استشعر جهاردي بمهارةٍ ارتباك لمسات روميا غير المتقنة، فمسح بعينيه وجهها الشارد في أفكارٍ أخرى. كان في الأمر شيء من الجرأة المزعجة، أن تفكر في غير ما بين يديها من عمل.
“أعتذر.”
انسكبت كلماتها بالاعتذار فورًا، فخبت نار انزعاجه سريعًا. ألقى نظرة على الوقت وسأل عن الخطوة التالية.
“بعد قياس محيط الرأس، ما الذي يجب فعله؟”
“سوف أتحقق من اللباس الذي سيرتديه سموّكم في حفل التتويج، ثم أجد قماشًا يتناسب مع لونه.”
“منهجيّة لا بأس بها.”
كانت تتردد في قبول أمره، والآن تبدو دقيقة في عملها. يكفي أنه يراها تفتح دفترها المعتاد لتريه تصميمًا جديدًا وتسأله عن رأيه.
لم يكن أي منها كافيا في عينيه، لذلك لم يعطها جوابًا راضيًا، لكنها لم تيأس، بل عادت تجمع دفترها بعزم لتعيد المحاولة.
اقتربت روميا بخطوات حذرة، ممسكة بشريط القياس. في وسط الغرفة كان كرسيّ خشبي فخم وحيد، جلس عليه جهاردي يضع ساقًا فوق ساق. وبدا أن كل الهواجس التي أقلقتها لأيام أُلقِيَت جانبًا للحظة.
“سأقترب… من فضلك.”
رتّبت أنفاسها، فتحت شريط القياس، ثم وقفت خلفه. كان ارتجاف يديها أوضح من أي وقتٍ مضى، فهي لا يجب أن تلمس جسد أميرٍ ملكيّ.
لكن قبضتها المشدودة أفلتت منها، فانزلق الشريط من يدها.
“لا يجوز أن تُسقِطيه. لن أستطيع قياس محيط الرأس حينها.”
قالها جهاردي وهو يلتقط الطرف الآخر من الشريط الذي هبط بلا قوة.
“لا تُسقِطيه مجددًا، روميا.”
كانت نبرته هذه المرة أثقل. خجلت روميا من خطئها وسارعت إلى الرد بأنها ستنتبه، لكن شعرت فجأة بنظراته تخترقها فارتجّت حواسها.
رفعت عينيها، فإذا بها ترى في المرآة الكبيرة رجلًا يسطع بهيبته جالسًا على الكرسي، وخلفه هي، مترددة، تمسك الشريط.
كانت قد سألت السيّدة ريتشيتو عن كل صغيرة وكبيرة في فن صناعة القبعات، ومع ذلك تتعثر الآن في مجرد قياس محيط رأس. عضّت شفتيها خجلًا.
هل هو صعوبة مهمتها؟ أم ذاك المشهد في المرآة؟ فالعينان الذهبيتان للأمير كانتا تلاحقان حركاتها بدقة، حتى سألت بلا شعور:
“لماذا تنظر إلي هكذا؟”
“أحيانًا أعجز عن التفريق بين كونك شجاعة أو مجرد ساذجة.”
لم يلتفت إليها وهو يتكلم، لذلك تساءلت إن كان يخاطبها أصلًا. لكن كلماته خرجت جافة خالية من الانفعال، فبدت أكثر غرابة.
“الخوف جيد… لكن وددت لو أنكِ تعين أحيانًا ما تفعلين.”
جُمّدت لحظة روميا بكلمات غامضة تمتم بها وهو يحدّق في انعكاسهما في المرآة. وكأنها عرفت شيئًا ما لم يكن ينبغي أن تعرفه.
“إن كنتِ تملكين رفاهية الشرود أمامي، فذلك لا يعني سوى أنكِ حمقاء.”
أدركت روميا ذنبها. كيف تجاسرت على التفكير في غير الأمير وهي أمامه؟ كل ما ترددت بتكراره في قلبها من عزيمة تهاوى أمام حضوره، رائحته، والجو الذي يملأ المكان حوله.
حتى الآن، هي مقيدة به.
أتمّت القياس بسرعة وهي تمنح مسافة صغيرة احتياطية، ثم أنزلت الشريط ببطء.
“أنا… لا أفهم ما الذي تعنيه يا سموّك.”
“ذكية في الالتقاط، بطيئة في الفهم؟”
“منذ البداية… كلامك كان صعبًا عليّ.”
انفجرت أخيرًا باعترافٍ حقيقي. محاولة صغيرة للتمرد، لكنه ابتسم ابتسامة مائلة ساخرة وهو ينهض، عالمًا أن مهمتها انتهت.
حدّق بها وهي تترنح بارتباك وقال:
“إن كان الجهل يريحك، فابقي على جهلك.”
“……”
“أنا نفسي أتساءل… إلى متى ستستطيعين التظاهر بالجهل؟”
رماها بكلماته كمن يلقي حجرًا في ماء، بينما وجهه لا يتأثر بشيء.
ثم تركها محاصرة بين ألف قيد وغادر. خطاه لم تكن سريعة ولا بطيئة، لكنه حمل معطفه مشدودًا في خاصرته كأن لا همّ له.
