منذ اللحظة التي عادت فيها بعد أن صُدّت على أبواب قصر آل أوتروس لكونها أنها “زائرة غير مدعوّة”، بدأ جسد روميا يخذلها. فبمجرد أن تُجهد نفسها قليلًا، كانت ترتعش بردًا ويَدور رأسها كما لو أنها على وشك الإغماء.
ومنذ ذلك الحين، استمرت في تلبية الدعوات لحضور تجمعٍ أو حفلة أخرى، لم يكن الوضع مختلفًا قط. لم يمنحوها فرصة واحدة، ولا فسحة ضئيلة لتتنفس. ومع توالي الرفض في كل مكان، أقلعت روميا عن فكرة ارتياد الحفلات.
لكنها لم تعد، كما كانت من قبل، تنطوي على نفسها في غرفتها باكية، أو تُمعن في تحقير ذاتها.
لم تعد ترغب حتى في الحزن على كبريائها الذي تم الدوس عليه من تلك الطبقة الأرستقراطية التي لم تعرف من طباعها سوى التعالي الفطري.
ربما كان ذلك منذ اللحظة التي تلطّخ فيها المستقبل الوردي الذي حلمت به بألوان قاتمة. فمنذ البداية، كان أوضح من أي شيء أنّها مختلفة عنهم، وأنّ أعلى رجل في هذا البلد نفسه هو من أراها ذلك بجلاء.
“بصفتك وصيفة الملك، تبدين في صحة سيئة للغاية.”
عين وصيفة شارون، الحادة كالخنجر، فحصت روميا بتمعّن. نظرة لامعة خلف إطار النظارات، كأنها لا تريد أن يفلت من بصرها تفصيل صغير من ملابسها.
ابتسمت روميا بتوتر، مقاطعةً لحظة انغماسها في الكتابة حين كانت تدوّن الملاحظات التي تمليها عليها الفتاة. مرة أخرى، فضحت سرحانها كثغرة في شخصيتها.
“… لم أنم جيدًا فحسب. واصلي من فضلك.”
كانت تعلم أنها هي نفسها التي ترهق جسدها رغم وهنه، فلم تجد مزيدًا من الكلمات لتبرير حالتها. فاكتفت بالتحجج بقلة النوم، لكن وصيفة شارون لم تُبدي اقتناعًا.
ومع ذلك، فقد أكملت كلامها بوجه صارم، وكأنها قررت التغاضي عنها هذه المرة:
“الأميرة تحب الفخامة، لكنها أيضًا تفضّل التصاميم الوقورة. يجب أن تكون العقد النهائية في غاية النظام، وأن تكون كل المواد المستعملة في القبعة من أجود ما هو متاح.”
قبل الشروع في صنع قبعة الأميرة التي أوصت بها في قاعة كينزي، كان من اللازم إجراء هذا البحث المسبق.
كانت روميا تسجّل كل شيء بدقة في دفترها، ثم رفعت رأسها بتعجب وهي تقرأ ما كتبت. باستثناء مقاسات الرأس وبعض التفضيلات الشكلية، لم يكن هناك أي تفاصيل أساسية يجب معرفتها.
“سمعت أن القبعة مخصصة لمناسبة مهمة جدًا. هل لك أن تلمحي لي أي نوع من المناسبات هي؟”
فالمناسبات الرسمية تختلف تمامًا عن التجمعات الخفيفة. وبما أن كلمة “مهمة” جاءت من الأميرة نفسها، فقد شددت روميا في سؤالها. فكّرت الوصيفة لحظة ثم أجابت:
“البرنامج طويل، ويتضمن أنشطة داخلية وخارجية. لذا، عليك أن تراعي المناسبتين معًا. فمن المرهق أن تغيّر الأميرة القبعة كلما غيّرت مكانها.”
“وماذا عن الألوان المفضّلة أو التصميم الأكثر تحديدًا؟”
قطّبت الوصيفة حاجبيها بضجر وقالت وقد نهضت من مكانها:
“هل يجب على الأميرة أن تُملي عليك كل تفصيل صغير أيضًا؟”
لهجة الاستهانة لم تخفَ على روميا، لكنها تماسكت وأشارت إلى دفترها بهدوء:
“قد يساعدني ذلك كثيرًا.”
