ذاك الذي كان يصرّ دومًا على أن يكون كلّ شيء مستقيمًا بلا اعوجاج، كانت تلك المرة الأولى التي يظهر فيها بتلك العيون المليئة بالاشتياق، حتى إنّ القشعريرة سرت في جسده.
لا يدري إن كان هو نفسه واعيًا بذلك أم لا، غير أنّه تمنى في داخله أن يكون الأمر مجرّد نزوة متأخرة، لهوٍ صبيانيّ عابر. وهو يلمس الدفتر الذي أخفاه بين ثيابه، فكّر: إنّ القلق الفارغ لا يجلب سوى مواجهة واقع غير مرغوب فيه، فالأجدر أن يتوقف هنا عن التفكير.
نهض المركيز فانيسا مجددًا مشدّدًا صوته قائلًا:
“سأجلب لك الوثائق التي يجب أن تطّلع عليها اليوم.”
كلّما ازدادت أفكاره، كان عليه أن يحرّك جسمه أكثر.
لم يكن جهاردي ممّن يخذلون كاتاس أو يتخلّون عنها، لذلك، نعم. كان هوسه الطفيف بروميا بيرلوس ينبغي أن يتوقف عند كونه مجرد هاجس عابر.
وبعد أن غادر المركيز فانيسا، رفع جهاردي رأسه الذي ظلّ متسمّرًا نحو الوثائق.
ألقى نظرة على وجهه المنعكس في مرآة مكتبه الموضوعة جانبًا. وقد أدرك ما يدور في ذهن المركيز فانيسا، فأراد أن يتأكد: هل أصبح قناعه رخوًا إلى الدرجة التي يمكن أن يلحظه الآخرون؟
لا، ذلك محال. سرعان ما هزّ رأسه وصرف بصره عن المرآة. ذاك القناع الذي ارتداه طويلًا صار هو نفسه، وقد فرّغ كلّ ما كان يخفيه من مشاعر، فلم يعد ثمّة ما يمكن أن يُظهره.
لم يعد هناك ما يثقل كاهله، فلا داعي للقلق بعد الآن. ومع ذلك، وبشكل غريب، عادت عيناه مرارًا لتتجه نحو صورته في المرآة. يا للسخرية، الوجه الذي قرأته روميا بيرلوس وحدها، دون سواها.
—
“إذاً! لماذا لم تراسليني فورًا عن خبر بهذه الأهمية، بأنك ستصنعين قبعة وليّ العهد بنفسك؟!”
“كنت مشغولة للغاية. لم يتبقّ وقت، فدخلت العمل مباشرة.”
تنهّدت روميا تحت وطأة قبضتي فيوليت التي أمسكت بكتفيها، وابتسمت ابتسامة متكلّفة.
فجأة ودون موعد مسبق، التقتا في العاصمة. وما إن رأت فيوليت روميا حتى ارتمت عليها تحتضنها وتُحدث جلبة. ورغم أنّ روميا لم تُخبرها بشيء، فقد علمت بطريقةٍ ما أنّها المسؤولة عن قبعة ولي العهد، فجاءت مسرعة.
“لكنّك قلتِ ذلك لمدام ريتشيتو.”
“نعم. فأنا لم أقم سوى برسم التصاميم من قبل، لذا اضطررت أن أستشير مدام ريتشيتو في الكثير من الأمور.”
“آه يا ابنتي… يؤلمني قلبي. كيف يحدث أمر كهذا ولا تخبرين أمّك أو تستشيرينها أولًا؟”
حدّقت فيوليت بعينين متحاملتين، مما جعل روميا بالكاد تتمالك نفسها وتحافظ على ابتسامتها. لطالما كان وجود فيوليت خانقًا لها، حتى إنّ التنفّس أمامها لم يكن يسيرًا.
“… كنت مشغولة جدًا. نسيتُ فحسب.”
