لو كان عليّ أن أختار، فبلا شك سأفتقد أكثر شيءٍ فروَ ديل الناعم.
حتى تلك الأذنان المدبّبتان المتدلّيتان بلا طاقة، والذيل الممتلئ، لا، المشبع بالفرو، كأنّ له روحًا خاصّة.
أنا لست ممّن يغرقون في الحنين عادة، ولكن ما إن بدأتُ بالتفكير حتى أخذتِ المشاعر الصغيرة بالانهمار بلا نهاية.
‘فهم أناس في عالم لن أراه مجددًا…’
منذ البداية، لم يكن هذا المكان مناسبًا لي.
فأنا مجرد عاميّة بلا لقبٍ نبيل، بل إنّ حتى الخدم هنا، ما عدا الخادمات العاديات، هم أبناء عائلات نبيلة، كوننا في قصر دوق كاسيو، أحد كبار النبلاء.
هذا مكان يعتبر المال الذي قد يعيشه عليه عامّي براحة طيلة عمره، مجرد فُتات.
أنا وهم نختلف من الجذور.
ربما حين كنتُ أصغر سنًّا شعرتُ بشيء من الحرمان، أما الآن، فلم أعد أبالي.
فالنبيل مقيّد في مكانه، أما أنا، فأملك الحريّة لأجري كيفما أشاء دون أن أهتمّ بنظرات الآخرين.
“بصراحة، هذه أكثر مهمّة ممتعة نفّذتها حتى الآن.”
عادةً كلّما كبرت قيمة المكافأة، زادت صعوبة المهمّة.
لكن هذه المهمّة الطويلة كانت سلمية على نحوٍ غير معتاد.
لم أواجه معارك كثيرة، باستثناء قتلي لعدد من القتلة الذين جاؤوا لاغتيال الهدف.
‘لو تمكّنت من سداد الدَّين وبقي معي مال، سأذهب إلى تيراسا.’
في المكان ذاته حيث غادره الغراب قبل قليل، كانت أشعّة القمر تتسرّب عبر النّافذة.
حين كنتُ صغيرة جدًّا، أظنّ أنّني كنتُ في حضن أحدهم، نُحدّق معًا إلى قمرٍ بدرٍ بهذا الحجم.
“……بقي القليل فقط، وسأتمكّن من الذهاب.”
تيراسا كانت مدينة الميناء الواقعة في شرق الإمبراطوريّة، حلمي منذ الطفولة.
رأيتها فقط في كتيّبات، ولكنّها كانت هدفًا لحياتي.
الناس يسيرون على الشاطئ الذهبيّ حيث تتحطّم الأمواج البيضاء، رائحة الملح القويّة ونسيم البحر الدافئ يقرص الأنف، وصوت البوق البحريّ القادم من بعيد في الفجر الباكر…
ربّما هو تعويضٌ أسعى إليه، عن أيّام الطفولة التي عشتُها بصعوبة.
مهما كانت الظّروف، فإنّ الذّهاب إلى هناك يستوجب سداد الدَّين أوّلًا.
“كما أنّ المسافة بعيدة، لذا أحتاج مصاريف سفر وفيرة… وبما أنّها تُدعى مدينة الوفرة، فلا بدّ أنّها تتطلّب قدرًا من المال للعيش فيها.”
رغم أنّني ردّدتُ هذا المخطّط مرارًا وتكرارًا، إلا أنّه بدا جديدًا اليوم على نحوٍ ما.
ربّما لأنّني شعرتُ بأنّني إن أنهيتُ هذه المهمّة بنجاح، فسأتمكّن أخيرًا من الذّهاب حقًّا.
‘لو بقيتُ أكثر، قد أتعلّق حقًّا… يجب أن أقطع كلّ شيء من هنا.’
لم يكن بوسعي أن أتقبّل اللّطف الذي استقبلني به الجميع في قصر الدوق كما هو.
فقد تسلّلتُ إلى هنا وأنا أخفي هويّتي كقاتلة مأجورة، ولم يكن يحقّ لي أن أتلقّى مشاعرَ أو أُعطيها.
