن يعطيني إيّاه سواك.”
“….”
بدت نواياه الداكنة واضحة أكثر من أي وقت مضى. وحين فهمت روميا قصده، ضمّت ذراعيها إلى صدرها في ردّة فعل غريزية، رغم علمها أن لا جدوى من ذلك. ضحك جيهاردي بسخرية.
ضحكة منخفضة هزّت الهواء. رفعت روميا بصرها نحوه بدهشة، فقد كان دائمًا يبدو باردًا بعينين هادئتين ووجهٍ جامد، لكنها اكتشفت الآن أنّ ابتسامته تجعله يبدو بغاية الإشراق.
اكتشفت للمرة الأولى أنّه قادر أن يبدو أكثر بريقًا وإشعاعًا.
كانت ابتسامته، رغم ميل زاوية شفتيه، ناعمة أكثر مما تصوّرت. روميا، المبهورة بابتسامته، اقتربت بخجل ووجنتان متوردتان.
قبلة.
انطبعت شفتاها على وجنته بخفّة وأصدرت صوتًا خجولًا قبل أن تبتعد.
وما إن أدركت ما فعلته بدافع عاطفة مفاجئة، حتى عاد إليها وعيها، فخفضت رأسها بشدّة ووجهها شاحب كالأصفر. توقّفت ضحكته المتهاودة ببطء.
ثم فجأة انفجر جيهاردي ضاحكًا بوضوح.
“يا للجرأة.”
اشتعل وجهها خجلًا، وتمنّت لو تنشق الأرض لتبتلعها. أمسكت بالقماش المخملي لترفعه بسرعة وتغطي به وجهها، لكن ضحكات جيهاردي لم تهدأ.
ترجّت أن يتوقف، أن يكفّ عن الضحك، لكن دون جدوى. وأخيرًا تمتمت بوجه أحمر من شدّة الخجل:
“كنت أقلّد جلالتك فحسب.”
التقط جيهاردي همسها على الفور وسأل مبتسمًا:
“تقلّدينني؟”
“نعم. فكلّما انتهى ذلك الأمر… تمنحني قبلة.”
عند لفظها عبارة “ذلك الأمر”، غاص صوتها أكثر. لم تستطع أن تخفي خجلها الذي لوّن وجهها كالطماطم. لم تكن لتتخيّل قبل أيام أنها ستتفوّه بكلمات مخزية كهذه.
ابتسم جيهاردي راضيًا، وكأنّه استلذّ بالعلامة التي طبعها عليها. لم يكن أجمل من مشهدها وهي تتشرّب حضوره رغم سذاجتها.
خفض القماش من بين يديها وقال:
“تلك كانت جائزة أعطيك إيّاها. لأنكِ صمدتِ.”
لياليه مع روميا كانت تدوم حتى الفجر. كانت تنهك بين ذراعيه المتمرّسة، وتستسلم للنعاس بجسد متعب، لكنه لا يتركها، بل كان ينهكها مرارًا، ويوقظها من استسلامها بمزيد من التملّك.
وبعد أن ينتهي كل شيء، كان يغرقها بقبلات لا تقلّ إلحاحًا عن عناقاته السابقة، يطبعها على عينيها، وأنفها، وشفتيها… لا يترك موضعًا دون أن يمرّ به.
حين خطرت تلك الذكريات، تجنّبت روميا النظر في عينيه وقالت:
“أخبرني الآن، لقد أعطيتك ما يمكنك أخذه مني.”
“على الأقل، ليس من المناسب ارتداء ذلك اللون هناك.”
“ماذا؟”
“ومن الأفضل أن تزيلي الريش المصبوغ أيضًا.”
وأشار إلى الريش الأصفر المعلّق خلف كتفها. نظرت روميا إليه بارتباك شديد.
كانت المعلومة التي أخبرتها بها الأميرة شارون مختلفة تمامًا عمّا تسمعه الآن. ولم يمضِ وقت طويل حتى تبيّن لها الحقيقة كصفحة بيضاء جليّة.
لقد كان طلب الأميرة شارون منها أن تصنع لها قبعة ليس إلا مكيدة لاحتقارها.
“فبعد خمسة أيام، ستحضر عمّتي مراسم تأبين والديّ الراحلين.”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 62"