3
“أمم…….”
حين عقدتُ العزم على أن أعيش وأشقَّ طريقي بنفسي، ساورني القلق من أن بقاءي على قيد الحياة قد يُربك مجرى القصة الأصلية، لكنني تساءلت: وما أهميّة الرواية أصلًا؟
وفوق ذلك، هل سيتغيّر محتوى الرواية حقًّا لمجرّد أن تعيش شخصيةٌ ثانويةٌ مثلي؟
وحتى لو تغيّر، فما المشكلة؟ يمكنني الانسحاب في الوقت المناسب، أليس كذلك؟
أن أعيش أنا هو الأهمّ.
لذلك، قبل كلّ شيء، لنتأكّد.
ترى، ما مدى براعة أولئك الصيادلة الذين رأيتهم في الرواية؟
“هيه، هناك.”
فتحت إيدِت الباب على مصراعيه وتقدّمت نحو الخادمات اللواتي كنّ يثرثرن.
فشهقن وأطبقن أفواههنّ، وأخذن يُدِرنَ أعينهنّ بتوتّر.
“آ، آنسة، هَلْ… هل تحتاجينَ إلى شيء؟”
“سمعتُ أن بيبي مريضة.”
“ماذا؟ أ، أسمعتِنا؟ ن، نعتذر! كنّا نتحدّث أثناء العمل…… ارتكبنا ذنبًا يستحقّ الموت!”
ارتمت الخادمات الشاحبات أرضًا.
لكن إيدِت لم تكن تريد محاسبتهنّ على ثرثرتهنّ.
“لستُ هنا لأوبّخكنّ بسبب الحديث.”
“إذًا، فـ…….”
“صيادلةُ حيّ الفقراء.”
أحضِروه.
“نعم؟”
“أريد أن أرى الصيدلاني أنا أيضًا.”
اتّسعت أعين الخادمات بدهشةٍ بالغة.
وبدا أنهنّ اعتقدن أنّ هذا عقابٌ على ما قلنَه، فعدنَ ينحنين أرضًا ويتوسّلن بصدق.
ليس هذا ما أعنيه.
راقبت إيدِت تصرّفهنّ لحظة، ثم قالت كأنها تزفر:
“إذًا، أريد أن أرى بيبي.”
كانت تريد أن تعرف لماذا مرضت بيبي التي سقطت فجأة، وأين موضع ألمها.
“نعم؟”
لكنهنّ ظللنَ عاجزاتٍ عن إخفاء ارتباكهنّ، فتبادلنَ النظرات قبل أن يُجِبنَ بحذر:
“إذًا س، سنُحضرها. ا، انتظري قليلًا…….”
“لا. بيبي هي المريضة، إذًا أنا من يجب أن يذهب.”
“آ، الآنسة بنفسها؟! الملحق الذي تقيم فيه الخادمات لم يُنظَّف بعد، وهو متّسخ. وفوق ذلك، لستِ ممّن يتحرّكون من أجل خادمةٍ فحسب. سنُحضرها.”
توالت كلماتهنّ بلا توقّف، وكأنّ الأمر مرفوضٌ تمامًا.
“همم، لا أريد.”
“آ، آنسة…….”
بدت الخادمات على وشك البكاء، لكن إيدِت أصرّت، وفي النهاية تلقّت منهنّ المرافقة.
“……ه، هنا هو.”
لم تمشِ طويلًا، لكن إيدِت كانت قد تعبت قليلًا بالفعل.
فقد كانت لياقتها ضعيفةً جدًّا، حتى إنّ المشي وحده يُرهقها.
“هوو…….”
ما إن دخلت إيدِت الغرفة التي تقيم فيها بيبي حتى رأت فتاةً مستلقيةً على السرير، تبدو عليها أمارات المرض.
“قيل إنّها سقطت فجأة؟”
“نعم…….”
“ما الأعراض؟”
“الحمّى شديدةٌ نوعًا ما، ويبدو أنّ لديها آلامًا في العضلات. وأحيانًا تصاب بإسهالٍ وتقيّؤ، فتظلّ تدخل الحمّام وتخرج منه، حتى إنّ آنا اشتكت من أنها لم تنم طوال الليل بسبب أنينها. آنا هي رفيقةُ غرفة بيبي.”