التمييز بين العمل والعاطفة يعني ذلك بالضّبط.
طوال الوقت، كنتُ أتظاهر وأكذب وأنا أتعامل معهم.
لكن، إلى متى؟
‘لا يمكنني أن أستمرّ في هذا… فأنا لم أصبح راشدة بعد.’
وبينما كانت جفوني تثقل شيئًا فشيئًا، تناثرت أشعّة القمر الذهبيّة على عينيّ.
***
طق، طق.
استيقظتُ على صوت نقرٍ على النّافذة.
حين نهضتُ بسرعة، رأيتُ الغراب الذي كان يرفرف بجوار النّافذة قد وضع شيئًا على حافّتها ثمّ طار مبتعدًا نحو السّماء.
“آه، إنّه رطب.”
رفعتُ الرّسالة التي تركها الغراب بأطراف أصابعي، ثمّ تنفّستُ تنهيدة طويلة وأنا أضعها على الطاولة بإهمال.
كنتُ قد طلبت من شيفلين أن يطلب من القائد استبدال طائر المراسلة، لكن يبدو أنّه نسي..
أو ربّما تعمّد تجاهل الطّلب بدافع الغيظ.
لوّحتُ براحة يدي في الهواء مرارًا لتجفيف الورقة، ثمّ بدأتُ بفتحها رغم كونها لا تزال رطبة ومُتعفّنة بعض الشيء.
“……هاه؟”
ما إن فتحتُ الرسالة حتّى ظهرت لي في الأعلى جملةٌ مكتوبة بخطّ عريض:
“نرفض إنهاء المهمّة بسبب ضعف التّحقيق وعدم كفاية الأدلة.”
هذا لم يكن مفاجئًا.
فقد رفعتُ تقريرًا يعتمد على مجرّد تخمينات، فكان من الطبيعي أن يُرفض.
لكن المشكلة لم تكن هنا.
كان هناك جزءٌ قصيرٌ أسفل ذلك، يتضمّن معلوماتٍ لم أكن أعرفها.
بمعنى آخر، شيفلين الآن…
“شيفلين قال إنّه رأى الهدف يستخدم قواه في ساحة القتال…؟”
وقد كُتب أيضًا أنّه قال إنّني سأفهم لو رأيت ‘البرميل’.
ثمّ أُضيف في الرسالة أن شيفلين لا يعرف الكثير غير ذلك، وطُلب منّي التّحقّق من التّفاصيل بنفسي.
“برميل، هه… أظنّني أذكر ذلك.”
ذلك المشهد الغريب الذي انحنى فيه النّاس وكأنّهم يلتقطون كنزًا ذهبيًّا داخل برميلٍ ما، لا يمكن نسيانه بسهولة.
لكن ما أزعجني هو أنّ ذلك حدث قبل نصف شهر، ما جعلني أتفاجأ حقًّا.
على الأرجح أنّ شيفلين نسي الأمر تمامًا ولم يبلّغ القائد إلا الآن.
والأكثر غرابة، هو أنّني كنتُ بجانبه حينها مباشرة، فلماذا لم يخبرني وقتها؟
حقًّا، كان عليّ أن أشدّ خدّه بقوّة أكبر.
“كيف لي أن أحقّق في الأمر بعد كلّ هذا الوقت؟”
لقد مضى نصف شهر، ومن المستحيل الآن العثور على ذلك البرميل.
“ولا يمكنني أن أذهب وأسأل الهدف: هل استخدمت قواك حينها؟ …هآه.”
لم يتبقَّ سوى خيارٍ واحد، وهو أن أذهب بنفسي إلى ساحة القتال، وأحاول العثور على من كان حاضرًا وقتها وأتحدّث معهم.
لقد تحدّثتُ معهم قليلًا حينها، لذا من الأفضل أن أتولّى التحقيق بنفسي بدلًا من شيفلين.
“أوه، صحيح… ألم آخذ إجازة قط، طوال هذه الفترة؟”
منذ لحظة دخولي إلى هذا القصر كخادمة، لم أفكّر يومًا في الإجازات.