لم يكن قلقها من أن يُفسَّر جوابها على أنّه عذر باهت يثير غضب فيوليت ويجعلها تحتسبه لها غلطة، شيئًا غريبًا عنها. فقد كان رفيقًا دائمًا لأيامها.
وعلى رأس فيوليت كانت تتدلّى أطراف وفيرة من فرو المنك، وكأنها تُعلن حلول الخريف. لم تمسّ الشاي الذي طُلب لها، بل راحت تنفث دخان السيجار بلا توقف، حتى تراكم على الطاولة عدد من الأعقاب المحترقة إلى آخرها. والوقت يمرّ، وقد جاوزت ساعات الصباح منذ زمن.
وأثناء شرود روميا في النظر إلى ذلك، اخترق سمعها صوتٌ يفيض بالاستياء:
“بيرلوس، أن يصنع بيتنا قبعة للأسرة المالكة! أيّ شرف أعظم من هذا؟ لذا، لقد تحدثتُ مع أبيك، وكنّا نفكّر أن نفتح متجرًا للقبعات في العاصمة، ما رأيك؟”
“في العاصمة؟”
“بالطبع! ألم أقل إن موهبتك هبة من الله؟ لن يعشق قبعاتك أهل بيريدروز وحدهم، بل سيحبها الكثير من أبناء كاتاس أيضًا. فأنتِ ابنة مَن تظنين؟!”
فتحت ذراعيها على وسعها مبالغة في التعبير، فاصطدمت بخادم عابر دون أن تكترث لتقديم أي اعتذار، بل ظلّت عيناها شاخصتين نحو روميا وحدها.
أما الخادم، فقد بدا ممتعضًا وهو يبتعد، وروميا، التي رأت المشهد، أحسّت فجأة بالذنب وكأنها هي المخطئة، فانكمشت كتفيها.
“آه صحيح، كيف حال الليدي بوتاميا؟”
“بخير.”
انطلقت الإجابة بجمود، أشبه برد فعل تلقائي. وما إن ذُكر اسم هيرين حتى اضطربت قليلًا، غير أنّها كانت شاكرة أن فيوليت لم تلتقط ذلك.
‘لا يمكن أن تعلم والدتي بما حدث ذلك اليوم.’
فلو عُرف أنّها أوقعت نفسها في عداوة مع الليدي بوتاميا، لطالها عقاب يشبه ما عانته طفلة: أن تُغلق في خزانة، أو أن تضطر لتتوسل وتبكي حتى ينهار جسدها.
غثيان مفاجئ تسلّل إلى جوفها.
“صحيح. فهي كأنها مُحسنة إليك، فلتُحسني معاملتها دائمًا… لا، ربما المُحسنة هي جلالة الملكة الراحلة. على أية حال!”
قطعت فيوليت حديثها وكأنها تُلغي ما لا ضرورة له، وأخذت تُداعب يد روميا. ورغم أنّ روميا رغبت في سحب يدها، فإنها لم تجرؤ.
فيوليت لا تريد إلا ابنة مطيعة تمامًا. وروميا، التي لم تُرضِ عيني أمها قط، كان عليها أن تبذل جهدا أكبر وتُطيع أكثر.
عيناها اللتان كانتا دومًا حادّتين كزوايا المثلث، لانتا الآن في نصف قوس هادئ.
“صحيح. حفل ظهورك الأول لم يبقَ عليه إلا القليل… وقد طلبتُ فستانك بنفسي. لن تذهبي بقطعة قديمة ارتديتها على عجل، صحيح؟ ذلك الحفل أهم بكثير!”
واصلت فيوليت بحماس بادٍ:
“أتظنينه حفلة تسلية في بيريدروز؟! إنه في العاصمة نفسها! حيث يلتقي أهل القصر الملكي وأرستقراطيو الطبقة العليا معًا، إنها ساحة الكبار. روميا، الرجل، كل ما كان يملك مالًا أكثر، كان أفضل.”
“… نعم.”
