“أمر.” كلمة باردة، خالية من أي دفء. لم تكن مهذبة، لكنها أيضًا لم تكن قسرية. كانت مجرد حزم خالص، ومع ذلك أسبلت روميا وجهًا دامعًا خفية عن جهاردي.
قالت بصوت مرتجف:
“لا أفهم ما تعنيه. لا أستوعب لماذا توكل إليّ مهمة بالغة الأهمية كهذه.”
فأجابها بحدة:
“ألم تتعلمي أن يكون جوابك قصيرًا ومباشرًا؟”
لقد أكثرت من الشرح. فسخر جهاردي من جرأة روميا التي لم تجبه بخضوع. فالناس عادة يتقاتلون لنيل فرصةٍ كهذه، بينما هذه الفتاة، حين يمنحها الفرصة، تهرب بعيدًا.
يا لها من شديدة الخوف. ومع ذلك، لا شك أنها تختلف كليًا عن أجواء القصر. كانت حذرة، شديدة الارتباك، حتى الآن لم تستطع كبح ارتجاف عينيها المليئة بالرهبة. ويداها المتشابكتان لم تكفا عن الحركة. كل جسدها يرفض أمره. غير أن ذلك لم يكن كافيًا ليجعله يتراجع.
فهو في النهاية صاحب الأمر، وهي – صانعة القبعات بيرلوس – مجرد تابعة تنفذ.
قالت بتردد:
“لكن عليّ أن أخبرك بأمر.”
روميا بيرلوس، كثيرة الحذر لكنها تعرف قدرها وظروفها بدقة مرعبة. ربما لأنها اعتقدت أن رفض أمر ملكي – لأي سبب – مستحيل. خرج صوتها أقرب إلى الاستسلام. فارتأى جهاردي أن يمنحها فسحةً من سماعه.
“تكلّمي.”
“لقد صممت قبعات من قبل، لكن لم أصنع واحدة بيدي قط.”
فأجابها بابتسامة خفيفة:
“القبعة التي تحتضنينها دائمًا في صدرك، أليست من صنعك أنت؟”
وأشار بإصبعه إلى القبعة المهترئة المكدسة على صدرها كما في كل مرة. عندها أسرعت روميا تغطيها بيديها، مصححة:
“أعني أنني لم أصنع من قبل قبعةً لِشخصٍ بمقام رفيع، ليوم عظيم مثل حفل تتويج سموّك.”
“إذن جرّبي. مجد عائلة بيرلوس هو مجدك أنت أيضًا. وهذه فرصتك لنيل ذلك المجد.”
وحين ذكر العائلة، شعرت روميا بأنها دفعت إلى حافة الهاوية. اللقب المعيب والمهين الذي كان الناس يلوكوه في غيابها عاد ليكبل قدميها مجددًا. كل أحلامها في أن تغادر “بيريدروز” وتخطو إلى دربٍ مزين بالزهور انهارت على صخرة الواقع القاسي.
قبضت يدها النحيلة في محاولةٍ لردع نفسها: “لا تفكّري بالسوء… لا تفكّري…” لكنها أدركت أن أسوأ الاحتمالات يظل قائمًا دائمًا.
ارتجف صوتها وهي تهمس:
“وإن لم أتمكن من صنع قبعةٍ تعجب سموّك؟”
“لا وجود لشيء اسمه ‘لن أتمكن’.”
“…….”
“أنا من أولئك الذين يراهنون على ما يقترب من اليقين.”
آه… انفلتت شفتا روميا قليلًا. شعرت كأنها في قفص مغلق بإحكام. أمرٌ ملكي لا يمكن أن تُخفق فيه. لا بد أن تنجزه، وإلا… شعرت أنها على منصة اختبار جهاردي، وأنه لا يزال يلهو بتعذيبها.
لم يخطر ببالها قط أن ذنبها في استراق النظر إلى مشاعر أميرٍ ملكي سيكبر ليعود إليها بهذا الشكل.