أيّ إجازة؟ حياتي كلّها عمل في الميدان.
على أيّ حال، إن حصلتُ على إجازة، سأتمكّن من الخروج بحريّة، لذا عليّ أن أطلبها من ريس بذكاء.
فلا يمكنني أن أقول له إنّني ذاهبة للتحقيق في ساحة القتال، لذا عليّ أن أُعدّ عذرًا مقنعًا.
‘عذرٌ مألوف مثل أمور عائليّة أو ظروف منزلية سيصلح في كلّ مكان.’
سيستيقظ قريبًا، لذا من الأفضل أن أستغلّ خدمتي الصباحيّة وأفتح الحديث أثناءها.
سرعان ما غسلت وجهي ورتّبت مظهري، ثمّ توجّهتُ مباشرة إلى غرفة نوم ريس.
طرقت الباب، فأتى صوت من الداخل يأذن بالدخول.
حين فتحتُ الباب، رأيتُ ريس يجلس على الكرسي، بشعرٍ مبلّل ورداءٍ أبيض خفيف.
منذ اليوم الأوّل الذي أصبحتُ فيه خادمته الشخصيّة، وحين رأيتُ جسده العاري عن غير قصد، بات يستيقظ باكرًا ويُنهي حمّامه قبل وصولي.
لا أعلم لماذا…
“سيّدي، لقد استيقظت مبكرًا اليوم أيضًا.”
“همم، لديّ الكثير من الأعمال.”
أصبح تجفيف شعره هو أولى مهامي الصباحيّة الثابتة.
وحين تأكّدتُ أنّ شعره جفّ، اقتربتُ منه بهدوء، وبدأتُ بمساعدته في ارتداء ملابسه.
في الآونة الأخيرة، بات ريس يرتدي ما أختاره له دون تذمّر.
وجهه يتناسب مع أيّ شيء، وملابس غرفة تبديل الملابس كلّها من أفخر الأنواع، لذا لم أحتج للتفكير كثيرًا…
‘…لن أخبره أنّني أُلبسه أيّ شيءٍ عشوائي. على ما يبدو، هو راضٍ تمامًا.’
وضعتُ فوق ربطة العنق الرقيقة صديريًا مخمليًا بلون النيلي مطرّزًا بالخيوط الذهبية، وفوقه سترة سميكة بلون الأسود الداكن مع أزرار فضية، وعندها بدأ ريس يتحدّث بصوتٍ خافت يشوبه نعاس الصباح.
“كنتُ ألاحظ هذا منذ مدّة، لكنّكِ تملكين ذوقًا جيّدًا في اختيار الملابس. هل سبق لكِ أن اخترتِ ملابس لرجال من قبل؟”
هززتُ رأسي ببطء مجيبة:
“نعم، فعلتُ ذلك كثيرًا.”
المشكلة، كالمعتاد، كانت في البيئة.
رفاقي في <الوردة السوداء> كانوا يرتدون ما يقع تحت أيديهم، وكأنّهم اتفقوا جميعًا على ذلك، لذا كنتُ أختار لهم ملابسهم أحيانًا بدافع الانزعاج.
بطبيعة الحال، القتلة يرتدون الأسود في العادة، لذا لم يكن ذلك أمرًا متكرّرًا كثيرًا، وهذا ما خفّف عنّي بعض الإحراج.
لكن فجأة، بدا أنّ عيني ريس البنفسجيّتين تقلّصتا قليلًا، بشكلٍ رفيع.
مهلًا، لقد رأيتُ هذا التّعبير من قبل…
إنّه
يشبه وجه شيفلين حين أغضبُه وأضربه على رأسه…
“آه، كثيرًا إذن.”
ثمّ ابتسم ريس بابتسامةٍ غريبة وهي يردّ.
لماذا يبتسم فجأة هكذا؟
“هاها، نعم، كثيرًا فعلتُ ذلك!”
…على الأقل، فلأضحك معه.
ترجمة:لونا
واتباد:luna_58223
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 19"