قالوا إنها خادمةٌ تعمل في المطبخ، أليس كذلك؟
“ربما أكلت شيئًا فاسدًا؟”
“……لكنّنا نحن بخير، أليس كذلك؟ لقد فُحِصَت المكوّنات بالفعل، وقالوا إنه لا مشكلة فيها.”
ضيّقت إيدِت عينيها.
هي ليست طبيبةً، فلا يمكنها أن تعرف مجرّد النظر، لكن…
لسببٍ ما، بدت الأعراض شبيهةً بما أصابها في حياتها السابقة عندما تسمّمتُ بالطعام.
لا يمكنها الجزم، لكن من كثرة دخولها الحمّام وخروجها، خطر ببالها أنّه ربما يكون التهابَ أمعاء.
“لكنّها رفضت الصيدلاني بنفسها؟”
“على ما يبدو، صورةُ الصيادلة سيّئةٌ جدًّا. يقولون إنهم يعيدون الأموات إلى الحياة بقوى شريرة. لا بدّ أنهم يمارسون سحرًا أسود.”
قوى شريرة؟
إحياء الموتى أمرٌ يبدو مستحيلًا حتى لو جاء أعظم الأطبّاء، فربما أنقذوا إنسانًا كان على وشك الموت لا أكثر.
وبسبب سوء سمعة الصيادلة، يبدو أنّ شائعاتٍ لا تُصدَّق قد التصقت بهم.
“إذًا، ماذا تفعلنَ أنتنّ إذا مرضتنّ؟”
“……نصبر. إن نجونا نشكر الله لأنه اعتنى بنا، وإن ساءت الأمور، فلا يسعنا إلا أن نقول إنه نصيبنا.”
هاه.
هذا كلّ شيء؟
قبل أن تستعيد ذكرياتها، لم تكن تعرف كثيرًا عن حياة من هم دونها.
لم تكن سيّئةً معهم، لكنها أيضًا لم تُعرهم اهتمامًا كبيرًا.
فجسدها كان مريضًا، ولم يكن لديها متّسعٌ للاهتمام بغيرها، وكانت تظنّ بطبيعتها أنّ الجميع يستطيعون تلقّي القوّة المقدّسة إذا مرضوا.
لأنها كانت تتلقّاها بلا عناء.
لكن هذا عالمُ عصورٍ وسطى.
في نظام الطبقات، لا يوجد شيءٌ بديهيّ.
“أن يموت المرء لأنه لم يتلقَّ القوّة المقدّسة، فهذا نصيبه…….”
“آنسة؟”
أليس هذا كثيرًا بعض الشيء؟
“أريدُ أن تتلقّى بيبي علاجًا.”
“نعم؟ هل ستستدعينَ الكهنة لها؟”
تلألأ بصيصُ أملٍ في عيني الخادمات.
“لا.”
“……إذًا، أيُّ علاج……؟ ل، لا تقولي…….”
“قلتُ ذلك قبل قليل. أحضِروا صيدلانيًّا.”
تبادلت الخادمتان النظرات، وكأنهما تفكّران إن كان هذا هو وقت الاعتذار مجدّدًا.
لكن إيدِت أمسكت بهما قبل أن تنحنيا بتردّد.
“لا أعاقبكنّ لأنكنّ تثرثرتن.”
“هل أنتِ جادّة؟ حقًّا تريدين أن يعالج الصيدلاني بيبي؟”
لماذا تفعلينَ ذلك أصلًا……؟
كان عدم التصديق واضحًا على وجهيهما.
لكن لم تكن لديها أيّة نيّةٍ سيّئة تجاه بيبي.
أرادت فقط أن تتأكّد أيُّ نوعٍ من الناس هم الصيادلة.
وإن تحسّنت حالةُ بيبي، فكّرتْ أن تطلب مساعدتهم لنفسها أيضًا.
“……سيكون الأمر سرًّا عن والديّ.”
همست إيدِت بذلك، فازداد شحوبُ الخادمتين أكثر من ذي قبل.
“نحن الآن شركاء في الجريمة.”
“ماذاا؟!”
“إن لم تحضراه، فلن أترككنّ وشأنكنّ.”
“آ، آنسة…….”
في الحقيقة كانت ستتركهنّ، لكن الخادمات هززنَ رؤوسهنّ بوجوهٍ باكية، خوفًا من أن يُفصلن من العمل.
يبدو أنهنّ فضّلن أن يصبحنَ شركاء على أن يُطرَدن ويضيع مصدر رزقهنّ.