هل كانت غافلة حقًا أم متغافلة؟ لا يهم.
إن كانت متغافلة، سيملّ سريعًا. وإن كانت غبية، فلن تصمد طويلًا أمام رغباته.
أما ما ستفعله لاحقًا… فذاك شأن روميا بيرلوس وحدها. وهو، جهاردي، لا يملك سوى الفضول. الآن على الأقل.
لم يحن بعد وقت الغرق في شهواته الجامحة. ليس بعد.
توقف في منتصف خطاه، لم يلتفت، لكنه أيقن أنه لو خطا خطوة أخرى سيبتعد أكثر مما يريد. خطر بباله رسغها النحيل الأبيض الذي كان يلمع في عينيه للحظة.
مثيرٌ للضحك أن من يحرك رغباته لم تكن خطيبته منذ قدم، بل فتاة من أسرة متواضعة من بيريدروز. لكن الرغبة لها وجوهٌ كثيرة:
إذلال.
سحق.
واستعمالها كأداة.
بعيدًا عن تقاليد كاتاس، في رسومات روميا شيء لا تملكه البلاد. ورغم انفتاح كاتاس تدريجيًا على الخارج بنشاط، إلا أنها تفتقد ما يثير ضجة كبرى.
ثقافة لا تزال تنمو ببطء.
وقد وجد في روميا فرصة لكسر هذا الجمود. أن يصرف شكوك شعبه عنه بتسليط أنظارهم على شيء آخر.
“الموضة.”
من يقودها يقود الرأي العام.
نعم. روميا بيرلوس لم تكن سوى أداة سياسية بفضل حسّها الجمالي. لا أكثر.
أما ما يشعره نحوها، فهو محظور. حاكم كاتاس لا يحق له الانجرار وراء عاطفة. هو يكره الرهانات المجهولة.
—
حدّقت روميا في الأرقام التي كتبتها في دفترها، ثم بدأت تجمع أدواتها. إن بقيت تسترجع كلماته ستغيب الشمس.
ما زالت تحتاج لمراجعة زيّ التتويج وجلب الأقمشة والمواد.
“أعمال لا تنتهي.”
من خدمة السيدة هيرين، إلى قضاء شؤون زميلاتها الوصيفات… لم تعش يومًا بهذا الانشغال قط. قلة النوم، الجلوس المنحني طويلاً، جعل هذا جسدها يتألم مع كل حركة.
لكنها ما إن عادت إلى جناح هيرين حتى وجدت جوًا غريبًا يملأه التوتر.
ترددت في التقدم، لكن دفعة قوية من الخلف طرحتها أرضًا.
“أأنتِ؟ روميا؟ أحقًا أنتِ؟”
“ماذا…؟”
دون أي تمهيد، وقفت هيرين أمامها ودموعها متلألئة، تشد على شفتها وتدير وجهها. في اللحظة نفسها، أحاطتها باقي الوصيفات بوابلٍ من الاتهامات.
“السرقة عار يا روميا! كيف تفعلين هذا؟ سيدتي وثقت بك وأكرمتك!”
“حقًا كما يُقال… أسرة بلا أخلاق!”
‘ما الذي يجري؟’
ارتبكت روميا، عيناها إضطربتا.
تنهدت هيرين ممسكة رأسها، وأطلقت زفرة ثقيلة. بدا أن جهل روميا بما يحدث يثير اشمئزازها أكثر من الأمر نفسه.
“كفى، رأسي يؤلمني.”
“إيزابيلا، ساعدي سيدتك إلى السرير.”
أسرعت السيّدة ميريج لتتكفل بها.
أما روميا فبقيت واقفة متصلبة تحت نظراتٍ قاسية تمنعها من النهوض. ثم رمتها بينين، التي لا تفارق إيزابيلا، بنبرة حادة:
“عقد الياقوت الذي كان يجب أن يعود هذا الصباح اختفى. فتشنا كل متاعنا ولم نجده. والمتاع الوحيد الذي لم يُفتّش كان متاعكِ، لأنكِ لم تكوني هنا!”
“ماذا…؟”
لم تستطع إلا أن تتلعثم من وقع الصدمة.
بدأت الصورة تتضح… لقد نصبت لها تهمة.
روميا، وقد وُصمت بالسرقة، انتفضت تلوّح برأسها نافضة التهمة.
“لم أفعل! مستحيل! سيدتي، كيف أسرق عقدكِ؟! أرجوكِ صدقيني!”
التفتت برجاء نحو هيرين، لكن الأخيرة لم تقل شيئًا. لم تنطق سوى نظرة شفقة باهتة.
ابتسمت بينين ببرود، ثم زمجرت:
“السيّدة ميريج فتشت سريركِ بنفسها. ووجدت العقد المفقود مخبأً هناك. ما زلت تنكرين؟”
“سيدتي، أنا… حقًا لم أفعل!”
“إذًا من يكون غيرك؟”
“إنه…”
انحبست الكلمة في حلقها. كانت تعرف إلى من تتجه عيناها، لكن لسانها لم يستطع أن يبوح.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 18"