لم يكن من الصعب على روميا أن تسمع ما سمِعَته مئات المرّات في بيريدروز. فكرة فيوليت كانت كالنقش في حجر، حتى إن روميا لم تعد تجهل أن حفلها الأول ما هو إلا سوق زواج لها.
“لكن مشكلتنا أننا لا نملك صلات في العاصمة، فلا أعلم من يصلح أن يكون شريكك في الحفل.”
أعادت فنجانها إلى الطاولة بعد أن ارتشفت رشفة، تاركة أثر أحمر قانٍ من أحمر شفاهها. حدّقت روميا بتلك البقعة في شرود، ثم سرعان ما سألت:
“شريك؟”
“أتظنين أنك ستدخلين الحفل بلا شريك؟! يا ابنتي، لقد جاوزت سن الرشد منذ زمن. والآن تذهبين الحفل متأخرة أصلًا، فلو دخلتِ بلا شريك فستكونين مثار سخرية، ولن تلفتي الأنظار أبدًا. وما هو أتعس من ذلك؟”
“لكن كيف سنجد شريكًا؟ لا نتواصل مع أي بيتٍ آخر. ثم ما المشكلة إن تأخرت سنة أو اثنتين فقط؟”
“لا تتحدثي بما لا تعلمين! قيمتك عليك أن ترفعيها بنفسك. وإن دخلتِ منكسرة منذ البداية، فقد أضعتِ فرصة الزوج المناسب.”
ارتفعت عيناها بحدة مجددًا، بعد أن كانتا لينتين، وصوتها امتلأ بالتأنيب: ما زلت صغيرة، وقصيرة نظر. أصاب الدوار روميا.
شريك… لم يكن أنّها لم تفكر به. لكن أيّ رجل يرغب أن يكون شريكًا لابنة عائلة اشترت لقبها بالمال؟! ولم يكن هناك من يمكن أن يُطلب منه ذلك. لذلك فإن إصرار فيوليت على الأمر كان عبئًا مضاعفًا.
“… أمي. لدي موعد مع وليّ العهد اليوم أيضًا. هل يمكن أن أنصرف الآن؟”
صوت فيوليت كان عالٍ، وقد جذب أنظار الكثيرين في المكان. لو بقيت روميا أكثر، لانفجرت. تناولت معطفها مسرعة ونهضت.
شيء لم تجرؤ أن تفعله من قبل: أن تتمرّد ولو قليلًا.
كان طبيعيًا أن تتطاير الشتائم الآن، أو أن تجرّها فيوليت من شعرها. لكن الكلمة الوحيدة، “ولي العهد”، كانت أشبه بتعويذة سحرية.
“يا إلهي، لقد حبستك طويلًا! اذهبي بسرعة إذن. لقد حجزتُ غرفة في فندق جيلّا هنا بالعاصمة، اتصلي بي إن حدث أي أمر.”
ابتسمت فيوليت ابتسامة غامرة وهي تدفع ظهر روميا نحو الباب.
“لا تنسي بعد غد، بالتأكيد. سيصل الفستان الذي طلبتُه، وعليك أن تجرّبيه.”
“حسنًا.”
لا تعلم روميا كيف حرّكت رأسها بتلك الصلابة. بالكاد خرجت الكلمة من فمها، وقد شحب وجهها.
خرجت من المقهى كالهاربة. لكنّ وجه فيوليت المبتسم بشدّة، وابتسامتها التي كشفت أسنانها اللامعة الحادة، ظلا عالقين في عينيها.
وأكثر من كل ذلك…
أثر أحمر الشفاه الذي لطّخ فنجان فيوليت من كل جانب، لم يغب عن ناظريها.
كأنه يُضفي قوة على كلمات الناس حين نعتوا آل بيرلوس بالابتذال والدناءة.
توقّفت أمام المقهى تلهث، وحاولت أن تستجمع أنفاسها. عليها أن تواصل السير، لكن قدميها كانتا ثقيلتين. شعرت وكأن فيوليت تدفعها من الخلف، بينما في الأمام، لم يكن يتراءى لها سوى وجه ولي العهد.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 23"