وقف جهاردي ببطء، ناظرًا إلى روميا المستسلمة أمامه:
“إذن أنجزيه. لأنه أمرٌ صادر مني.”
“…….”
“أوامري لا تعرف الفشل، يا روميا بيرلوس.”
كان في تمسكه بخيار واحد وإلغاء احتمال الفشل غطرسة طاغية. بل ربما لم يكن سوى خداعٍ مقصود نحوها.
فأغمضت روميا عينيها بقوة.
—
غمرت الغرفة رائحة زهور عطرة. على الطاولة، كانت سيقان وأوراق مقطوعة مبعثرة بلا نظام.
كانت هيرين تستدعي وصيفاتها أحيانًا لتشاركهن هوايتها في تنسيق الزهور. فامتزجت ضحكاتهن مع صوت المقص يقطع بلا توقف. جلست بعضهن على الأرائك يتنشقن العبير ويتبادلن الأحاديث، غير أن فتاةً واحدةً شدت الانتباه. جلست في ركنٍ، رأسها منحنٍ فوق دفتر، تخطّ بتركيز لا يشوبه شرود.
ابتسمت هيرين، ثم همست لـ إيزابيلا بجانبها:
“أليست لطيفة؟ يا له من إخلاص في تنفيذ أوامر سمو الأمير.”
فقد شاع منذ زمن خبر أن روميا بيرلوس، وصيفة هيرين، قد كُلفت بصناعة قبعة التتويج لولي العهد. وعمّ القصر حديث لا ينقطع عنها. باتت محور الألسنة، وصار حضورها أكثر وضوحًا من أي وقت مضى.
لم يكن غريبًا إذن أن تزداد غيرة وصيفات هيرين.
قالت إيزابيلا بنظرة حادة صوب روميا المنهمكة:
“أيعقل؟ أن يُقصى كل صانعي القبعات الماهرين في القصر ويُعهد بهذا الشرف لتلك الـ بيرلوس؟ ألا تشعرين بالغضب يا سيدتي؟”
أجابت هيرين برفق:
“يا إلهي، إيزابيلا. ولمَ أغضب؟ روميا لا تفعل سوى تنفيذ أمرٍ ملكي.”
“هذا لأنك ملاك يا سيدتي! وإلا فالأمراء لا يتركون أمر ثيابهم أو زينتهم لغير الصناع الملكيين. أتظنين أن بيرلوس مؤهلة لصنع زينة ملكية؟”
“همم… ربما. لكن إن عهد إليها سموه، فلا بد أن مهارتها أثارت إعجابه.”
“لكن…!”
ابتسمت هيرين لتسكّن ثورة إيزابيلا، لكن نظرتها نحو روميا لم تكن أقل ريبة. فقد رفضت روميا الانضمام لهن في تنسيق الزهور بحجة ضيق الوقت قبل حفل التتويج، وفضلت الجلوس وحدها ترسم وتخطط للقبعة. لم تتحرك أو ترفع رأسها، لم تكن هناك حركة سوى من القلم والأوراق.
بالنسبة لهيرين التي اعتادت أن تتوسل إليها الفتيات لمجرد الجلوس بقربها، بدت روميا مثيرة للشفقة. نعم، كانت تعلم أن أمر الأمير يسبقها، لكن من الواضح أن هذه الخادمة الغبية لا تفهم سوى نصف الحقيقة.
حتى أن هيرين شعرت بالأسى أن تضيع مشاعرها في الغيرة من فتاة مثلها.
غيرت الموضوع فجأة:
“أوه، إيزابيلا. هلّا أخذتِ عقد الياقوت إلى وصيفات الزينة؟ لقد طلبن رؤيته ليضبطن الفستان على مقاسه. لينزي ستسلمه للسيدة شنايزر.”
هزّت إيزابيلا رأسها بالإيجاب سريعًا، وعادت هيرين لتمسك المقص، تقطع الأوراق الشائكة دون تردد حتى لم يبق سوى سيقان ناعمة وزهور متألقة.