لقد اعتادت على العداء لدرجة أن مشاعر الناس السلبية نحوها لم تعد تؤثر فيها كما كانت من قبل. كان طعم المرارة يملأ فمها، لكنها أخفت كل شيء وراء وجه ساكن لا يشوبه تغير، مكرّسة قلبها فقط لعملها.
حين رأت الوصيفة هدوء روميا، أحسّت بالحرج من انفعالها، فعادت لتجلس وتابعت كلامها بعد سعال خفيف:
“… لا أعلم، هذا كل ما وصلني. لكنها عمومًا تُحب الألوان الفاتحة.”
بدا أن كلماتها الأخيرة خرجت متمتمة، لكن روميا التقطتها بوضوح، فاكتفت بهز رأسها دون إعادة السؤال.
“حسنًا. أشكرك على ما أخبرتني به.”
***
“فتاة ذات أنامل ماهرة… تقول؟”
اهتز صوت هيرين وهي تردّد الكلمة غير مصدّقة ما سمعت. سألت لتتأكد من صحتها، لكن الرجل أمامها لم يزد على أن ارتشف بهدوء شايه الذي بدأ يبرد، جالسًا متألقًا كطائر الكركي.
لقد دعاها جهاردي بنفسه إلى جلسة الشاي، وهذا كان نادر. كان يفترض أن تكون لحظة باعثة على البهجة، لولا أن كلماته سقطت على أذنيها كالصاعقة. ولو لم يقل ذلك، لكانت الآن منهمكة في تبديد الشكوك التي ربطت اسم روميا باسمه معًا.
كان تظاهر هيرين بابتسامة ودّية أمامه أمرًا مألوفًا. وكان هو، في بروده، يتقن إظهار عطف واجب ليس أكثر.
‘كيف تجرؤ على قول هذا لي؟’
كادت أن تمد يدها إلى ياقة قميصه لتُحكم قبضتها عليها وتهزّه بكل قوتها، لولا العيون المحيطة. سنوات ولاء آل فوتاميا لعرش كاتاس، وعمرها الذي كرّسته لجهاردي، أتراه كله ينهار أمام بائعة القبعات تلك؟
التفتت تبحث بعينيها عن روميا فلم تجدها.
فتح جهاردي شفتيه أخيرًا، بصوت هادئ على عكس توترها:
“مع كل هذا الانشغال، لا أرى بأسًا أن تكون بجانبي فتاة بارعة اليدين تخدمني…”
“لكنها ليست من جنسك، بل وصيفة؟! ألن تجد بين صغار الخدم من هو أجدر وأقدر؟”
قاطعته دون صبر، في تصرف لا يليق بها أبدًا. ولحسن حظها أنه تغاضى عن هذه الزلة. أكمل كلامه كأن شيئًا لم يكن:
“سمعت أن الفتاة التي أردتِ ارسالها إلى السيدة ليزارد تملك موهبة فذّة.”
“مولاي!”
انفجرت هيرين، رافعة صوتها للمرة الأولى. لطالما رأت أن الاستسلام للعاطفة والتصرف على هذا النحو ليس إلا من شِيَم العامة. حتى غضبها في الماضي كانت توكله لوصيفتها. أما الآن، فهي تكشف وجهها العاري أمام جهاردي نفسه.
ملامحها المرتجفة بالحنق والخيانة كانت أبشع ما رآه منها.
لو كانت هيرين تحب جهاردي بحق، لما كان ذلك مأساويًا. لكنه وهي معًا كانا يعلمان أن سبب غضبها الحقيقي ليس غيرتها، بل خوفها على مكانتها وسمعتها إن هو خالف رغبتها. فهي لم تحتمل يومًا أن تتلوث دفيئتها بريح عابرة أو زخّة مطر مفاجئة.
امرأة لا ترى سوى جرحها وكبريائها.
