روميا لم تفكر حتى في رفع رأسها، وأجابت قبل أن ينطق هو بشيء:
“قلتَ إنك ستمنحني مَشغلاً أتمكن فيه من التركيز على عملي.”
“لكن ليس معنى ذلك أن تعبثي في كل مرة بمكتبي وتتركيه بهذا الشكل الفوضوي.”
مدّ جهاردي بصره متفحصًا المكتب المبعثر قبل أن يخطو نحوها. ارتعبت روميا وأوقفته بصوت مرتجف:
“انتبه! لا تدُس عليه… إنها أقمشة سأستخدمها.”
أنقذت روميا القماش الذي كاد أن يطأه بقدمه، ثم بدأت على عجل تجمع ما حولها.
لكن عينيه كانتا قد سبقتاها، تتجهان إلى الشطائر المهملة على الطاولة، ثم إلى جسدها النحيل، وقد بدت وكأن جلدها يلتصق بعظامها حتى يُخيَّل لمن يراها أن عظامها ستظهر للعيان. كان واضحًا أنها قد تخطّت وجبة الغداء مجددًا. فقرع بلسانه مستنكرًا.
“هل ينبغي أن أطعمك بيدي حتى تأكلي؟ بأي قوّة تتحركين مع تلك الأذرع والسيقان؟”
روميا بيرلوس، كانت بالنسبة له كائنًا مزعجًا لا يتناول طعامه إلا إن هو أجبره على ذلك.
لذلك استدعى بنفسه خادمًا وجلب لها صينية الطعام.
“كلي.”
“لا رغبة لي في الطعام. لو أجبرتُ نفسي فسوف أتقيأ.”
كانت روميا، منذ لحظات، تراقب كل حركة تصدر عنه بحذر شديد، ولهذا ما إن قرّب الصينية أمامها حتى بادرت بهز رأسها بالرفض.
كان في قلبها رجاء خفي: ليعاقبها كما يشاء على جفاء ردّها، أو ليغضب ويطردها بعيدًا… بعيدًا حيث لا يراها.
لكن فجأة امتدت يداه، لتقبض بثبات تحت إبطيها.
“ما الذي…!”
“إن كنتِ لا تأكلين إلا إذا أطعمتك بنفسي، فليكن كذلك.”
“…….”
“على الأقل يجب أن تتناولي وجبتك جالسة على الطاولة.”
رفعها بسهولة وأجلسها أمام الطاولة، وأعاد إليها الطعام الذي رفضته قبل لحظة.
منذ عرفته، أدركت روميا أن لديه هوسًا غريبًا بوجباتها. لم تفهم قط: لماذا؟ لماذا يعتني بها بهذا القدر، وهو الذي سيتخلى عنها عاجلاً أم آجلاً حين تنتهي فائدتها؟
المُهين في الأمر، أنها بدأت تخشى لحظة اعتيادها على هذه العناية… ثم أن تفقدها فجأة.
وفيما كان جالسًا أمامها، عينيه متسمّرتين بانتظار أن ترفع الملعقة، لم تجد بدًّا من حمل الملعقة إلى فمها.
ارتشفت الحساء الساخن، لكن طعمه كان غائبًا تمامًا.
لم يكن فيه إلا حرارة تحرق لسانها. ومع ذلك ظلت تجرعه حتى كادت تحترق.
طائر فقد هدفه لا يمكنه أن يحلّق، بل تُكسر أجنحته فيسقط.
وكانت هي تمامًا ذلك الطائر… بائسة ومرتعشة، لا تعرف كيف تهرب، ولا تملك حتى إرادة الهرب.
كانت كقارب شراعي صغير، عالق في بحر بعيد، محاط بأفق مسدود من كل جانب.
—
ومضت الساعات سريعًا حتى بدأ أخيرًا الحفل التاريخي لتتويج ملك كاتاس.