ابتسمت برضا. الوردة جميلة، لكن أشواكها ترفٌ لا حاجة له. فالزهرة المثالية ناعمة، رقيقة، متزنة، حتى تحظى بمحبة الجميع.
وهكذا عادت هيرين تضحك وهي تضع الزهور في المزهريات، مقتنعة أن هذه البهجة ستطرد بقايا مشاعرها المزعجة.
—
بعد يومٍ كامل بين القلم والدفتر، شعرت روميا بتصلب في عنقها وإجهاد في عينيها. كتمت تثاؤبًا وفتحت باب غرفة نومها. لكن فجأة صدمها صوت حركة فوق السرير العلوي.
“أوه؟ تقيمين هنا؟”
فأجابتها إيزابيلا ببرود وهي تنزل وذراعاها مطويتان:
“ولِمَ؟ أهذا يزعجك؟”
لقد كانت روميا الوحيدة من وصيفات هيرين التي تقيم في سكن القصر، بينما الأخريات كنّ يأتين ويذهبن من بيوتهن في العاصمة. لم يخطر ببالها أن تشاركها إيزابيلا الغرفة.
تلعثمت بدهشة:
“لـ… لا. فقط كنت أظن أنك تذهبين وتعودين كل يوم…”
“قررت أن أبقى هنا لبعض الوقت. كيف تتحملين العيش في مكان كهذا؟ الفراش والسرير أقل جودة بكثير من غرفتي.”
ثم أخذت تشم الأغطية بانزعاج.
أجابت روميا بهدوء:
“حقًا؟ أنا أجدها مريحة.”
لم يسبق أن شعرت بأي ضيق. وظنت أن الأمر مجرد ترف تعوّدت عليه إيزابيلا. لكن فجأة رأت شيئًا ملفوفًا ببلاستيك أبيض فوق سريرها.
“ما هذا؟”
صرخت إيزابيلا وهي تضرب يدها بقسوة:
“لا تلمسيه!”
احمرّت يد روميا ألمًا، فتراجعت بسرعة:
“لم… لم أقصد لمسه، فقط أشرت إليه.”
هل هو شيء ثمين جدًا؟ ردة فعلها المبالغ فيها جعلت روميا تشعر بالحرج. وإيزابيلا نفسها بدا أنها اندفعت أكثر مما ينبغي، فارتفع صوتها حدةً:
“إياك أن تظني أننا أصبحنا مقربتين لأننا نتشارك غرفة. لا تتجرئي أن تحدثيني بلا إذني. تذكري أننا نخدم نفس السيدة، لكنك مجرد ابنة بارون، وأنا ابنة كونت. أفهمت؟ خارج هذه الغرفة، أنتِ أدنى مني.”
“ن… نعم…”
كانت كلماتها جارحة، لكنها حقيقية. لم تكن روميا سوى ابنة بارون. وأدركت أنها خدعت نفسها حين ظنت أن إيزابيلا ودودة. فانكمشت في صمت وجلست إلى مكتبها.
كانت تنوي النوم باكرًا، لكن فكرة مشاركة الغرفة كانت غريبة عليها، فلم يغمض لها جفن.
وبعد ساعات من العمل، مدّت ظهرها بتعب، فأبصرت إيزابيلا نائمة على سريرها، وقد تركت المصباح مضاءً.
“سيزعجها الضوء.”
فكرت روميا أن تتركه كما هو، لكن إطفاءه سهل. فتسلقّت السلم بحذر ومدت يدها إلى المفتاح. عندها سمعت حركة عند رأس إيزابيلا، صوت احتكاك غريب. استدارت نحو الصوت، وكادت تسقط من السلم.
“لماذا هذا هنا…؟”
هبطت ببطء حتى مست قدماها الأرض، وقلبها يخفق بجنون. تمنّت لو أن ما رأته مجرد وهم صنعه التعب.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 17"