وضع جهاردي كوبه نصف الفارغ جانبًا، ونظر إليها بعينيه الصامتتين.
“ولأنك تكنّين تقديرًا كبيرًا للسيدة ليزارد، فإني واثق أن الفتاة التي اخترتِها لها قد أثبتت مهارتها بالفعل.”
اشتعل وجه هيرين بلون أحمر أعمق من الورود.
لقد كان عازمًا بلا رجعة أن يأخذ روميا. قبضت يدها بعنف، كأنها قرأت في عينيه أنه يعرف نيتها في رمي الفتاة بين يدي إيدون.
تداركت نفسها وكتمت ضحكة مريرة كادت تفلت منها. أجل، لقد عرف منذ البداية ما خططت له. هو لم يسبقها سوى بخطوة. إذاً لم يكن ذلك مجرد عناد فارغ منه، بل إصرار واعٍ.
‘وهو يعرف ما يعنيه أن يأخذ الملك وصيفة بيده.’
إدراكها هذا رسّخ شكوكها. فهي تعلم أن مستقبل روميا لن يكون إلا أكثر قسوة وبرودة من الآن. ومع ذلك، أعلن جهاردي صراحة أنه سيأخذها. أي أنه هو نفسه من سيتولى حمايتها.
حدقت فيه هيرين بعينين مصدومتين. لطالما حسبته رجلاً بلا عاطفة، والآن تكتشف أنه لم يكن يفتقر إليها، بل فقط لم يشأ يومًا أن يمنحها لها.
تألقت الشمس من فوقهما، دافئةً ومشرقة بعكس ما كان يعتمل في صدرها.
أشار جهاردي بيده إلى إحدى الوصيفات الواقفات بعيدًا. فأسرعت نحوه لتملأ فنجانه الفارغ. كان لا يزال لديه ما يقوله.
“سآخذها أنا.”
تلك كانت نهاية حديثه، كلمة واحدة قاطعة.
ارتبكت هيرين، والتفتت بسرعة تتأكد أن الوصيفة التي ملأت الكوب قد ابتعدت. ثم انحنت نحوه هامسة بصوت مرتجف:
“لقد وعدتُ السيدة بالفعل أن أرسلها إليها. ألا تُراعي موقفي فتجنبني الحرج؟”
سحبت هيرين بشق الأنفس طرف شفتيها لتُخرج هذا الرجاء، لكن الجواب الذي عاد إليها كان واحدًا لا يتغير.
“يا سيدة.”
نبرته الهادئة كان يتخللها إنذار بارد.
“أنا لا أغير قراراتي.”
في عينين ساكنتين، تكاد تصلان إلى حد العناد، لم يكن هناك أدنى أثر لغضب موجَّه نحو هيرين. ومع ذلك، حين التقت عيناهما، شهقت الأخيرة نفسًا عميقًا. فجأة خُيّل إليها أنها واجهت الدوامة الهائلة الكامنة في أعماق تلك السكينة، دوامة شاسعة وعالية تبتلع كل ما حولها.
ارتعدت هيرين حتى شحب وجهها من شدة الخوف. تلك العينان الهادئتان، اللتان بدتا في هذا اليوم بالذات أشد قشعريرة من أي وقت مضى، بعثتا في جسدها رجفة. لم يقم بأي تهديد، لم يحرّك ساكنًا سوى أنه نظر إليها فقط، ومع ذلك شعرت أنها على وشك أن تجثو على ركبتيها وتطرق رأسها أرضًا.
ملك.
إنه رجل وُلد ليجلس على العرش.
لقد مضى زمن كونه وليًا للعهد، الشاب الكفء المتطلع.
كانت وصيفاتها يتهامسن مازحات فيما مضى، لو أراد هو، لغيّر موقع بحر كابريتي الممتد على السواحل الغربية لكاتاس. كان يبدو كلامًا مستحيلاً، لكنهنّ كنّ يخشين أنه إن تحرك بصدق، فقد يكون ذلك ممكنًا حقًا.
منذ البداية، لم يكن جهاردي يسعى لحماية روميا من إيدن.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 46"