جرت مراسم التتويج بانضباط كامل، وكانت روميا تراقب المشهد من بعيد. إلى جوارها وقفت إيزابيلا، التي لم يفُتها شحوب ملامحها. قالت هامسة:
“هذه القبّعـة التي سهرتِ عليها ليلًا ونهارًا، أليس كذلك؟”
ومن الأعلى علتها ريشات بيضاء مستقيمة، تعكس هيبة خفيفة، فيما كسر اللمعان الفضي حياد اللون الأبيض، فأضفى عليها حياة.
لم تبتعد القبعة عن تقاليد تيجان التتويج السابقة، لكنها بلا شك كانت مختلفة ومبتكرة.
مذهلة…
حتى روميا نفسها لم تكفّ عن الانبهار بها، فكيف بغيرها؟
“تشبه البجعة تمامًا.”
القبعة البيضاء المتألقة ذكّرت الجميع ببجعة تسبح فوق الماء، وصارت تتناقض مع سواد هالة جهاردي المظلمة لتمنحه هالة غامضة مهيبة.
مهما عُيّرت عائلة بيرلوس بالثراء الحديث، فاليوم، بمجرد أن يروا ولي العهد مرتديًا قبعة التتويج تلك، لن يجرؤ أحد على الإنتقاد.
إيزابيلا لم تستطع منع نفسها من التلصص على ردود الحاضرين، وبالفعل رأت ما توقّعته: نظرات خاطفة تتجه نحو روميا من هنا وهناك.
روميا البريئة لم تلحظ، لكن إيزابيلا، الحسّاسة دائمًا لنظرات الآخرين، أدركت أن الجميع، الذين كانوا يتهامسون بالسوء عنها، باتوا مضطرين الآن للاعتراف بأن قبعتها بلا عيب.
ابتسمت إيزابيلا بسخرية من تناقضهم.
“لحسن الحظ… كنت صراحةً أظن أنك ستفشلين.”
هزّت روميا رأسها موافقة، وأسنانها تعضّ على شفتها. جسدها المنهك يصرخ بصمت، رأسها يغلي، وارتجافها ينبئ بمرض يوشك أن يفتك بها.
كانت بالكاد واقفة، لكن كلمات فيوليت صباحًا لا تزال ترنّ في أذنها:
اليوم ليس يوم ولي العهد وحده… إنه يومك أنتِ أيضًا يا روميا بيرلوس. الناس حين يرون القبعة سيتذكرونك. ابقي حتى النهاية… لا تخذلي أمك. إنها فرصة العمر لعائلتنا.
دوت الأبواق وارتجت القاعة بالتصفيق.
حتى روميا انتفضت متفاجئة، تتلفت من حولها وسط هدير الهتاف.
لقد ارتقى جهاردي العرش.
وفي اللحظة نفسها، نُزعت القبعة التي صنعتها ليحلّ محلها التاج الملكي.
كان الوقت قصيرًا منذ دخوله وحتى جلوسه على العرش، لكن تلك اللحظات القليلة كانت كافية لتترك قبعة روميا بصمتها في التاريخ.
الآن تبدأ الحكاية حقًا…
تمتمت إيزابيلا بمرارة وهي ترى روميا تحدّق في ولي العهد بلا رمشة.
كانت تخشى دومًا أن ينجرف مصيرها إلى هذا الطريق، وها قد حدث ما كانت تخشاه.
وبينما كانت روميا تكاد تنهار من الإرهاق والحمّى، فضّلت إيزابيلا الصمت، ولم تسألها عن حقيقة ما جرى بينها وبين ولي العهد.
—
في قاعة كينزي المهيبة، المملوءة بالثريات والأنوار، أقيمت الوليمة الفاخرة تكريمًا للتتويج. لم تُفتح هذه القاعة إلا في أبهى اللحظات التاريخية لمملكة كاتاس.
الأشراف القادمون من الأقاليم انغمسوا في الشراب حتى الثمالة.
“آه، ليدي فوتاميا!”
التفّت بعض السيدات المسنّات حول شارون، الأميرة الأرستقراطية التي تشاركهن الاهتمامات الرفيعة. فجأة ظهرت هيرين، بهيئة أنيقة وفستان أصفر زاهي، وانحنت بأدب:
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 38"