—
بعد أن قالت لهنّ أن يبحثنَ عن صيدلانيٍّ مناسب ويأتينَ به، عاودت إيدِت المرض من جديد.
“سُرِرتُ برؤيتكِ بعد طول غياب، يا آنسة إيدِت.”
“نعم…….”
كان اليوم أحد الأيّام التي يزور فيها الكاهن دوريًّا.
بعد نوبة الحمّى الشديدة في المرّة الماضية، قيل إن القوّة المقدّسة لم تعد تجدي، لكن والديها لم يستسلما، فطلبا زيارة الكهنة اليوم أيضًا.
“كيف حال جسدكِ؟”
“……بخير.”
ربما لأنها أرهقت نفسها بالذهاب لرؤية بيبي، فقد ارتفعت حرارتها مرّةً أخرى وعمّت الفوضى.
والآن بالكاد أصبحت أفضل قليلًا، لكن حالتها لم تكن جيّدة.
يا لهذا الجسد الضعيف البائس.
أجابت إيدِت كأنها تزفر.
“هذا مطمئنّ. في المرّة الماضية ارتفعت حرارتكِ كثيرًا فقلقنا عليكِ.”
“أهذا كذلك.”
في الحقيقة، كانت للقوّة المقدّسة خدعةٌ خفيّة.
فرغم أنها امتيازٌ يكاد يقتصر على النبلاء، إلا أنّ كون المرء نبيلًا لا يعني بالضرورة أنّه يستطيع تلقّيها إلى الأبد.
فلكلّ إنسان عددٌ محدّد من المرّات التي يمكنه فيها تقبّل القوّة المقدّسة.
يختلف هذا العدد من شخصٍ لآخر؛ فبعضهم مرّةٌ واحدة فقط، وبعضهم قد يتلقّاها طوال حياته وتظلّ فعّالة، وإن كان هذا نادرًا.
ولذلك، فإن كون إيدِت قد تلقّت القوّة المقدّسة منذ ولادتها إلى الآن بلا مشكلة كان أمرًا استثنائيًّا إلى حدٍّ ما.
حتى إنّ الكهنة قالوا عند رؤيتها إنها ربما تمتلك مؤهّلاتٍ لتصبح كاهنة.
وبالفعل عُرِض عليها أن تصبح كاهنةً من قبل.
فأن تصبح كاهنًا أمرٌ صعب، وعادةً ما يعدّه النبلاء شرفًا عظيمًا إذا تلقّوا هذا العرض.
لكن المشكلة أنّ جسد إيدِت الضعيف لا يحتمل الواجبات الأسبوعية التي يجب على الكاهن أداؤها.
“أمم.”
على أيّ حال، وبعد تبادلٍ قصيرٍ للحديث كالمعتاد، انهمرت القوّة المقدّسة فوق جسد إيدِت.
لكن اليوم كان مختلفًا.
لم تشعر إطلاقًا بأن القوّة المقدّسة تُمتصّ.
في العادة كانت تشعر بخفّةٍ في جسدها بعد تلقّيها، أمّا اليوم فلم يكن هناك شيء.
بدا الكاهن في حيرةٍ شديدة.
وكان لإيدِت سابقةٌ عاد فيها الكهنة لأن القوّة المقدّسة لم تُجدِ معها.
ولم يكن هناك ما يضمن أن تكون هذه المرّة مختلفة.
“لقد وقع ما كنّا نخشاه. يا إيدِت، يبدو أنّ عدد مرّات تقبّلكِ للقوّة المقدّسة قد انتهى.”
وهكذا تلقّت إيدِت حكمًا بالموت المؤجَّل.
“لم نعد نستطيع استعادة صحّة الآنسة بقوّة الشفاء.”
بالنسبة للنبلاء الذين يعتمدون على القوّة المقدّسة في كلّ علاج، كان هذا الجواب بمثابة حكمٍ بالإعدام.
أي إنّ الأيام الباقية لإيدِت في هذه الحياة لم تعد كثيرة.
“س، سادتي الكهنة، ماذا تقصدون بذلك؟ لا يمكن الشفاء؟!”
كان من الطبيعي أن ينهار والداها وكأنّ السماء قد سقطت فوق رأسيهما حين سمعا ذلك.
“نعتذر. كلّ هذا بسبب قصور قدرتنا.”
“أوه…….”
ومع ذلك، أبدت إيدِت دهشةً هادئة فحسب.
التعليقات لهذا الفصل " 3"